تلازمني قناعة (حقيقية) بأن الخبير الاستراتيجي الرائد يونس (لواء اركانحرب الآن) ، لا يزال يشكل منبت الحكمة، ومصدر النصيحة التي تعمل بها حكومة الانقاذ ، فقد سبق للانقاذ أن استلهمت من حديث الرائد يونس موقفها الداعم لصدام حسين في غزوه للكويت، حين جابت جماهير الانقاذ شوارع الخرطوم وهي تهتف بما قال به يونس (أضرب أضرب يا صدام من الاهرام الى الدمام) ، ولم تتوقف الجماهيرعن الهتاف الاٌ بعد التقاط صدام حسين من الحفرة الرئاسية التي كان يختبئ فيها أسد العرب ، وشاهدت جنوده وهم يلقون بأسلحتهم ويستبدلون ملابسهم العسكرية بما تحتها من سراويل بيضاء وهم يبحثون عن ملاذ آمن وسط المواطنين. حكومة الانقاذ الوطني في ردها على عدوان الحركة الشعبية – وهو بلا شك عدوان - ، لم تبتعد كثيراً عن منهج تفكير الرائد يونس، اذ قامت الحكومة وخلال ساعات معدودة بنشر عدد ضخم من الجنود بمساندة (15) دبابة وغطاء من الطيران الحربي، وتمكنت من السيطرة على مدينة أبيي ، واحتفت بصلاة جنودها لفريضة المغرب بساحتها العامة قبل زوال الليلة التالية للعدوان. لقد أخطأت الحركة الشعبية – ولا شك - في الهجوم على القافلة العسكرية، ولكنها، في ذات الوقت، استفادت من خطئها وستجني ثماره التي اهدتها اليها حكومة الانقاذ، بسبب تريث الحركة الشعبية في معالجة تبعات المشكلة في مقابل رعونة الموقف الحكومي، حيث استطاعت الحركة أن تدفع بالمجتمع الدولي ومجلس الامن للقيام بمهمة الدفاع عنها فيما انصرفت هي الى ترتيب احتفالات الانفصال . السرعة التي عاجلت بها حكومة الانقاذ في السيطرة على مدينة ابيي، وفٌرت مناخاً ملائماً للحركة الشعبية لأن تدفع في مواجهتها – بالحق أو بالباطل - ب(نظرية المؤامرة) ، والزعم بأن الانقاذ هي التي (دبٌرت) الهجوم لاتخاذه ذريعة للانقضاض على مدينة أبيي، وقد قدمت الانقاذ الادلة ضد نفسها في طبق من ذهب ، والتي يمكن تلخيصها في التالي: أولاً : أن القوات المسلحة لم يكن في مقدورها تحريك الدبابات والآليات العسكرية التي استخدمتها في السيطرة على المنطقة خلال بضع ساعات من (الحدث)، الا اذا كانت الدبابات الحكومية من طراز (ليلى علوي)، فالمعروف أن الوصول لمدينة أبيي يتطلب عبور مناطق وعرة عبر طرق غير معبدة تستغرق – في مثل هذا الوقت من العام – مسيرة أيام من أقرب مركز امداد عسكري في جنوب كردفان . ثانياً : في خطاب (الحرب والعمائم) الذي ألقاه قبل اسابيع قليلة أمام الحشد الجماهيري بمدينة المجلد ذكر البشير أن (أبيي شمالية وستظل شمالية الى الأبد) وهو ذات الخطاب الذي ذكر فيه (ان ولعت الحرب فسوف يظهر الكاكي وتختفي العمائم) ، فمثل هذا القول الفصل يؤكد انعدام النية لدى حكومة الانقاذ في الالتزام بقرار التحكيم الصادر من محكمة العدل الدولية والذي قبلت به مرتين، مرة عند الموافقة على احالة النزاع للتحكيم ، اذ تضمنت مشارطة التحكيم (وفق ما هو متبع) تعهد أطرافه بالالتزام وتنفيذ نتائجه ، ومرة أخرى بعد صدور القرار الذي منحت بموجبه حكومة الشمال مناطق واسعة في القطاع الشمالي لمنطقة أبيي. ثالثاً : وفوق ذلك، يؤكد قرار الرئيس عمر البشير بحل مجلس منطقة أبيي وعزل رئيس المجلس الاداري للمنطقة ونائبه ورؤساء الادرارت الخمسة بأن ما تضمره نية الخرطوم يتجاوز كثيراً متطلبات رد العدوان العسكري الى سياسة فرض الأمر الواقع. رابعاً : وقد كان للسيد ابراهيم الطاهر ومجلسه الوطني أيضاً نصيب ، ففي الجلسة التي عقدها في حضور السيد عبدالرحيم حسين ، (بارك) البرلمان سيطرة الجيش على مدينة أبيي ، ووصف ذلك بأنه (اجراء قانوني وفق الدستور واتفاقية السلام). هذه الأسباب – أو بعضها – جعلت من اليسير تقبل المجتمع الدولي ل (نظرية المؤامرة) التي تقول بها الحركة الشعبية ، فقبل أن تنقضي عطلة نهاية الاسبوع اعلنت كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا عن ادانتهم للاكتساح الحكومي لمدينة أبيي، ثم أعقب ذلك صدور بيان مجلس الأمن الذي جاء فيه : " أن العمليات العسكرية للجيش السوداني وحل الوحدة الادارية لأبيي تشكل خرقاً خطيراً لاتفاقية السلام" ثم أردف البيان ذلك بمطالبة الجيش السوداني بالانسحاب (فوراً) من مدينة أبيي. وتمضي عقلية (الرائد يونس) في ادارة الأزمة، ففي الوقت الذي كان من المؤمل أن يقوم مجلس الأمن بالتباحث مع الحكومة حول تنفيذ ما تبقى من اتفاقية السلام ومناقشة أحداث أبيي ، أصدر الرئيس عمر البشير تعليماته بمنع نائبه علي عثمان ووزير الخارجية علي كرتي وسائر المسئولين الحكوميين من مقابلة وفد مجلس الأمن بدعوى امتناع الوفد من مقابلة الرئيس على خلفية ملف محكمة الجنايات الدولية، وقد عبر مجلس الأمن عن هذا الموقف بقوله: " لقد فقد السودان فرصة عظيمة لبيان وجهة نظره للمجلس". من الواضح أن قبيلة المسيرية قد بدأت تدرك أخيراً أنها ستدفع – لوحدها – ثمن مواقف حكومة الانقاذ في ادارة ملف قضية أبيي، اذ وجدت القبيلة نفسها في مرمى التعبير المستهلك (بين المطرقة والسندان) ، فقلبها – لسبب يعلمه الله وحده - مع المؤتمر الوطني ، ومضارب رزقها في يد الحركة الشعبية، فالواقع يقول بأن أبقار المسيرية (حوالي 10 مليون رأس) سوف تتعرض للهلاك خلال عام واحد – جوعاً وعطشاً - اذا لم تفتح أمامها مسارات الرعي التي تتمدد جنوباً مع حلول فصل الجفاف في كل عام حتى تبلغ عمق ولايات الوحدة و(واراب) وبحر الغزال، فأبقار المسيرية ليست كأبقار مزرعة الوالي عبدالرحمن الخضر وصنوه المتعافي التي يمكن أن تستتقي وتستعلف حتى لو من (عفراء مول) ، ففي وقت سابق قال السيد بشتنة محمد سالم القيادي بقبيلة المسيرية : " لا بد للرعاة من أبناء المسيرية أن يتحركوا الى أبيي ومنها الى ولاية (واراب)، لأن مصادر المياه عندنا قد نضبت تماماً وسوف تهلك أبقارنا اذا لم نتحرك جنوباً (جريدة الصحافة 6/3/2011) " السيد / بشتنه محمد سالم ، عبٌرعن هذا الموقف الحائر الذي تعيشه قبيلته فور خروجه من الاجتماع الذي ضم ممثلي قبيلته بأعضاء مجلس الأمن في الخرطوم حين قال: " مجلس الأمن استفسرنا عمٌا يحدث في أبيي وقلنا لهم بأننا لسنا طرفاً فيما يدور بين القوات المسلحة والحركة الشعبية" . ثم مضى يقول : " أوضحنا للمجلس بأننا نرفض قرار محكمة لاهاي فهو قرار سياسي ومضر بمصالح المسيرية ، وأخبرناهم بأننا لم نكن جزءاً من تلك المحكمة " ومثل هذا القول كان أولى أن يدفع به بشتنة في وجه مواطنه الدرديري محمد أحمد لا في طاولة الخواجات الذين لا يملكون حياله حتى فضل التعليق عليه . لقد آن الأوان لحكومة الانقاذ أن تدرك أن الطريق الذي تسير فيه سوف ينتهي بها – لا محالة - الى مواجهة عسكرية لن تستطيع الصمود أمامها طويلاً الاً بالهتاف والنعيق، فالحروب التي باتت تجري وقائعها في البث المباشر على شاشات التلفزيون، كشفت أن فتاة في مقتبل عمرها تستطيع أن تقوم بتدمير مائة دبابة (تي 55) في ربع ساعة بضغطة رقيقة من سبابتها اليسرى دون أن تخطئ هدف واحد ، و دون أن يتمكن الجنود على الأرض من مشاهدة طائرتها أو سماع أزيزها. ولو كان مثل هذا المصير الاسود الذي تسعى اليه الانقاذ بظلفها يطالها وحدها ، لما أسفنا عليها، ولكن من يدفع ثمن هذه الحماقة وسوء التقدير هم أهلنا ونساؤنا وأطفالنا ، أما البشير، صاحب (الكاكي) – اذا وقعت الواقعة – فسوف يمضي الى حيث يجيد الاختباء، فليس منزل الطيب النص في العيلفون ببعيد. [email protected]