ستظل جامعة الخرطوم أم الجامعات السودانية. وأهم قلاع العلم فيه. وهذا مقامٌ اكتسبته بتاريخٍ طويلٍ من التميز, والتأثير على مختلف نواحي الحياة في السودان. وقد تجاوز تأثيرها حدود البلاد إلى الخارج من خلال خريجيها الذين رفعوا اسم السودان في كل أقطار الأرض. وما تذكر (الجامعة) في السودان إلا قفزت للذهن جامعة الخرطوم. فأصبح هذا الاسم علماً لها.إذ لا تزال إلى الآن قبلةً لأذكى طلاب السودان, من أوائل الشهادة السودانية. وما زال لخريجيها بريقٌ خاص وسحرٌ يميزهم عن غيرهم من خريجي الجامعات الأخرى. وما ذاك إلا عبق من تاريخها التالد وحاضرها المشرف , الذي ساهم في تشييده آلافٌ من خيرة أبناء السودان, في مختلف الأجيال. نذكر هذا وفي ذهننا جامعة الخرطوم أساتذةً وموظفين وطلابا. فلكلٍ من هذه المجموعات الثلاث تفرده وسبقه في مجاله وتخصصه. لن نتحدث عن طلابها الذين هم خريجوها لاحقاً, فقد أشرنا بلطفٍ إلى أثرهم في السودان وخارجه فيما سبق من سطور. وعنينا أن نركز في المجموعتين الأوليين, أساتذةً وموظفين. فأستاذ جامعة الخرطوم ليس كأي أستاذٍ في جامعةٍ أخرى. فهو محل خبراتٍ تراكمت خلال ما ينيف على قرنٍ من الزمان, هي عمر الجامعة منذ أن كانت كليةً تذكاريةً لتخليد غردون باشا حاكم عام السودان الأنجليزي. وأصبح أساتذتها أعلاماً ومناراتٍ ورموزاً لأمة السودان. وتكفي الإشارة إلى زعيم الاستقلال الأستاذ إسماعيل الأزهري, أستاذ الرياضيات بكلية غردون التذكارية. أما خارج السودان فأساتذة الجامعة نجومٌ زاهرة في المؤتمرات والمحافل العلمية والجامعات. وقد حكى لي أحد أساتذة الجامعة : أنه ذهب إلى الدولة الآسيوية القصية لنيل درجة الدكتوراة في إحدى جامعاتها. فكان يعد مادة البحث بالطريقة التي درسها في جامعة الخرطوم على يد أحد أساتذتها, ولكن أستاذه المشرف لم يعهد تلك الطريقة, فكان المشرف يرده إلى الطريقة التي يعرفها. فلما تكرر الأخذ والرد بين الطالب والأستاذ المشرف سأله المشرف بضيق ونفاد صبر: - من أين تعلمت هذه الطريقة التي تصر عليها؟ - من البروفيسير هاشم محمد الهادي. - برف هاشم أستاذ جامعة الخرطوم؟ - بلى. - ذلك أستاذنا جميعاً، وحجتنا في هذا العلم. فسر على طريقته. حكى الأستاذ عن هزة الفخر والاعتزاز التي اعترته في تلك اللحظة.وكم ساعده تتلمذه على برف هاشم في إنجاز الرسالة كأحسن ما يكون. وأدرك حقاً المقام الرفيع لأساتذة الجامعة. فهذه منزلتهم في نظر زملائهم في العالم. ولا معيار هناك سوى العلم الحقيقي في صدور الرجال. فهل قدرنا نحن في السودان هذا العلم حق قدره, وقد علمنا دوره في بناء ورقي الأمم؟ لا يظنن أحد أننا نعني بالتقدير الشكر والثناء, والأوسمة والأنواط, فهي بالرغم من أهميتها لا تتجاوز الأثر اللحظي في رفع المعنويات وحشد الهمم. ما أعنيه هو رفد البحث العلمي. والصرف عليه دون تردد أو خوف. بتطوير بيئته وترقيتها. وتهيئة الأجواء المحفزة عليه. والإعداد الجيد للأساتذة لمواكبة التطور في تقنيات التعليم. وتوفير الحد المعقول من مقومات الحياة الكريمة للأساتذة, ليتفرغوا لأداء رسالتهم السامية في تعليم الأجيال. وحتى تتوقف هجرتهم للخارج طلباً للمقومات الضرورية للحياة من مسكن ومأكل وملبس. وحتى لا تخسر بلادنا كل ما دفعته خلال عقودٍ إعداداً للأستاذ. والجانب الآخر الذي نلمسه هنا هو موضوع إدارة الجامعة. ويعنى بالموظفين بالهيكل الإداري. والإدارة الآن أصبحت مناط اهتمام العالم, ليست كعلم فحسب, ولكن كممارسة وتطبيق. وهو ما يعوز العالم الثالث الذي نحن للأسف جزءٌ منه. والفشل في إدارة شئوننا هو القبو الذي لم نستطع الخروج منه منذ الاستقلال, رغم توفر الموارد الغنية. وهذا ما يزيد الفشل هولاً. فلابد للنظر إلى نمط الإدارة المتبع في الجامعة كنموذج يحتذى في السودان. ودليلنا الملموس على صواب ذلك أن تأسيس الجامعات الجديدة قام على موظفي الجامعة وبعض الأساتذة. إذ بها كوادر إدارية مؤهلة. بتجارب وخبرات منقولة جيلاً عن جيل. وللأسف توقف ابتعاث الموظفين للتدريب الخارجي الذي كان سنةً في السابق. والهيكل الإداري للجامعة بخبرته المعتقة يتعرض أيضاً لنزيفٍ مستمر, مشابهٌ للذي تتعرض له هيئة التدريس. هذا إلى جانب تعرضه لظروف داخلية خاصة بالجامعة, أدت إلى تهميش دوره . وانتزاع مواقعه المهمة وتخصيصها للأساتذة. ومعظم هؤلاء لا علاقة لهم بالإدارة. وإن يكن بعضهم من أساتذة الإدارة وهم قلة فشتان ما بين النظرية والتطبيق. خاصةً أن معظمهم لم يتلق تدريباً, شأن الموظف الذي يتدرب عليها من الخبراء المتخصصين فيها دراسةً وتطبيقا. وتحضرني هنا واقعةٌ لأحد الأساتذة الراسخين في تخصصهم الأكاديمي, إذ وضع في موقعٍ إداريٍ خطير, فداعبه أحد زملائه متسائلاً عن علاقته بالإدارة. فما كان من الرجل إلا أن تلقى دورةً تدريبيةً لأسبوعين في الإدارة. وتحصل على شهادةٍ وضعها في إطارٍ مذهبٍ ضخم في صدر مكتبه. وهذا ما جعل الهيكل الإداري في الجامعة تابعاً لهيئة التدريس, وليس موازياً له. وهذا خللٌ لعمري خطير. وحسناً فعل مدير الجامعة الأسبق البروفيسير محمد أحمد علي الشيخ بإصداره نظاماً أساسياً عرف بنظام (اللامركزية). أعاد بموجبه الاعتبار لموظفي الجامعة. وأرجع إليهم الوظائف الإدارية بما فيها الوظائف العليا، والتي حرموا منها ردحاً من الزمان. فأصبح عضو هيئة التدريس متفرغاً لتعليم الطلاب, مركزاً على رسالته الأولى وهي التدريس. فلا يتقلد إلا الوظائف ذات الصلة بالأكاديميات, والتي تتعلق بالتخصص. وتأكيداً لصواب ذلك نشير إلى مقالٍ لنا سابق (منشور في بعض المواقع الإلكترونية والصحف) بعنوان (لحظات مع عالم سوداني). ورد فيه ما ذكره البروفيسير محمد عوض صالح مدير جامعة القضارف, أن مشروع الأممالمتحدة المعروف ب (الفاو) في سبعينيات القرن الماضي أراد للسودان أن يكون سلة غذاء العالم. فأعد لذلك الإمكانات اللازمة,منها تأهيل أساتذة وخريجي كلية الزراعة. فتدربوا في تخصصاتهم المختلفة وحملوا أرفع الدرجات العلمية. وتهيأوا لقيادة ثورةٍ زراعيةٍ في السودان تقوده إلى صدارة العالم فيها, ولكن الحكومة وقتها أخذت تلك الكوادر المؤهلة لغرض معين ووضعتها في غير محلها. إذ قلدتها مواقع إدارية في الدولة ... انتهى. ولا شك أن الخسارة تتضاعف عند استخدام شخص في غير ما أهل له. أولاً يفتقده الموقع المعد له. ثانياً تذهب طاقاته أدراج الرياح في الموقع الجديد الذي لا خبرة له فيه. ولا أرى أكثر خطلاُ من الرأي الذي يقول أن بعض الكوادر تصلح لكل الوظائف. فنحن في عصر التخصص . إذ أن فروع العلم تضخمت حتى أصبحت في ذاتها أصولاً لفروعٍ ضخمة يفنى العمر في تقصيها ولا تفنى. وتظل جامعة الخرطوم منارةً تقود أمة السودان في مختلف ضروب الحياة. وقدوةً يحتذى بها في إدارة الدولة. وكل دعائنا بالتوفيق لأدارة الجامعة الجديدة بقيادة البروفيسير الشيخ صديق الشيخ حياتي للسير في ترسيخ ما اختطته الإدارة الأسبق وإتمام ما تدأته, وهو درب جد طويلٌ وشاق, لكن فيه خير الجامعة وصلاحها.