www.nihal.org عندما تقف في منتصف مدينة فيننا الساحرة وتستلهمك نسماتها الدانوبية، تجد في ركن بديع من أركانها يافطة تنتظرك وكأنها حبيبتك المشتاقة على موعد معك. كروس أوفر مطعم راقي من صنع مختار محمد تابر، سوداني من قرية فرقت، شرق مدينة أمروابة. المدهش في الأمر أن هذا المبدع السوداني قد تعلم صنعة الطهي ومن قبلها مهنة علوم الآثار في قلب العاصمة الساحرة. كتبت الأقدار أن يلتقى أسرة نمساوية في فترة وجوده بالقاهرة، دعته إلى زيارتها. وكم كانت مفاجئته أن وقع في دباديب هذه اللوحة المجدلية في شكل المدينة. لم تخطر بباله فكرة الطهي وفتح مطعم للمأكولات السودانية والنمساوية أبدا. لكنه بدأ المشوار، كحال كل الطلاب، بمشروع للتحضير في كلية الدراسات الفرعونية بجامعة فينا المرموقة. درس اللغة الألمانية ويجديها وكما أضطر لدراسة اللاتينية والإغريقية لما لهما من أهمية في دراسات التاريخ القديم. زرته وكنت في دعوة من بيت السودان بفيينا لتقديم محاضرة وكم سعدت للاحتفاء والحفاوة الجمة منه، ومن زملائي هناك، على رأسهم كبيرهم الذي علمهم (سحر) الكرم، الأستاذ عبدالله الشريف والدكتور مكي البدري. لكن إن تساءلنا كيف وصلت به الفكرة لفتح مطعم؟ كان المايسترو مختار قد أنفق 5 سنوات في دراسة الهيروغليفيات والفرعونيات إلى أن "تهرغلف وتفرعن" به الأمر وبلغ به سيل الآثار الزبي، فقال: يلله بلا آثار بلا هم! وكانت هذه جرأه يحسد عليها، إذ أنه أوقف عجلات الزمن رافضا لمهنة لم تمس بقلبه وترا ولم يعرف أذا ما كانت جديرة بأن تكفل له في فيننا أكل عيشه. على كل جمعنا حالنا وذهبنا إليه ووجدناه غارقا بين اللمسات الساحرة في الطهي الرويلي. يعني هنا لا تجد لمصطلحات "كل خمسة في صحن" مكانا. وجدناه ينمق الوجبات والأكلات بسحر بديع، وكيف لا وهو محترف للمهنة. تبدوا لك "السلائط" وكأنها بستان بديع تنظر منه بعض الزهيرات مناشدة هلمّ! لقد نجح المايسترو مختار بعد أن أغرق السنين الطويلة في غسل الصحون وفي الأعمال الهامشية، لكن كل تلك الدرجات كانت حافزا له لأن يستقل بنفسه. أذ أنه تعلم سرّ المهنة في المطاعم القديمة التي عمل بها وأجاد إلى أن رُقِيّ لدرجة طباخ. ومن ثم صقل الخبرة بالدراسة. المايسترو مختار تابر بدون أدنى شك مبدع سوداني في قلب النمسا. فهو مفخرة لنا إذ نعتز به، لأنه صمد بعزيمة لا تتزعزع عندما قوبل في بادئ الأمر ببعض المشاكسات العنصرية لكونه أسود. قالت لي زوجته: الجيران يقولون: هنا يطبخ رجل أسود! لكن البعض تجرأوا دخول المطعم وبدأوا معاشرة هذا الرجل وتذوقوا أكلاته ولماسته التي هي مزيج من الطهي السوداني ومن المأكولات النمساوية والشرقية. كروس أوفر بحق وحقيقة. برافو وإلى مزيد من النجاحات فزبائنكن خلفوا لك بالشبكة العنكبوتية من المدح والثناء ما تحسد عليه.