شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من هايدغر إلى أفلاطون- نحو مجاوزة عكسية عبد الرحيم الوالي

ثمة نظرة سائدة إلى نشأة الفلسفة و تاريخها قوامها أن الفلسفة وليدة "الاندهاش". و بفعل انتشارها بين هواة الفلسفة، و خاصة بين المتشدقين بها، لم تعد هذه النظرة في حاجة إلى الاحتجاب و التخفي بين السطور، و إنما أضحت تشكل عنواناً لتاريخ الفلسفة برمته(1).
بمقتضى هذا التفسير، لم تكن الفلسفة، و لن تكون، إلا فعلاً من أفعال الانبهار ينطلق من الذات المتفلسفة و يرتد إليها في حركة سيزيفية لا تنتهي. و على ذات الأساس فهي لا تعدو كونها حلقة مفرغة تبدأ ب"الاندهاش" و تنتهي إليه، و من تمَّ تنتفي كل حاجة عملية إليها لأنها لن تكون في أحسن الأحوال إلا ترفاً ذهنياً زائداَ يمارسه أناس يقتلهم الفراغ فيلجؤون إلى قتل الفراغ بطرح أسئلة فارغة، أغلبُها يظل دون جواب.
هذه النظرة إلى الفلسفة و تاريخها لا تعنينا هنا إلا باعتبارها كما سيتبين من خلال أبحاث سننشرها لاحقا أمراً مثيراً للضحك و باعثاً على السخرية. و لأن كل الإنتاج الفلسفي الذي وصلنا من زمن ما قبل أفلاطون لا يتعدى بضع صفحات، فإن بحثنا ينطلق من اللحظة الأفلاطونية من حيث هي لحظة نشأة الفلسفة النظامية، أو الميتافيزيقا النظامية كما سنسميها لاحقاً، ليتوقف بشكل رئيسي عند لحظات فلسفية ثلاث ضمن الفلسفة الحديثة و المعاصرة: اللحظة الكانطية، و اللحظة الهيجيلية، و اللحظة الهايدغرية.
نتوقف عند كانط من حيث فلسفته النقدية تشكل أولى محاولات العصر الفلسفي الحديث لتخطي الأفلاطونية باقتراح الإستطيقا، بالمعنى الكانطي، بديلاً للميتافيزيقا. و نتوقف عند هيجل باعتبار الهيجيلية أولى محاولات العصر الفلسفي الحديث لنقض واحد من أهم الأسس التي قامت عليها المعقولية الأفلاطونية، أي مبدأ الهوية. و نتوقف عند هايدغر من حيث أن الهايدغرية، في سعيها الحثيث إلى تخطي الأفلاطونية، تنتهي إلى العكس من ذلك تماماً، أي إلى ترسيخ القبضة الأفلاطونية على كل سؤال فلسفي ممكن.
لقد وجه ماركس ذات يوم نقده اللاذع إلى الهيجيليين الجدد متهما إياهم بأن كل واحد منهم يكتفي بعزل عنصر من النسق الهيجيلي و تحويله إلى "نقد" للنسق إياه(2). و نستطيع منذ الآن أن نقول بأن الكانطية و الهيجيلية و الهايدغرية فعلت نفس الشيء حيال الأفلاطونية حتى صارت معاداة الأفلاطونية موضة فلسفية يتم التبجح بها بعلم و بدونه، و صارت مقابل ذلك كلُّ محاولة لتقديم الأفلاطونية كفلسفة للراهن أشبه بالرقص أمام الأعمى؛ و غدا أول سؤال يُوَاجَه به كل مَن يبذل أدنى محاولة في هذا المنحى هو: ما علاقة الأفلاطونية بالراهن الإنساني؟ أليست الأفلاطونية محضَ منظومة من المفاهيم و المُثُل المفارقة للواقع؟
التصدي لسؤال كهذا يبدأ أولاً من نقض الأساس الذي يقوم عليه. ذلك أنه سؤال ينطلق من الافتراض المسبق بأن الأفلاطونية نسق من "المفاهيم" و "المثل" المفارقة للواقع. و بهذا فهو ينطلق من خلط فظيع بين نظرية المثل و نظرية العالم الأخروي (Eschatologie) عند أفلاطون. فالمُثُل في المنظور الأفلاطوني ليست سوى " عالم المعقولات"(Le monde intelligible). و هي، خلافاً للعالم الأخروي، لا توجد أي وجود مفارق، ناهيك عن كون "العالم الأخروي" نفسِه عند أفلاطون يحتفظ بكثير من نقاط الالتقاء و التواصل مع الواقع و ليس مفارقاً له بالمطلق.
هذه النظرة لم تقد فقط إلى اعتبار الأفلاطونية فلسفة منفصلة عن الواقع و "منتهية الصلاحية"، و إنما هي أدت إلى تعميم هذا الحكم على الفلسفة برمتها. و حتى أكثر الفلسفات مادية، مثل الماركسية، ما فتئت تُنعَت بأنها فلسفة غير واقعية، أو حتى أنها طوباوية. و هو ما أدى في النهاية إلى عزل الفلسفة عن كل مشاركة في الحياة العامة، و إبعاد الفلاسفة عن اتخاذ القرار في كل ما يتصل بالشأن العام، رغم أن الأسئلة الأولى، و الأولية، التي طرحتها الفلسفة النظامية مع اللحظة الأفلاطونية، كانت أسئلة حياة عامة و أسئلة شأن عام بامتياز، خلافاً لما يزعمه القائلون بنظرية "الاندهاش الفلسفي".
ليس حرمان الفلسفة من المشاركة في الحياة العامة سيئا إلا بقدر حرمان الحياة العامة من مشاركة الفلسفة فيها. و ليس إبقاء الفلسفة خارج دائرة إدارة الشأن العام سيئا إلا بقدر إبقاء الشأن العام بعيداً عن دائرة الفلسفة. فوحدها الأسيجة الدوغمائية ظلت، عبر التاريخ الإنساني، تنتصب حائلاً ما بين الفلسفة و الحياة العامة. و عبر التاريخ، ظلت كل الأسيجة الدوغمائية تنهار لتجعل سؤال النظام يُطرَح من جديد. و لا يُطرَح سؤال النظام إلا كلما كان نظامٌ ما من أنظمة التفكير أو السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق قد انهار أو في طريقه إلى الانهيار. و كلما طُرح سؤال النظام قاد رأساً إلى سؤال الجَمال. و هكذا، فحتى ما يبدو أكثر الأسئلة الفلسفية بعداً عن الحياة العامة، و الذي هو هنا سؤال الجمال، لا يكون، في النهاية، إلا سؤال حياة عامة و سؤال شأن عام. و هو لم يُطرح فلسفياً مع أفلاطون إلا باعتباره كذلك(3).
كل انهيار للنظام يمثل خروجاً إلى حالة الفوضى (Chaos). و الخروج من حالة الفوضى إلى حالة النظام، في الميتولوجيا الإغريقية، لم يحدث إلا بعد أن حل إيروس (Eros)، إله الحب، بمجمع الآلهة فحل به النظام. و من مجمع الآلهة انتقل النظام إلى العالم. و هذا النظام الذي حل بمجمع الآلهة و بالعالم، نتيجة إيروس، هو الجمال. فحالة الفوضى هي،إذن، حالة من اللانظام، أي أنها نقيض الجمال. و ليس للجميل من ضد إلا القبيح و لا للجمال من ضد إلا القبح(4). فسؤال الجمال، كسؤال فلسفي، نشأ باعتباره سؤالاً عملياً مع اللحظة الأفلاطونية. و عكس ما تراه القراءات السطحية للأفلاطونية فخلف كل محاورة أفلاطونية يكمن سؤال عملي، أي سؤال حياة عامة، و سؤال شأن عام. و سؤال الجمال، أفلاطونياً، لا يُطرَح إلا من حيث هو سؤال عملي، أي سؤال حياة عامة و سؤال شأن عام، من حيث هو بالضبط ! سؤال نظام.
ليس الهدف في هذه المقدمة أن نبرهن على صحة هذه الخلاصة. و ذلك يرجع لسبب بسيط هو أننا، على امتداد أبحاث طويلة قادمة، لن نفعل شيئا آخر سوى البرهنة على صحتها. لكنْ، يهمنا بالمقابل أن نفحص حالة الفوضى (Chaos)، أي حالة انهيار النظام باعتبارها حالة من التنازع بين فرقاء يزعم كلٌّ منهم أنه يمتلك حقيقة النظام. فحالة كهذه تعني تعدد حقائق النظام بتعدد الفرقاء. و من تمَّ فهي طريق إلى حالة الحرب إن لم تكن هي الحرب عينها. و في كل الحروب يعتقد كل طرف أنه الأفضل، أي أن ما يمثله من معتقدات و أفكار و مصالح و قيم هو الأحق و الأليق. و في كل حرب تشتغل الدعاية ليل نهار لتصور العدو بأقبح النعوت و الصفات، و تنزع عنه أدنى درجات و تجليات الجمال، بينما تضفي أعلى درجات و تجليات الجمال على الذات. و سواء تعلق الأمر بشعراء العصور الغابرة، أو بالقنوات الفضائية في العصر الحالي، فالآلية هي نفسُها: أنا الأجمل، و عدوي هو الأقبح! و لذلك كان كل صراع حول النظام، بشكل ما، صراعاً حول الجمال.
قبل أن نتقدم في البحث لابد أن نشير إلى ملاحظة هامة. فالحرب التي نعنيها هنا ليست بالضرورة حرباً بالمعنى العسكري. بل إن مدى ما نعنيه هنا ب"الحرب" يمتد من الملاسنة البسيطة بين شخصين إلى الحرب بين دولتين أو حلفين أو أكثر. و سواء تعلق الأمر بقصيدة هجاء، أو بمقال ناري على الصفحة الأولى من جريدةٍ ما، أو حتى بمبيدات الحشرات، فنحن لا نحارب إلا ما و من نعتبره قبيحاً بمعنى أو بآخر. و الحرب، من حيث هي أقصى درجات الفوضى، هي أقصى نقطة يُطرَح عندها سؤال النظام، أي سؤال الجمال. فليس سؤال الجمال سؤالا عمليا و كفى، بل إنه أول الأسئلة العملية. و لذلك كان السؤال الفلسفي عند أفلاطون، أولاً و أخيراً، سؤالاً جمالياً، و كانت الميتافيزيقا تبدأ أفلاطونياً من الجمال و تنتهي إليه و عنده. فلا تكاد محاورة أفلاطونية تمر دون إثارة موضوع الجمال و دون تعريج على الجمال تلميحاً أو تصريحاً. و طالما أننا كدارسين للفلسفة لم نمارس أعلى درجات الإصغاء إلى المحاورات الأفلاطونية على هذا المستوى، و لم نمارس أقصى ما يمكن من التفكيك على النص الأفلاطوني بهذا الخصوص، فسنظل أبعد ما نكون عن إدراك مهمة الفلسفة، و ستكون هناك فرص أكبر لكي تقدم الضحالة الفكرية، و الفقر الثقافي، نفسيهما بمظهر الفلسفة، و ستبقى الفلسفة بعيدة عن الحياة العامة و الشأن العام. و هذا ما يمثل أكبر خطر على مستقبل الإنسانية. ذلك أن كل تراجع للفلسفة لا يعني إلا اتساعاً أكبر لخارطة الخرافة و الإمَّعِية التي لم تقد في الماضي، و لن تقود، في الحاضر و المستقبل، سوى إلى الشوفينية و الانغلاق و الإبادات الجماعية و الإرهاب، أي بكلمة إلى مزيد من الفوضى.
يبذل هايدغر مجهودا جبارا ليبرهن على أن سؤال الميتافيزيقا الأول هو: "لماذا هناك الكائن و ليس، بالأحرى، لا شيء؟"(5). بيد أن السؤال الأول للميتافيزيقا النظامية مع أفلاطون كان: "ما هو الجمال؟". و سنرى كلما تقدمنا في البحث أن إغفال هذا المعطى قد جعل كل محاولات الزمن الفلسفي الحديث و المعاصر ل"الانفلات" من الأفلاطونية، أو "مجاوزتها"، أو "قلبها"، تبوء بالفشل. و بقدر ما كانت الفلسفة الحديثة و المعاصرة تبتعد عن الأفلاطونية، و هي تعتقد أنها بذلك تقترب من الواقع و من الأسئلة العملية، بقدر ما وجدت نفسها بعيدة عن الأفلاطونية و عن الحياة العامة معاً، و بقدر ما ظهرت الأفلاطونية للدارس المتمهل و المتمعن أقرب إلى الحياة العامة و أسئلتها العملية من أي فلسفة أخرى مهما أطنبت في ادعاءات المادية و مزاعم العملية و الواقعية.
هل نستطيع أن نفكر فلسفياً خارج الأفلاطونية؟
ذاك هو السؤال الذي لا بد من الإجابة عنه في كل امتداداته و على رأسها: هل نستطيع أن نفكر فلسفيا خارج الميتافيزيقا؟ هل نستطيع أن نطرح سؤالا فلسفيا خارج سؤال الميتافيزيقا الأول: "ما هو الجمال؟"، هل نستطيع أن نطرح سؤال الجمال، أي سؤال النظام، في انفصال تام عن حالة الفوضى، أي حالة الحرب بالمعنى الذي تقدم ذكره؟ و هل يمكن أن نطرح سؤال النظام، أي سؤال الجمال، كموضوع للتنازع، أي للحرب، دون أن نمر عبر سؤال الماهية الذي يستلزم، وُجُوباً، طرح سؤال الهوية؟ و هل هناك مدخل آخر إلى حالة النظام، أي إلى الجمال، سوى الحب باعتباره أصلاً مصدر النظام، أي مصدر الجمال؟
على امتداد تاريخ الفلسفة طُرح سؤال الهوية على نحو أنطولوجي أكثر مما طُرح على نحو إبستيمولوجي. و لعل هذا المعطى هو ما قاد إلى الربط بين الهوية و الكينونة عند هايدغر(6)، و بين الهوية و الفكرة المطلقة عند هيجل(7). لكن القراءة المغايرة للمحاورات الأفلاطونية، و التي نخوض مخاطرة القيام بها طيلة هذا البحث، تقوم على اعتبار سؤال الهوية سؤالا إبستيمولوجيا ناجماً عن سؤال إبستيمولوجي آخر هو سؤال الماهية، و اعتبار الإثنين معاً (الماهية و الهوية) مجرد أداتين أبدعتهما الإبستيميا الأفلاطونية، أي الميتافيزيقا النظامية، عندما استطاعت عكس ما يراه هايدغر أن تحقق تلك القفزة من الاهتمام ب"الكائن" (Etant) إلى الاهتمام بالكينونة (Etre)(8).
طبعاً، فالمخاطرة غير المغامرة. و كل سؤال فلسفي لا يقوم على مخاطرة ما فهو يكاد لا يستحق إسمه لأنه في أحسن الأحوال ينقلب إلى مغامرة غير واعية و غير مضمونة العواقب. أما المخاطرة التي نخوضها هنا فهي تنطلق من الوعي بأول عناصرها الذي يمتد أمامنا في صيغة سؤال حاسم: ما معنى أن يتجاسر باحث في بداية مشواره البحثي على نقد (أو حتى نقض!) ثلاثة مدارس فلسفية كبرى طبعت الزمن الفلسفي الحديث و المعاصر، أي الكانطية و الهيجيلية و الهايدغرية؟
يقضي منطق الاعتياد بأن يكون الجواب عن هذا السؤال من منطلق البداهة، و بأن يتقهقر هذا الباحث المبتدئ، خاصة في بلد ينتمي إلى ما كان يُعرَف ب"العالم الثالث"، أمام "قامات" فلسفية ألمانية فارعة بحجم إيمانويل كانط، و فريديريتش فلهلم هيجل، و مارتن هايدغر. لكنْ، متى كانت هناك أدنى إمكانية لتساكن الفلسفة و الاعتياد؟ و متى كانت هناك أقل مساحة لتجاوُر الفلسفة و البداهة و تعايُشِهِما؟
للبداهة و الاعتياد قدرة كبيرة على التضليل. و السؤال الفلسفي النظامي مع أفلاطون لم ينهض إلا كسؤال يشاغب على البداهة و الاعتياد و يضع أسسهما و مرتكزاتهما موضع استفهام. و لذلك لم يكن أفلاطون علامة فارقة في تاريخ الفلسفة فقط، و إنما كان علامة فارقة في تاريخ المعرفة الإنسانية بكاملها، و ظلت أسئلتُه تتخطى حدود الزمان لتطرح نفسَها في كل عصر باعتبارها أسئلة راهنة و راهنية.
لا يتعلق الأمر هنا بأي تمجيد. فأفلاطون، بعبارة هايدغر، مجرد "إنسان وُلدَ و تعب و مات". لكن ما لم يُنتَبَه إليه في نظرنا، حتى الآن، هو أن الفلسفة بدورها توشك أن تكون قد وُلدت و ماتت مع أفلاطون. ذلك أن الذي استمر، بعد أفلاطون، ليس إلا ضرباً مما فعله الهيجيليون الجدد مع النسق الهيجيلي كما أشرنا إلى ذلك في بداية هذه المقدمة، أي أن كل عصر من عصور الفلسفة كان يعزل عنصرا من النسق الأفلاطوني و يحاول تقديمه بمثابة "نقد" لنفس النسق.
في "فيدروس" و "بروتاجوراس" و "المأدبة" و "ألقبيادس الأولى" و غيرها من المحاورات الأفلاطونية يحضر "الجميل" (Le beau) مُمَثَّلاً إما في مُحَاوِرِ سقراط أو في مؤثثات فضاء المحاورة. و "الجميل" لا يحضر هنا اعتباطا، بل لأن الالتقاء ب"الجميل" هو، بالضبط، لحظة بداية الجدل الصاعد الذي ينتهي برؤية مثال الجمال و تأمله (الجدل المتأمِّل)، ثم تعود الروح، و هي هنا روح الفيلسوف(9)، إلى عالم المادة، أي إلى الحياة العامة، لتمارس واجباتها الأخلاقية و السياسية وفق مقتضى "الفضيلة". و "الفضيلة" المقصودة عند أفلاطون ليست كما تذهب إلى ذلك القراءات المتسرعة "مثالا" في عالم مفارق؛ أو قيمة أخلاقية عائمة فوق الواقع، و إنما هي المواطنة الصالحة. إن سقراط يخاطب بروتاجوراس قائلاً: "يبدو لي أنك تتحدث عن فن السياسة و تقول بأنك تعمل لتجعل من الرجال مواطنين صالحين". و سقراط لا يصدق أن هذا أمر ممكن بواسطة التعليم الذي يقدمه بروتاجوراس و غيره من السفسطائيين. و لذلك يقول لبروتاجوراس: "من جانبي أنا لا أعتقد أن الفضيلة يمكن تعليمها". فتعليم الفضيلة هو تعليم المواطنة الصالحة. و هذه مهمة لا يمكن أن تنهض بها السوفيسطيقا(10)و إنما هي مهمة المايوطيقا. و المايوطيقا هي "توليد الأفكار وسط الجَمَال"(11).
للفلسفة مهمة محددة، إذن، وفق المنظور الأفلاطوني. و هو ما سنعمل على تفصيله عبر مسار الأبحاث القادمة. لكنها، عند هايدغر، يستحيل تحديد مهمة لها(12). و أسئلة الفلسفة عند أفلاطون أسئلة عملية لها، بالضرورة، طابع الراهنية. أما عند هايدغر فكل "سؤال فلسفي ضروري يظل، بالضرورة، غير راهني"(13). و "الجميل" يحضر عند أفلاطون كنقطة انطلاق لمسلك معرفي هو المفضي إلى رؤية مثال الجمال و من تمَّ إلى الفضيلة، أي إلى المواطنة الصالحة. أما كانط فيخصص فصلاً كاملاً ل "أناليطيقا الجميل" (Analytique du beau) لكي يثبت أن التجربة الجمالية "غائية بلا غاية"(14). و من تمَّ يقطع كانط و هايدغر كل خيط يمكن أن يربط بين سؤال الجمال و سؤال الفضيلة، بل بين كل أسئلة الفلسفة و أسئلة المواطنة، و بالنتيجة بين كل أسئلة الفلسفة و أسئلة الحياة العامة و الشأن العام.
بالطبع، فالقارئ يستطيع هنا أن يستنتج من تلقاء نفسه أن انحصار الكانطية في حدود "الجميل" دون الجمال ليس إلا انحصاراً في جزء صغير من النسق الأفلاطوني يستولي عليه كانط ليحوله إلى سلاح نقدي في وجه النسق نفسه، تماماً (و نعيد هذا للتأكيد) كما فعل الهيجيليون الجدد مع النسق الهيجيلي. و بالوقوف عند حدود "الجميل" تقف الكانطية عند "الكائن". أما الأفلاطونية فهي تتخطى هذا إلى "الجمال"، أي إلى "كينونة" الجميل. فإذا كان هناك فعلاً، في تاريخ الفلسفة، مَن انتهى إلى اختزال الكينونة في الكائن فهو كانط و ليس أفلاطون(15).
تقدم "أمثولة الكهف" مثالاً واضحاً لمسار البحث عن "الكينونة" المتوارية، و المحتجبة، خلف "الكائن". و من المستغرب تماماً أن قارئاً نَهِماَ لأفلاطون، مثل هايدغر، لم ينتبه لهذا. فالذين يقفون عند "الكائن" و ينظرون إليه من خلال حدوده (Termes) هم أولئك الرازحون تحت الأغلال، الذين يستطيعون أن ينظروا فقط إلى الظلال التي تمر أمامهم. أما ذاك الذي نزعنا عنه الأغلال و "أرغمناه" على أن يستدير، فإنه يشرع منذ تلك اللحظة في رحلة اكتشاف الكينونة الكامنة خلف الظل، أي خلف الكائن. و هذا هو المعنى الذي يعمل أفلاطون على تطويره طيلة الكتاب السابع من الجمهورية. و سنبين ذلك في الجزء المخصص لهذه النقطة ضمن البحث.
تمثل الأفلاطونية، أي الميتافيزيقا النظامية، فلسفة للكينونة بامتياز. بل إن مهمة الفلسفة عند أفلاطون هي الخلاص من الصيرورة و الالتفات نحو الحقيقة و الكينونة(16). و حين يؤسس هايدغر كامل مجهوده الفلسفي على فرضية إغفال الكينونة من طرف الميتافيزيقا، أي من طرف الأفلاطونية في المقام الأول، فهو لا يؤسس فلسفته على فرضية خاطئة فقط، و إنما يجعل منها فلسفة بلا موضوع فيكون من الطبيعي، و المنطقي تماماً، أن تكون الفلسفة في نظره بلا مهمة، أي مجرد "جنون"(17). و بذلك فالهايدغرية تلقي بالفلسفة، مرة أخرى، خارج دائرة الحياة العامة و الشأن العام؛ إذ مهما كان المعنى الذي يمكن إعطاؤه ل"الجنون" فلا يمكن أن توجد حياة عامة و شأن عام تديرهما أو تساهم في إدارتهما جماعة من "المجانين"، أي من الفلاسفة.
من الصعب الحكم بنهاية الهايدغرية في عصر تحولت فيه إلى "موضة" فلسفية، و لم يعد فيه لهايدغر مجرد قراء، و إنما صار له مريدون كثير منهم لا يعلمون كُتُبَ هايدغر إلا أماني. فلربما كان من سخرية التاريخ أن تتحول الهايدغرية إلى "موضة" بينما يصرخ هايدغر بكل ما أوتي من براعة في التعبير: "حينما تتحول فلسفةٌ ما إلى موضة فإما أنه ليست هناك فلسفة حقيقية أو أن هذه الفلسفة قد تم تحريفُ اتجاهها و يجري استعمالها دون وجه حق حسب الحاجيات الراهنة و لغايات غريبة عنها"(18). و عليه، فليس مريدو هايدغر، و أتباعه و أنصاره، في نظر هايدغر نفسه، إلا في حالة من اثنتين: إما أنهم ليسوا فلاسفة حقيقيين، أو أنهم يحرفون اتجاه فلسفته و يستعملونها "دون وجه حق حسب الحاجيات الراهنة و لغايات غريبة عنها". و الغاية الأغرب عن فلسفة هايدغر هي إسناد مهمة لها لأن الفلسفة، حسب هايدغر، يستحيل تحديد مهمة لها بالمطلق(19). لكنْ، ماذا لو كانت مهمة الهايدغرية اليوم، كفلسفة أو ك"موضة فلسفية"، هي تحديداً إبقاءُ الفلسفة بلا مهمة، أي إبقاؤها مجرد "طرق لا تفضي إلى أي مكان"(20)؟
حين تبقى الفلسفة خارج الحياة العامة، و خارج الشأن العام، تكون الأفلاطونية قد انتهت فعلاً. و بذلك يحقق هايدغر مفهومه ل"مخاتلة الميتافيزيقا" على نحو غريب. غير أن انسحاب الفلسفة من ساحة الحياة العامة و الشأن العام لا يعني نهائيا انسحاب خصومها بقدر ما هو يعني أن هؤلاء الخصوم سيعززون مواقعهم أكثر، و سيحتلون مساحات أكبر. و هذا هو، بالضبط، ما يحصل في عالم اليوم: انتشارٌ واسع للخرافة، و ازدهار كبير للخطابة الجوفاء، و اتساعٌ متزايد للكتل البشرية سهلة الانقياد، و التي لا تطرح أي سؤال و تسلم أرواحها للمُتَعَالِمين من بائعي الخُطَب و الخرافات.
كم هو شبيه وضع الناس اليوم بوضع أبقراط في "بروتاجوراس"! و هو، تحديداً، ذلك الوضع الذي تتدخل المايوطيقا، من خلال سقراط، لكي تضع حدا له(21). و لئن كان هذا يعني شيئا، فإنما يعني أن الفلسفة اليوم تطرح نفسها كأفق حتمي على الصعيد الكوني للخروج من حالة الفوضى إلى حالة النظام. و هو ما يبدأ في نظرنا باستعادة أسئلة الفلسفة من حيث هي، في المقام الأول و الأخير، أسئلة حياة عامة و أسئلة شأن عام.
استعادة أسئلة الفلسفة الأولى و الأولية، بالمعنى الذي نقصده هنا، لا تعني القيام بجرد موضوعاتي للأسئلة التي طرحها أفلاطون؛ و إنما هي تعني القيام بعملية مجاوزة عكسية (Dépassement à l'envers) للهايدغرية و الهيجيلية و الكانطية. و ذلك مع التشديد على أن القيام بهذه المجاوزة العكسية لا يعني أننا نطأ أرضاً فلسفية خلاءً لم يسبقنا إليها أحد. ذلك أن إرهاصات هذه المجاوزة العكسية نجدها واضحة عند التلميذة المباشرة لهايدغر، أي عند حنَّة آرندت(22).
الهوامش:
1 أنظر مثلا: « L'étonnement Philosophique, une histoire de la philosophie », Jeanne Hersch, Gallimard.
2 Karl Marx, « L'idéologie Allemande »
3 أنظر على سبيل المثال علاقة الجمال بالتربية في محاورة بروتاجوراس.Protagoras, Ed. GF Flammarion
4 Idem
5 Ed. tel Gallimard, page 13 Martin Heidegger, « Introduction à la métaphysique ».
6 Martin Heidegger, «Identité et différence », dans « Questions I et II ». Ed. tel Gallimard, page 260.
7 هيجل، "علم المنطق" ج 1 موسكو 1970 ، ص 96 97.
8 Platon, La République. Ed. GF Flammarion, [225c], page 375
9 Idem, Livre VII, pages 358 à 400
10 أنظر ضمن هذا البحث فصل "من السوفيسطيقا إلى المايوطيقا" الذي نوضح فيه دواعي اختيارنا لهذا المصطلح بدل مصطلح "السفسطة" أو "السفسطائية".
11 Platon, Le Banquet
12 Martin Heidegger, « Introduction à la métapysique ». Ed. tel Gallimard, page 21
13 Idem, page 20
14 Emmanuel Kant, « Analytique du beau » dans « Critique de la faculté de juger », pages 181 à 224.
15 الكانطية هي التي تقف عن حدود الكائن و تغفل الكينونة لأن الكينونة ميتافيزيقية بالضرورة. و الموقف الكانطي من الميتافيزيقا معروف إذ يرى كانط أنها لم تعد تمثل إلا تلك "السيدة العجوز". أنظر: Kant, « Critique de la raison pure », Ed. GF Flammarion
16 Platon, La République. Ed. GF Flammarion, [225c], page 375
17 Ed. tel Gallimard, page 20 Martin Heidegger, « Introduction à la métaphysique » .
18 Idem, pages20- 21
19 Idem, page 21
20 إشارة إلى كتاب هايدغر « Chemins qui ne mènent nulle part »
21 Platon, Protagoras. Ed. GF Flammarion, pages 71, 72 et 73
22 تعود حنة آرندت إلى التجربة الرومانية لتستلهم منها معنى السياسة متجاوزة هايدغر بشكل عكسي. أنظر مثلا:
Hannah Arendt, « Qu'est-ce que la politique ? ». Editions du Seuil, 1995.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.