ثلاثة أثق في مدى تقديرهم لما أكتب وسيقرأونه بعين فاحصة، وهم زميلي و"سينيري" الأستاذ باقان أموم والأستاذ ياسر عرمان، وأستاذي وصديقي فتحي الضو، ورابعهم صديق عزيز ألحَّ علي لثقته في تقديراتي وقراءاتي وهو محمد حب الدين، الترويكا "بلس" حفزوني لأجلس خلف الحاسوب لأدلو بدلوي فيما أراه الأكثر أهمية، وهو مستقبل بلدي والبحث خلف تلك الهواجس التي تقض مضجع كل أبنائه في المهمومين برؤية وطن ينعم بالسلام والديمقراطية والتقدم، ويرفل قاطنيه تحت ثياب الرفاه والعز والتقدم. أثارني ذلك الحوار الذي أجراه الأخ الاستاذ فتح الرحمن شبارقة، وقد زاملته في جريدة الرأي العام وقلت عنه ولا زلت عند رأيي بأنه محاور بارع، مع القيادي في الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في جنوبنا العزيز، باقان أموم، وهو قيادي رغم كل المياه التي جرت تحت الجسر. وما أثارني ليس ما يجري في الجنوب، فذاك حديث لا يثير بل يؤلم ويستفز ويدمي القلب، ولكن حديثه عندما سألته "شبارقة" * كيف تنظر للخلافات بين رفاقكم السابقين في الحركة الشعبية عقار وعرمان والحلو، وهل هي خلافات حقيقية؟ - نعم هي خلافات حقيقية ومؤسفة، ونابعة من التفسيرات المختلفة لمشروع السودان الجديد، ونأمل أن يتجاوزها وهم كقوى مكوّن أساسي من مكونات القوى السياسية السودانية، ونأمل أن يشاركوا مشاركة إيجابية في حل الأزمة السياسية السودانية لتحقيق دولة جارة مستقرة وهذا من صلب اهتمامنا، وواحدة من اهتماماتنا الرئيسية هو بناء دولتين جارتين تعيشان في سلام واستقرار وبينهما تبادل للمنافع. وقبله بأيام تزامنت مع الذكرى السنوية لرحيل القائد د. جون قرنق دي مبيور كتب الأستاذ ياسر عرمان تحت ما أسماه "نحو ميلاد ثاني لرؤية السودان الجديد" (منذ أن صدح دكتور جون قرنق دي مبيور برؤيته الثاقبة والآسرة معا (رؤية السودان الجديد) في يوليو 1983م، والتي هدفت في الأساس لتحرير وتوحيد السودان، جابهت تلك الرؤية تناقضات التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة والمجتمع، ومع ذلك شقت طريقها نحو الجموع وإستأثرت بأفئدة وقلوب الفقراء والمهمشين على تباين مواقعهم، نساء ورجال في المليون ميل مربع، ولم تخطئ طريقها نحو المثقفين، وقدم الآلاف أرواحهم تحت راياتها، مع ذلك فقد تغير العالم وتغير السودان، وعلى مستوى الممارسة حصدت هذه الرؤية نجاحات وخيبات عديدة ، والآن تقف هذه الرؤية العظيمة في مفترق الطرق شمالا وجنوبا، وتواجه تحديات وصعوبات جمة ليست هي الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، مثلما واجه الفكر الإنساني تحديات على مر الأزمنة.) وقبلهما كتب صديقي وأستاذي فتحي الضو، ضمن كتاباته في علم بديع المقال، عن حزب (دريفون) يتقدمه عمالقة! وقال فيما قال "إذا كنت يا قارئي العزيز ممن استقبلوا العيد بشيء من الإحباط كما هي أعياد أبا الطيب المتنبي، فأنهض وقل إنك تملك الجديد الذي تخزي به عين الأبالسة. وإذا كنت يا قارئي الحزين من زمرة الذين لا يرون سوى الظلام الحالك الذي يحاصرنا من كل حدب وصوب، فأعلم أن ثمة ضوء في آخر النفق، أشعل فتيله فتية وفتيات آمنوا بوطنهم وقضاياه. وإذا كنت يا قارئي الحائر من لدن قوم أصابهم التيئيسيون بوابل من غثهم، وصاروا يذرون على مسامعك تمدد سنوات العصبة، ويشيعيون صعوبة اقتلاعها، فقل لهم إن شباباً صمموا على دحرها، ولو كانت في بروج مشيدة. إن حزب المؤتمر السوداني أو (دريفون) الأحزاب السودانية، يقدم لنا نموذجاً رائعاً لما ينبغي أن تكون عليه الأحزاب في أداء رسالتها السياسية، بغية النهوض بوطن أنهكته الصراعات منذ استقلاله وحتى سحابة يومنا هذا، وبلا ادعاء لبطولات زائفة إنه حزب (دريفون) بمعايير الواقع، ولكن يتقدمه عمالقة. حزب لم يستند على أيديولوجية ماضوية، ولا أخرى مستحدثة، وإنما طفق يبحث عنها في تراب الأرض الطاهرة. وقال لها أخرجي من دموع الثكالى والفقراء الغلابا. وقال لها أخرجي من مسامات الأيادي المتعرقة كداً وكدحاً، وقال لها أخرجي من أفواه المتعبين والجياع الذين أتعبهم البحث عن قوت من خشاش الأرض. وقال لها أخرجي من فوهات البنادق والحروب العبثية، وقال لها أخرجي من عيون الشباب الطامحين بغدٍ حتماً سيأتي ولو كره الظالمون!" أما رابعهم صديقي العزيز محمد حب الدين، الذي يحفل كثيراً بالكتابة، وهو القارئ النهم، ويدرك مدى تأثيرها وخطورتها إذا انطلقت ومصاعبها قبل أن تنطلق، فقد أصر علي بأن أعيد نشر ما كتبته "واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل" إبان تصاعد الأزمة بين قيادات الحركة الشعبية شمال ودافعه مدى قلقه مما يجري في أروقة حركة كان يتوق لرؤيتها تحقق، مثل كثيرين وأنا منهم، أحلام لطالما ظل يراها الشعب السوداني بعيدة المنال، ويبدو أنها كذلك. إذاً هي محفزات مغرية بالنسبة لي، لما تجعل من الغوص في غمار الكتابة عنها مغامرة ومقامرة، فما بين توهان الحركة الشعبية ومتاهة التيار الديمقراطي يظل السودان ضائعا. ويبقى الخروج من هذا المأزق رهين بأداء الفرائض الغائبة. الحركة الشعبية والتيار الديمقراطي .. الفرائض الغائبة (2) عدة محاور يجب الوقوف عندها، للنظر إلى تلك الفرائض الغائبة التي لازمت مسيرة الحركة الشعبية والتيار الديمقراطي، وعطلت التطور الطبيعي لتشكل كتلة ديمقراطية قادرة على أداء دورها في الحراك السياسي والتأثير بقوة على المشهد العام ودفعه نحو التغيير والتحول الديمقراطي وإنجاز مسؤولياتها وواجباتها نحو وطن يستحق ومواطنين يستحقون العيش في سلام ونماء. وإذا كانت الحركة الشعبية كيان اعتباري يمكن الإمساك بأطرافه وتحديده، يبقى التيار الديمقراطي شاملاً يصعب تحديد كيان يمكن تشريح ما بداخله؛ فهو (التيار) ظل متدفقاً يبطئ سريانه هنا ويزيد من عنفوانه هناك بعيداً عن "أكلشيهيات" الدساتير والبرامج السياسية. استندت الحركة الشعبية إلى مفهوم مركزي في رؤيتها للسودان الجديد وهو "الوحدة في التنوع"، ووضع الأستاذ ياسر عرمان هذه الرؤية (السودان الجديد) أمام خيارين "لابد أن ينتصر أحدهما، فأما أن تصعد نحو ميلاد ثاني يفتح أمامها أبواب التجديد والإنفتاح على الحقائق الجديدة على مستوى الممارسة والنظرية، وأن تستقي دروس جديدة من الممارسة والنتائج التي تمخضت عنها سلبا وإيجابا لتواصل تقدمها نحو الأمام، أو يصيبها الجمود في عالم متغير على مدار الساعة واليوم." السؤال الذي يقفز إلى مقدمة العقل هو، أليس من الأجدى قبل صعود "الرؤية" إلى ميلادها الثاني أن نفتح ملفات الميلاد الأول ومسيرته، خاصة في المنعطفات الخطيرة التي مرت وتمر بها؟ وهو ما يدعو له الأستاذ ياسر. وفتح هذه الملفات يبدأ من ذلك المفهوم المركزي "الوحدة في التنوع" وهي في تقديري – كما سأفصل- أولى الفرائض الغائبة، ومن ثم تتناسل من داخله آليات تحقيقه وبلوغ مراميه وتلك جملة فرائض أخرى ظلت غائبة، وهي البوابة المشرعة التي يمكن النظر منها وفحص ما بالداخل. هذا المفهوم في جوهره لا يتسق وطبيعة السودان (سودانين الآن) فحسب، بل يظل فاعلاً حتى تنزيله على واقع الأرض طال الزمن أو قصر باعتباره الفيصل في علاج الأزمات التي ظلت تعصف بالبلاد منذ تاريخ استقلالها، إذا ما غضينا الطرف عن ما قبله. ولن أردد هنا شواهد يلم بها الجميع تؤكد ذلك، ويعترف بها – ليس فضيلة – حتى المناوئون لمشروع السودان الجديد والمتمترسين خلف خنادق النظام السياسي القائم على الأحادية، والذي لا يعترف بالتعدد والتنوع باعتباره النظام الذي يحافظ على مصالحهم ومكتسباتهم حتى وإن كانت نتيجته المشهد السوداني على ما هو عليه الآن من تمزق وفقر وتخلف وحروب. وهو المفهوم الذي التقطه الراحل د. جون قرنق بذكائه واعتمده، بعد أن حدد له إطاراً نظرياً، ليكون هادياً لحركته طوال مسيرته التي ظل يبشر فيها بمشروع السودان الجديد، حتى صار(المفهوم) ماركة مسجلة للحركة الشعبية وهادياً لمناصريها باعتبارها "دعوة حق أريد بها حقاً". وخلق العداء بينه ومناوئه عداءاً لدرجة التوجس من المشروع وبالتالي فكرته المركزية "الوحدة في التنوع"، دون النظر إلى أعمق من ذلك ومدى حاجة السودان إلى أن يتحد ويجد (التوليفة) المناسبة للتعامل الإيجابي مع هذا التنوع. الشيء الأكثر أهمية هو أن المشروع برمته ومفهومه المركزي كان أشبه بالمظلة التي تقي د. جون قرنق هجير "تناقضات التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة والمجتمع"، ولا تكاد تخرج من تحت تلك المظلة إلا وتجد كل التناقضات تعم وتنتشر داخل بيت الحركة الشعبية. استطاعت كاريزما الراحل قرنق أن تبقي على هذه المظلة وتزيد من اتساعها بما يكفي لإخفاء تلك التناقضات. و"الكاريزما" التي تعني حرفياً هدية أو نعمة ربانية غير مكتسبة، هو مفهوم استعمله عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ليميز القادة الذين نصبوا أنفسهم ليتبعهم الآخرون طالما يرونهم مؤهلين للمهمة بشكل غير طبيعي، ويذهب فيبر إلى تأكيد ظهور مثل هذه الشخصيات كعامل مرتبط بالتغير الاجتماعي. لن آتي بجديد الآن إن قلت أن تلك الكاريزما، أو السحر والجاذبية المقنعة التي تلهم الآخرين، رحلت في جوف غابات وتضاريس الاستوائية ذات يوم لينكشف حال الرؤية وأعمدتها للعيان. ولأني أخذت "الوحدة" في مفهومها الواسع، كتبت له في رسالتي المطولة الموسومة "واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل" قبيل رحيله، ونشرت في يونيو – يوليو 2005 مستشرفا وقارئاً لمآلات ما سيحدث، وكان سيحدث بطبيعة الأحوال حتى وإن لم يكن أجله قد حان ذاك اليوم. "أن مسئولية كبرى تقع على عاتقها (الحركة الشعبية) في دعم وتقوية النزعات الوحدوية داخل تلك البرامج، فلا أحد مسئول غيرها هنا –في الجنوب- أثناء الفترة الانتقالية عن ذلك. فمن خلال تلك البرامج يمكنها الدفع بمكونات ومقومات الوحدة إلى الأمام، إن هي أرادت لنفسها التمدد سياسياً من حلفا إلى نمولي. ففضاء النزعات الانفصالية، الذي ساهمت هي فيه بشكل أو آخر أثناء حرب التحرير الطويلة الأمد، هو الجنوب وليس الشمال. ويمكن لها أن تلعب دوراً سلبياً في ذلك إن هي قررت الاكتفاء بحكم الجنوب، وذلك بتقوية النزعات الانفصالية عبر برامج سياسية حكومية وحزبية تهدف إلى تقويض أركان الوحدة داخل ذهنية المواطن السوداني في الجنوب، دون أن يكون الشمال طرفاً فيها. إن الوحدة التي يسمونها جاذبة مسئولية الحركة الشعبية أكثر من غيرها فهي الشريك الأصيل في الحكومة الاتحادية، وهي صاحبة الغنيمة الأكبر في حكم الجنوب. كما وأن الاتفاقية واضحة المعالم، وإن كانت بها عيوب لكنها ستظل تمتلك القدرة على صنع وحدة خلاقة في إطار التنوع السوداني وستبقى الحركة الشعبية هي حجر الزاوية في تحقيق ذلك." سأتابع في المرة القادمة معالم فشل الحركة الشعبية في ترسيخ هذا المفهوم وفي إدارة الوحدة داخل تنوعها وهو ما قاد إلى انفصال الجنوب وإلى حروب الجنوب وإلى ما نراه يدور في الحركة الشعبية (شمال). عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.