تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    دورات تعريفية بالمنصات الرقمية في مجال الصحة بكسلا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    حادثت محمد محمد خير!!    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترجّل الفارس النبيل البروف محمد مهدى أحمد .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 22 - 07 - 2017

الحياة الدنيا عندي ما هي بزينة لولا نعم الله الكثيرة التي أسبغها على الإنسان والحيوان والطير والجماد، ومنها نِعم وخاصيات لا ندرك مدى ضرورتها إلا عندما نُحرم منها وهكذا الإنسان دائماً إذا مسه الشر جزوعا.. ومن تلك النعم، التي أحمد الله عليها، فبمجرد أن أصل وأضع رأسي على وسادتى، في أي وقت، أنام ملء جفوني عن شواردها وتغمض عيناي في سرعة بل في أقل من غمضة عين وإنتباهتها كما يقولون. ليلة أمس كانت واحدة من الليالي النادرة في العمر.. صحيت فيها في منتصف الليل ولم أذق طعماً للنوم حتى صباح اليوم الثاني.. قمت مذعوراً وأتصبب عرقاً من شعر رأسي حتى أخمص قدمي، رغم برودة الجو في الغرفة، والحمى اللعينة تهرس جسمي كله وما عرفت لكل ذلك سبباً ! وماذا ألم بي بغتة وأنا أغط في نوم عميق! تحيرت في الأمر وجلست على مقعد قريب في سكون تلك الليلة حتى ينجلي ذلك الليل الطويل بصبح جديد، واستعنت بالهاتف الجوال ليشغلني عن هواجس تلك الليلة ويقرّب لي الصباح.. ويا ليتني ما استعنت..! فمن أولها جاءني النعي من صديق حزين سطرها في كلمات قليلة لكنها كانت كالعلقم بل أشد مرارة.. "أخي شوقي.. البروف محمد مهدى في ذمة الله في الرابعة صباحاً". خبر وقع علىّ كالصاعقة وكادت الدماء أن تتجمد في عروقي وتسارعت نبضات قلبي وزادت حالة عدم التوازن التي كنت أشعر بها منذ منتصف تلك الليلة فعزيت أن حالة العرق والحمى التي فاجأتني دون سبب ماهي إلا ارتباط بحالة أخي وصديقي وزميلي البروف محمد مهدى عندما كانت روحه تنازع فراق جسده في ذات الوقت من تلك الليلة.. أو هكذا أفسر.
ليس القصد هنا أن أكتب رثاءاً عن البروف محمد مهدى فليس هناك في قواميس اللغة كلمات تستطيع أن تعدد مآثر الرجل وتبرز صفاته أو حتى تعبرعن حزننا لفقده، ولن أكون أبداً مثل الخنساء التي رثت أخاها صخراً بأبلغ أبيات الشعر.. ثم ما فائدة الرثاء وأنا أدرى أن الحروف سوف تقصر في حق البروف..ليس ذلك فحسب ففى اعتقادي أن شخصاً مثل البروف لا ُيرثى فقد ترك فينا وبيننا من الدرر والأثر ما سوف يجعله ماثلاً بيننا في كل الأوقات. فقط أردت أن أجمع بعض المعلومات المتناثرة عنه هنا وهناك لفائدة الذين لا يعرفون هذا المعلم القامة وأيضاً لفائدة الذين يعرفون عنه القليل فقد كان من خصاله المتأصلة أن لا يتحدث عن الذات ولا يفصح عن حياته الشخصية ولا حياته العامة ولذلك لا يعرف الكثيرون جوانب هامة من حياته وشخصيته التي حاولت أن أبرزها وأحفظها للأجيال القادمة لتتخذ منه نبراساً في الحياة.
الأستاذ محمد مهدى أحمد على شخصية معروفة في الوسط التعليمي أساتذة وإداريين وطلاباً وخريجين وخريجات من جامعة الخرطوم عموماً وكلية التربية على وجه الخصوص والتي عمل فيها أستاذا مميزاً في مادة اللغة العربية التي تخصص فيها وحاز فيها على درجة الدكتوراه من جامعة دبلن عام 1985 ثم حاز على مقعد الأستاذية من بعد ولذلك ترك أثراً ملموساً في قطاع كبير من الناس أغلبهم من المتعلمينً الذين كانوا يكنون له كل الاحترام والتقدير والود حيث كرمته جامعة الخرطوم لتمّيزه في عدة مناسبات.
ولد البروف محمد في قرية دبيرة شمال شمال مدينة وادي حلفا في العام 1943واتم الدراسة الأولية بمدرسة دبيرة الأولية والمرحلة المتوسطة بحلفا الأهلية والمرحلة الثانوية بمدرسة وادي سيدنا ثم عمل معلما لفترة بالمدارس المتوسطة بمدينة حلفا الجديدة عام 1967 حتى التحق بجامعة الخرطوم وتخرج بتقدير ممتاز من كلية الآداب عام 1972 ومنح بعثه دراسية بجامعة "سانت أندرو" باسكتلندا وانتهى من اجازة رسالة الماجستير ثم التحضير للدكتوراه بنفس الجامعة.. وكانت رسالته (دراسة نقديه في مؤلفات ابن جنى) – وابن جنى هذا هو أبوالفتح عثمان ابن جنى وكان عالم نحوي كبير ولد بالموصل وكان يتبع المذهب البصري في اللغة العربية وكانت عنده حظوة عند الشاعر المتنبي الذي كان يحترمه ويعرف قدره.. ويعد ابن جنى أول من قام بشرح ديوان أشعار المتنبى، وبلغ ابن جنى في علوم اللغة العربية من الجلالة ما لم يبلغه إلا القليل. وما كُتبه وأبحاثه التي يظهرعليها الاستقصاء والتعمق في التحليل واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات واشتهر ببلاغته وحسن تصريف الكلام والإبانة عن المعاني ووضع أصولاً في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني- وعلى رسالته هذه، مُنح البروف محمد درجة الدكتوراه وعاد ليعمل استاذا بكلية التربية جامعة الخرطوم وكان بجانب اللغة العربية مهتما باللغة النوبية وله ديوان سماه (دسي ليمونه) وهي تعنى بالعربية (شَبَهْ الليمونة الخضراء) كما سيأتي ذكره من بعد.. وله عدة دراسات أذكر منها دراسة بعنوان أثر اللغة النوبية في العامية السودانية. وشارك في برامج تلفزيونيه وكانت اخر مشاركاته قبل وفاته في تدشين كتاب (النوبيون العظماء) في الاسبوع الماضي وهي من تأليف الكاتبة الأمريكية "دورسيلا دونقى" بنادي ابناء كرمه بالخرطوم.
بالرغم من أن الأستاذ محمد مهدى ولد ونشأ في نفس قريتي إلا أننى لم ألتق به إلا في المرحلة المتوسطة في الدراسة، ثم التقيت به مرة ثانية في قطار إكسبريس وادي حلفا عام 1963 ونحن لأول مرة في طريقنا إلى الخرطوم للالتحاق بالمرحلة الثانوية في مدرسة وادي سيدنا بأم درمان وكنا مجموعة كبيرة من المنطقة في هذا القطار تم قبولهم في هذه المدرسة العريقة، وكانت هذه بداية المعرفة الحقيقية مع هذا الرجل الجذاب. توطدت علاقتنا عبر سنين الدراسة في وادي سيدنا حيث كان من يومها علماً من علماء الفكر والسياسة ورئيساً لحزب القوميين العرب (يضم الناصريين والبعثيين) الذي كان في أوجه ومنافساً لحزب الجهة الإسلامية والحزب الشيوعي آنذاك. تفرقت بنا سبل الحياة مبكراً حيث هاجر كلانا إلى دول الخليج في الثمانينات، هو عمل معلما بمدينة صلالة بسلطنة عمان لفترة وعاد من الاغتراب في التسعينات ليواصل مسيرة التدريس الجامعي في السودان. وبالرغم من بعد المسافات بيننا ظل الارتباط الوجداني قائماً وكنا نلتقي في فترات متباعدة في أرض الوطن، وقد التقيته آخر مرة قبل أكثر من عام في بيت عزاء قريب مشترك في حي الطائف في الخرطوم. رأيته بشكله المتميز بجلابيته الملونة وعليها السديري الأسود حافي الرأس مطلقاً شعر رأسه المخضب وبسمته التي لا تفارق محياه وضحكته التي تنفرج لها أسارير وجهه إلى أعلى حتى لا تكاد ترى عينيه وصوته الخافت كالهمس وهو يحكى لك قصة أو معلومة أو نكتة. إنه البروف محمد الإنسان الاجتماعي المرح العالم المتواضع ذو الأدب الجم والخلق الرفيع والذي ترك أثرا كبيراً لدى أصدقائه ومحبيه وطلابه. فقد كنت أعجب بطريقة ونسته الهادئة واندماجه ومرحه مع أصدقائه وزملائه أذكر منهم على وجه الخصوص الأستاذ محمد خليل صيام المعلم والأستاذ سعدالدين فرح والأستاذ نورالدين على خيري والأستاذ عبدالرحيم أمين.
هناك جوانب متعددة لهذا المعلم والقيادى الفذ لكن سوف أركز على الجانب الفكرى والسياسى والجانب الأدبى والثقافى ثم جانب إهتماماته بالتراث النوبى واللغة النوبية. في الجانب الفكرى والسياسى فهو الذي سعى في تجنيدي وتجنيد الكثيرين من أبناء منطقتنا وغيرها في مدرسة وادى سيدنا لحزب القوميين العرب الذي تنامى في تلك الفترة وكان هناك صراع قوى ومنافسة حادة بين أبناء المنطقة في الجبهة الإسلامية وأبناء المنطقة في حزب القوميين العرب خاصة في تجنيد الطلاب الجدد. كان البروف محمد يميل إلى جانب البعثيين العراقيين أكتر حيث كنت أراه يقرأ كتب المفكر البعثي "ميشيل عفلق" بصفة خاصة وغيرها من الكتب وربما كان هو البعثي الوحيد في منطقة حلفا في الستينيات وهو من الذين قام على أكتافهم تنظيم الاشتراكيين العرب وانضم إليه وبسببه عدد كبير ثم شكل قاعدة صلبة من البعثيين والقوميين العرب في جامعة الخرطوم وقدم دراسات فكرية للحزب أيام قيادة عضو القيادة القومية وأمين سر الحزب في السودان المرحوم الزعيم بدرالدين مدثر. إن الشخصية السياسية والاجتماعية والمعرفية والكاريزمية للبروف محمد أَسَرَتْ معظم أعضاء الحزب وصار كالأب الروحي لهم، وأصبحت القيادة ترى فيه تهديداً لبعض الأوضاع والأفكار والأشخاص حيث توالت الخلافات بين المركز والخرطوم وتحديداً في جامعة الخرطوم الشيء الذي تطور إلى تبديل القيادة بشخص آخر يدعى عبد السلام والذي كان نائباً له. حصل ذلك في مؤتمر للحزب بالخرطوم وفي ذلك المؤتمر فُصل عدد من القيادات المتوسطة أيضاً.. ربما يكون بعدها قل نشاطه السياسي بل اعتزل العمل السياسي المباشر أو تغيرت أفكاره السياسية عندما سافر مبتعثاً من جامعة الخرطوم إلى أسكتلندا لدراسة الدكتوراه بتوصية من العلامة الدكتور عبدالله الطيب حيث كان قد تفرغ كلياً للدراسة. الشاهد كان البروف محمد ناشطاً في هذا الجانب واستطاع أن يؤثر في كثير من الطلاب وكان له دور فعال في تعليم الطلبة في العراق لكن تخليه التام عن هذا الجانب بدون إفصاح يضع علامات استفهام كثيرة لم تجد لها جواباً في حياته.
هذا ما كان عن الجانب السياسي الذي أخذ وقتاً في بواكير حياته. أما عن الجانب والثقافي والأدبي فقد توطدت علاقتي معه في مرحلة وادي سيدنا وكنت أقابله يومياً رغم أنه كان في غير فصلى وغير داخليتي فقد كان يسكن في داخلية الداخل وكنت أسكن في داخلية جماع وتفصل بينهما قاعة الطعام وعدد من الداخليات وكانت اهتماماته بالرياضة التي كنت أعشقها قليلة وقل أن تجده في أي نشاط من أنشطة المدرسة الرياضية الكثيرة إلا أحياناً في نادى الزوارق ..كان مهتماً بالأدب والشعر منذ ذلك الوقت وله دواوين لم ترالنور بعد حيث كان عزوفاً في هذه الناحية وكان لا يحب الأضواء وكان أقرب إلى الزهدً في الحياة. كانت له نظرات عميقة في علم اللغة المقارن وفى نشأة اللغات وتطورها مابين اللغة العربية والنوبية والإنجليزية بل كانت له نظريات مبتكرة وهو من القلائل الذين أحاطوا علماً بالعروض والنحو العربى بل كان من أقطابها. كان أحد أفذاذ اللغة العربية وجهابذتها في العالم العربى وكان من أصحاب العمق والتجديد ساعده في ذلك مزاملته لكبار المستشرقيين المختصين في اللغة والحضارة العربية والإسلامية خلال فترة التحضير فى جامعة سانت أندرو بأسكتلندا.
كم جلسنا معه وتعلمنا منه الكثير فقد كان اديبا وشاعرا متبحرا في علمه وأدبه وشعره وكان لديه خيال فنان يجسم الإحساس ويظهره أمامك وينحت الصورة في أشعاره وقصائده فتجد نفسك أمام لوحة ساحرة تعبرعن نفسها.
ولا انسى تلك الليلة التي كنا نحتفل فيها بمرورعام على رحيل شهيد وادي سيدنا في ثورة أكتوبر الطالب احمد عثمان سعد.. أنظر كيف استحضر الشاعر محمد مهدى صورة زميله الشهيد احمد حين قال:
ما لي وللراح والحسناء والعود
ولت عهود سقاة الخمر والغيد
سكرت حتى سئمت الكأس من سكرى
من نشوة العيد لا من فرحة الجيد
واذ بأحمد في الظلماء يرمقني
واذ بأحمد طيف غير موجود
مضى تولى تناءى عن مرابعنا
فأعجب لطيف تولى غير مطرود
واحسرتاه فاني اليوم تقتلني
ذكرى الشهيد بتأريق وتسهيد
الى ان يقول:
فرق تسد كان قانونا لدولتهم
فحاربونا بتفريق وتشريد
ما كان أروعه من شاعر حين القى على مسامع الحشد في المدرسة هذه المرثية العصماء في شهيد الوطن.
وفي الستينات من القرن الماضي ألف قصائد عن فلسطين والقدس وحزب البعث العربي التي كان يرددها الطلاب في المدارس ويحفظونها عن ظهر قلب حيث ألف قصيدة عن فلسطين من 40 بيتاً أذكر منها هذا البيت :
هناك حيفا ويافا خلف الحدود أَقسْمَتْ بالله أن نر كيد اليهود
وعن جانب اهتماماته بالتراث النوبي واللغة النوبية فهذا جانب أيضاً أخذ من وقته الكثير. فقد بحث ونقب في التاريخ وساعده في ذلك رغبته وإجادته للغة النوبية بكل لهجاتها. وأذكر أنه كان قد قدم دراسة لجامعة لندن ساوث لجمع وحفظ التراث النوبي وقد تبنت هذه الفكرة الأستاذة الدكتورة كيرستى والتي كان من المزمع الالتقاء بها في سبتمبر القادم في لندن لكن لم يمهله الأجل ليكتمل المشروع كما كان يريد. وفي هذا الجانب له شعر كثير وأورد مثال عن ما قاله عن وادي حلفا أيام الهجرة:
فجرعة من مياه النيا غايتنا وكسرة القمح من أغلى أمانينا
وفي المعابد آثار مدونة من عهد كشتا وأخناتون وآمونا
ومن اروع ما قرأت ترجمته للأغنية النوبية المشهورة (دسي ليمونا) - شبه الليمونة الخضراء- إلى اللغة العربية. ففي هذه القصيدة أخذ الشاعر الفكرة والصور من النوبية وعبرعنها باللغة العربية.. وهنا ربما كان سبب الغموض في الصور والخيال في هذه القصيدة المترجمة رغم أنه كان يجيد اللغتين إجادة تامة إلا أنها كانت محاولة منه فى أن يخلق نوع من التجانس بين الثقافة العربية والثقافة النوبية وأخال أنه نجح في ذلك، أما القارئ الذي يعرف اللغة النوبية سيدرك المعاني وجمال هذه القصيدة والصور التي عكسها حيث تكون الصورة مكتملة عنده وإليكم بعض الأبيات من هذه القصيدة:
ألا يا دسا ليمونا
في زورق السحر المعطر
في هدوء الأمسيات
سمراء جالسة وشمس تحترق
ونعيق ضفدعة تحاكي
في الدجي معني الأرق
والشعر في سمراء
في لون الدجى
تلك الصحيفة مابها
ما شأنها
تلهو أناملها بها
سمراء لم أرها
ولن أرها
كفانا في الجوى
والشعر في سمراء في لون
الدجى
نوبية هي حلوة القسمات
في لون البجا
ماذا أرى
خصلات شعر قد
تدلت في المياه
أدركت من سحر العيون
من الجمال .. من الحجى
سر الإله
تلك الصحيفة ما بها
ما شأنها
تلهو بها
ألا يا أسمر اللونا
ألا يا دسي ليمونا
ألا تدرين أن النيل
نيل جدودنا أسمر
وهذا الثمر يا سمراء
حلو لونه أصفر
وهذا الزورق السحرى
فيه حلمنا أزهر
وتحت نخيلنا نمرح عنف
وصوت الناي والطنبور
والمزمار والدف
ألا يا أسمر اللونا
ألا يا دسه ليمونا
كان موسوعة في الأدب النوبي وكان يتقن الأحاجي والقصص التراثية القديمة وكان يسجلها للأطفال للمعرفة وحفظ التراث وما زالت تسجيلاته القديمة موجودة. وللصدف الغريبة المحزنة فقد فقدنا زميله الباحث والناشط في التراث النوبي واللغة النوبية الركن الدكتورعبد الحليم صبار، طيب الله ثراه، الذي توفي في لندن قبل شهرين. والآن برحيل البروف محمد مهدى فقدنا الركن الثاني في هذا البناء و هذه المسيرة.
وخير ما أختم به هذا السفر في دنيا البروف محمد مهدى أن أدعو له بالرحمة والمغفرة بقدر ما قدم ، ولزوجته وأبنائه وبناته وأهله وأصدقائه ومحبيه الصبر وتحمل لوعة الفراق والرضاء بقضاء الله وقدره وجميعاً نمتثل بآيات الذكر الحكيم:
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157).
شوقى محى الدين أبوالريش
11 يوليو 2017
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.