الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القبيلة والإستقرار السياسي في جنوب السودان !! .. بقلم: شوكير ياد
نشر في سودانيل يوم 22 - 11 - 2017

عند الحديث عن مستقبل الإستقرار السياسي في جنوب السودان، في ظل الصراعات السياسية التاريخية الممتدة وسط القيادات السياسية الجنوبسودانية. يتبادر الى الذهن مسألة القبلية السياسية في جنوب السودان، والتي مثلت اساس الفكر السياسي الجنوبي الذي الذي إعتنقه القادة السياسيون في ممارستهم لمسألة السلطة.
وقد أشارت الممارسة السياسية للنخب الجنوبية عبر المراحل المختلفة، وتسلسلها عبر سياقاتها المختلفة لتلك الحقيقة الهامة، والتي قادت الى عدم الإستقرار السياسي للحكومات الجنوبية عبر الحقب التاريخية المختلفة.
وإذا ما تم التطرق الى تجربة الحكم الذاتي الأولى في 1972، نجد أن صراعات السلطة والنفوذ التي إستندت الى الأبعاد الإثنية، هي التي أدت الى إنقسام الجنوبيين فيما بينهم ، طيلة فترة ال(10) سنوات والتي مثلت عمر الإتفاقية. فقد توفرت المقومات والظروف الداخلية لإنهيار الإتفاقية منذ الوهلة الأولى، بسبب النزعات الإثنية للقادة السياسيين حول السلطة آنذاك، والتي سهلت من إختراق الصف الجنوبي. وإستغلال النخب السياسية الشمالية لتلك الصراعات الإثنية ، باللعب على تناقضات الجنوبيين من خلال استخدام وتطبيق النظرية الإنجليزية المشهورة "سياسة فرق تسد". وكان من الطبيعي ان تقود تلك الصراعات السلطوية الإثنية الى عدم الإستقرار السياسي، وغياب برامج التنمية في جنوب السودان. ومن هنا يمكن الحديث بأن القادة الجنوبيون أضاعوا منذ الوهلة الأولى فرصة النهوض بجنوب السودان، بسبب توجهاتهم الإثنية والتي أضحت أحد آليات الحصول على السلطة. وتفويت فرص وضع برامج سياسية تنموية شاملة للإرتقاء بإنسان المنطقة والاقليم، ولكنهم "أضاعوا" على الجنوبيين تلك الفرصة الذهبية بسبب نزعاتهم السلطوية المتطرفة .
ثم جاءت فترة الحكم الذاتي الثانية في 2005م، والتي توفرت فيها كل الظروف لصالح نجاحها،خاصة بعد ان زاد المد الوطني الجنوبي بصورة غير مسبوقة، والشعور العام الذي إنتاب الشعب الجنوبي بوحدة الهدف والمصير، الا ان الممارسة الفعلية للسلطة جاءت عكس ما كان متوقعاً. فقد أطلت مسألة الصراع حول السلطة برأسه من جديد؛ ولكن من خلال صراع آخر، نشأ ما بين ما سمي بتيار اولاد قرنق، وتيار اولاد كير، والذي انعكس بظلاله على حكومة الوحدة الوطنية، وعلاقة الحركة الشعبية وشريكتها المؤتمر الوطني. فقد ظهر عدم الانسجام الفكري والسياسي بين هذين التيارين بسبب المصالح المتعارضة، الأمر الذي أثر على أداء الحركة الشعبية في المجمل العام. وقد إستغل حزب المؤتمر الوطني تلك الخلافات الأيديولوجية بين التيارين المتعارضين لخدمة أجنداته وأهدافه والتي تُعيق بطبيعة الحال التنفيذ الحقيقي لإتفاقية نيافاشا. الأمر الذي أظهر نفس الممارسات التي حكمت إتفاقية أديس ابابا 1972م، من حيث الإنشغال بصراعات السلطة وإهمال الجوانب التنموية في جنوب السودان. تلك الخلافات الايديولوجية ساهمت - بكل تأكيد- في إفشال تجربة الحكم الذاتي الثانية والتي كان من الممكن أن تؤسس لإرساء مباديء الحكم الرشيد، ثم الإعداد للمرحلة اللاحقة ما بعد الإنفصال.
اما تجربة الحكم الأولى ما بعد الإستقلال، او الجمهورية الأولى في 2011، فقد كان من الطبيعي ان تتأثر بتلك الصراعات الأيديولوجية التي حكمت الممارسة السياسية للنخبة الجنوبية في ظل فترة الحكم الذاتي الثانية في 2005م.حيث نجد ان الجمهورية الأولى مثلت "مسخاً" مشوهاً لمشروع السودان الجديد المثالي والذي كانت تتغنى به الحركة الشعبية ايام النضال، وظهرت بوادر الخلاف السياسي الإثني عند اول حكومة وحدة وطنية بعد الإستقلال، والتي كُرست فيها المناطقية السياسية الإقليمية بكل أبعادها. وهو النهج السياسي الذي ادى الى اندلاع احداث 15ديسمبر2013م المأساوية، والتي أظهرت البعد الحقيقي لهذا الصراع الإثني بكل أبعاده، وتعيد الى الأذهان أحداث مدينة بور1991م، والتي راح ضحيتها الالاف من مواطني تلك المنطقة . فقد خلف الصراع السلطوي - الذي دار بين فرقاء الحركة الشعبية في 15ديسمبر2013م- تداعيات سالبة على حياة المواطنين بصورة دراماتيكية، تحول بموجبها الصراع الى عنف ممنهج ضد إثنية بعينها في جوبا عقب اندلاع تلك الأحداث في أيام (16-18) . بعدها إنتشرت رقعة الحرب في الأيام التي تلتها لتشمل مناطق أخرى في بور، بانتيو، ملكال، فيما يشبه العنف الإنتقامي او العنف المضاد. حيث تمت نفس الممارسات التي حدثت في جوبا، من عمليات القتل على الإثنية. ويلاحظ في بدايات الأحداث ممارسة بعض الإثنيات لدور الحياد حيال الأزمة، الا انها في نهاية الأمر قامت بحسم موقفها، بأخذها إتجاهاً في الحرب المشتعلة ، بالإنضمام لأحد أطراف الصراع.
يتضح من خلال هذا السياق أن حرب ديسمبر2013، عكست بكل وضوح حقيقة تلك الصراعات الإثنية التي تتمحور حول السلطة، وهي ذات الحقيقة التي توصل لها المجتمع الدولي، الأمرالذي قادها الى معالجة أزمة السلطة في جنوب السودان من خلال إتفاقية حل النزاع 2015، والتي إستندت في الأساس على البعد الإثني، والتي أفضت الى تقاسم السلطة فعلياً بين الإثنيتين الكبيرتين بقيادة كير ومشار.
ثم جاءت أحداث يوليو 2016م لتدحض- بكل تأكيد- ذلك الاعتقاد الذي يتم فيه تفسير وإختزال مشكلة جنوب السودان في معضلة القبلية المحضة. فقد قادت صراعات المصالح والسلطة الى نشوب خلافات عميقة في صفوف الحركة الشعبية في المعارضة بين مشار والجنرال تعبان دينق. ذلك الصراع الذي بدأت إرهاصاته عندما تم إقصاء الجنرال تعبان دينق من حقيبة البترول- التي كان من المفترض أن يشغلها- بعد إعلان حكومة الوحدة الوطنية التي جاءت بموجب اتفاقية حل النزاع بجنوب السودان. وهوالأمر الذي لم يتقبله الجنرال، لينقلب على استاذه مستغلاُ، الوضعية التي خلقتها حرب يوليو 2016م والتي قادت الى خروج مشار من العاصمة جوبا في ذلك السيناريو الغامض. فقد إنقسمت الحركة الشعبية في المعارضة الى جناحين نتيجة تلك الأحداث الدموية، الأولى والتي تمثلت في جناح مشار، والثانية جناح تعبان - والذي خلف مشار في منصبه الخالي- والذي كيف نفسه لينسجم وتوجهات الحكومة بقيادة الرئيس كير. أثبتت الأحداث اللاحقة بعد الإنشقاق عن حقيقة هامة، تمثلت في طبيعة هذه الصراعات ، والتي ظهر جلياً بأنها لم تكن تتعلق في الأساس بالقبيلة بقدر ما كانت تتعلق بحجم المصالح المتحققة من وراء السلطة. فقد قاد الجنرال تعبان – في سبيل تعزيز موقعه في الحكومة- حملات عسكرية واسعة ضد غريمه مشار في مناطق واسعة على طول البلاد؛وذلك بالرغم من ان منتسبي تلك القوات المتحاربة في الفصيل المنشق ينتمون لنفس الإثنية الواحدة . ما يؤكد بأن الصراعات في جنوب السودان قد تحدث في داخل نفس القبيلة الواحدة، كالصراع الذي حدث بين مشار والجنرال تعبان.
وإذا ما تم التعمق قليلاً في الداخل الحكومي،سنكتشف نفس الممارسات التي حكمت صراع مشار- تعبان. فقد نشأت صراعات داخلية بين تيارات فكرية متعددة داخل نفس المنظومة ؛ وذلك لأسباب ودوافع لها علاقة بالسلطة. وإذا تم وصف الصراع الخفي- الذي ظهر الى العلن لاحقاً- بين رئيس البلاد ورئيس أركان جيشه ووضعه في سياقه الطبيعي، سنجد أنه يتجسد حول مسألة السلطة وليس مصالح القبيلة .
فعندما تنامت النزعات السلطوية للأخير وشغفه للقيادة، هنا انجلت حقيقة الأمور،حيث تم الإطاحة به دون وضع الإعتبار لتداعيات الأمر.
وإذا ما تم تصوير الصراع السياسي بين فرقاء الحركة الشعبية في ديسمبر 2013م، بأنه صراع بين اثنيتي الدينكا والنوير، فكيف يتم تفسير صراع الرجلين، مشار وتعبان ووضعه في أي سياق..؟!
إذن يتضح جلياً في سياق تلك الأحداث، أن صراعات السلطة هي التي تحرك القادة السياسيون الجنوبيون وليس إنتماءهم الإثني. وأنه من الممكن ان تنشأ تلك الصراعات السلطوية بين مكونات الإثنية الواحدة، في أي وقت من الأوقات ، متى ما تعارضت المصالح بين افراد القبيلة الواحدة، وهي حقيقة أثبتتها – بكل تأكيد- صراعات الحركة الشعبية منذ نشأتها ، كالتي حدثت بين قرنق وابن عمومته أكوت اتيم بسبب قيادة الحركة ،والتي أدت الى مواجهات دموية بين فصيل أكوت أتيم وفصيل قرنق والتي انتهت بمقتل الأول. ثم خلافات قرنق / كير والتي تبلورت عنها محادثات رومبيك ما بعد مشاكوش، وخلافات مشار/ تعبان بعد اتفاقية حل النزاع 2015، وثم خلافات كير/ ملونق في 2017 في ظل نفس الإتفاقية .
فكان من الطبيعي أن تحدث مثل تلك الصراعات؛ لأنه نتاج فكر الحركة الشعبية منذ سنوات النضال. ذلك الفكرالذي لم يتغير ولم يتواكب حتى مع تغير الزمان والمكان والظروف السياسية.
والحقيقة الماثلة- بكل تاكيد- هي أن النخب الجنوبية فشلت في خلق شعور موحد بالانتماء للوطن اكبر من القبيلة، خلال تلك الحقب السياسية التاريخية الممتدة؛ وذلك بسبب عدم معالجة النزعات القبلية خلال مراحل التطور السياسي للنخب الجنوبية، التي حكمت الممارسة السياسية الفعلية للقادة في جنوب السودان، والتي كانت تهدف للسيطرة والهيمنة على الحياة السياسية بأوجهها المختلفة، الحزبية، العسكرية،الاقتصادية، الثقافية. وهو ما مثل احد المثالب الرئيسية في عدم تشكيل الوعي الجمعي القومي للجنوبيين والإنتماء للوطن. وقد مثلت معضلة الإندماج الوطني،اكبر مشكلة لدولة جنوب السودان، شأنها شأن دول القارة ما بعد الإستقلال؛وذلك بسبب رغبة القبائل المختلفة في السيطرة على الحياة السياسية برمتها،والتي مثلت نزاعتها الإثنية الطاغية المحرك الأساس لصراعاتهم حول السلطة.
فقد ساهمت السياسة البريطانية والتي إستندت على قاعدة الحكم الإهلي في عزل القبائل عن بعضها البعض،مما القى بظلاله على الممارسة السياسية للجنوبيين في الفترات اللاحقة - ما قبل وبعد استقلال السودان،وانفصال الجنوب؛ وذلك لعدم وجود إنسجام فكري وسياسي، فيما بينهم بسبب تقديم الولاءات القبلية على الولاء للوطن.
يتضح من واقع التحليل التاريخي لصراعات النخب السياسية الجنوبية في الفترة من (1972-2017م)، ان صراعات السلطة ،هي التي كانت - ومازالت- تشكل الواقع القبلي القائم على التصارع، والذي نجم عنه بطبيعة الحال الإنقسام المجتمعي بين مكونات الدولة الواحدة عبر الحقب المختلفة، والتي إمتدت الى داخل الحركات السياسية والمسلحة التي كانت تقاتل بإسم جنوب السودان منذ الاستقلال (السودان)، والتي نذكر منها حركة تحرير جنوب السودان، والحركة الشعبية التي إنشطرت الى عدة مجموعات اثناء النضال. حيث لم تسلم حركة تحرير جنوب السودان من تلك الآفة "القبلية" بسبب النزاع حول قيادة الحركة، وهو الأمر الذي انعكس بظلاله على إتفاقية أديس ابابا 1972 ،حيث ظهرت بوادر الإنقسام منذ الوهلة الأولى بين قيادات الحركة، خاصة القائد العسكري غوردن مورتات، والذي كان من أشد المناهضين لإتفاقية أديس ابابا 1972م، بسبب توجهاته الإثنية تجاه قيادة الحركة آنذاك.
وقد مثلت القبلية، المُحّرك والآلية التي إستخدمتها تلك النخب الجنوبية في صراعاتهم السلطوية؛ وذلك بإستغلال القبائل وتعبئتها ضد بعضها البعض، مقابل التحفيز المعنوي والمادي الذي يتحقق من وراء الإستحواذ على السلطة، كالحصول على وضعية إجتماعية متميزة، او الحصول على إمتيازات سياسية او إقتصادية واسعة تدفع في اتجاه التمكين السياسي والاجتماعي .الأمر الذي يخلق حالة من الشعور بالفخر والزهو وسط تلك القبائل بالإنتماء للإثنية الحاكمة. ومن هنا تنشأ الصراعات السلطوية مدفوعة بعجلة القبيلة وتلك العوامل المحفزة التي ذُكرت في السياق اعلاه. حيث تجد أن السياسي الجنوبي يقوم بتعبئة الإثنية التي ينحدر منها ويدفعها للاعتقاد بأنها الأفضل والأجدر على الاستحواذ على السلطة والحكم في جنوب السودان؛ وذلك لدفع القبيلة برمتها للوقوف خلفه، للوصول للسلطة وتحقيق مآربه الشخصية والتي ليست لها علاقة في أغلب الأحيان بمصلحة القبيلة. وما يمكن الإشارة إليه في هذا السياق، هو أن الإعتقاد السائد لدي القبائل في جنوب السودان بالأفضلية والتفوق العرقي من صنع القادة السياسيين، وذلك بفعل مساهمتهم في خلق الوضع المجتمعي القبلي المتصارع. وهي نفس النقطة المحورية التي عضدها القيادي بحزب المؤتمر الوطني، ماثيو مايور في إحدى الحوارات الصحفية بأن "المشكلات الموجودة بالبلاد ليست مشكلات بين المجتمعات، وانما مشكلات وأزمات نتجت بناءً لخلافات قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان حول السلطة والحكم".
بيد أن المفارقة الجديرة بالذكر هنا، هي ان تلك النخب السياسية التي اعتنقت هذا النهج، كانت كثيراً ما تنجح في تمرير تلك الأيديولوجية القبلية لمجموعاتهم التي ينحدرون منها وإستمالتهم الى صفهم. وذلك بسبب توفر الظروف المواتية التي تدفع في إتجاه تقبل القبائل لتلك الأفكار، خاصة وأن أغلب المواطنون الجنوبيون مازالوا يعيشون تحت وطأة نظام مجتمع اللا- دولة والتي تسيطر عليها عادات وقوانين القبيلة. بمعنى آخر، يلاحظ في المجتمع الجنوبي أنه دائماً ما يلتف حول الشخص القائد الذي يشعرهم بأنه يحقق مصالح القبيلة، كالسلطان في حالة القبيلة او العشيرة او الأب في حالة الأسرة الممتدة، وهو الأمر الذي يسهل من التأثير عليه بواسطة تلك الزعامات سواء كانت تقليدية ام سياسية.
وعندما تنشأ الصراعات السياسية على السلطة، تستصحب معها تلك التحيزات الفكرية القبلية، التي تقوم بإذكاء تلك الصراعات السلطوية التي تخرجها من إطارها السياسي، لتأخذ أشكالٍ وأبعادٍ قبلية واسعة النطاق. وهذا ما ذهب إليه القيادي بالحركة الشعبية جناح الحكومة وعضو مجموعة المعتقلين السابق شول تونق ماياي، والذي ذكر في إحدى حواراته في صحيفة "الوحدة" المتوقفة، حول الأزمة الحالية بأن "القبلية والجهوية إستطاعت ان تجد أراضي خصبة بعد أحداث ديسمبر2013، وان هناك عناصر إنتهازية إستقلت تلك الوضعية لتحقيق طموحاتهم الشخصية والسياسية". ما يؤكد تلك الحقيقة الهامة، والتي تتمثل في إقتران الصراع السياسي في جنوب السودان بالقبيلة في معظم الأحيان، والتي أضحت أحد آليات الحصول على السلطة في الفكر السياسي الجنوبي طيلة هذه الحقب التاريخية. ولكن ربما غاب على مُخيلة تلك النخب السياسية بأن التنوع الإثني يمثل عنصر قوة في الدولة وليس عنصر شتات ، وأن الإنتماء للقبيلة ليس بعيبٍ في حد ذاته ، ولكن عدم الوعي به قد ينجم عنه العديد من المشكلات- بسبب إعلاء النزعات القبلية- والتي تمتد الى الحياة السياسية برمتها،لتصبح بمثابة مباراة صفرية...وتصبح السلطة قيمة في حد ذاتها، من يحصل عليها يحصل على كل شيء.
وقد غاب على أذهان النخب السياسية الجنوبية ، أن الهيمنة الإثنية قد تتحول في بعض الإحيان الى احد أدوات الإضطهاد السياسي بالدولة خاصة، إذا ما إقترنت بالممارسات التي ذكرت في السياق السابق. حيث تشعر القبيلة المسيطرة بأحقية الحصول على الإمتيازات أكثر من القبائل الأخرى، وهوالأمر الذي يتنافى ومبدأ العدالة المجتمعية في الدولة الواحدة، الأمر الذي يحولها "الهيمنة الإثنية" لكي تصير أحد "معاول" هدم الإستقرار السياسي بالدولة.
إذن مشكلة جنوب السودان لم تكن في القبلية في حد ذاتها، بقدر ما تكمن في النخب السياسية نفسها والتي لم يتجاوز فكرها السياسي الإطار القبلي الضيق، الذي تُختزل فيه كل الصراعات .
فالجنوب رغم الانفصال والاستقلال، ظل البعد الاثني محركٌ أساسي في الحياة السياسية برمتها، وذلك بفعل مساهمة ذلك الموروث التاريخي المسمى" القبلية العنصرية" في تشكيل وعي النخب السياسية الجنوبية، والذي ظل العامل المحدد والأساس لمشكلة جنوب السودان ما بعد الاستقلال. حيث فشلت النخب السياسية الجنوبية في نقل الصراع السُلطوي من إطاره القبلي، الى مرحلة الصراع السياسي الذي تتصارع فيه الأفكار والأيديولوجيات السياسية. ويمكن الحديث في ذلك السياق، بأن الأمر ينسحب أيضاً حتى على النخب الشمالية التي حكمت السودان، والتي تأثرت بهذا البعد الإثني في ممارستها للسياسة. وعلى الرغم من بقاء المكون البشري المتجانس نوعاً، والذي تجمعه قواسم وروابط اللغة والدين، الا ان نزعة القبيلة لم تختفِ عن الممارسة السياسية العادية، بل وظلت في تنامي مضطرد بصورة لا تخطاها العين، بالرغم من الاساليب الذكية التي ظلت تتبعها النخبة السياسية الشمالية في مدارة الأمر (الحكومات الطائفية/ دعم القبائل بالسلاح). بيد أن هذه المسألة أطلت بشكل أكثر وضوحاً في حقبة "حكومة المؤتمر الوطني" الممتدة ، من خلال ممارساتها السياسية التي تدعم هذا الإتجاه. ويكفي فقط القاء نظرة عابرة على الأوضاع السياسية السائدة في السودان ، لتكتشف تلك الحقيقة الماثلة. فإذا ما تم تصوير الصراع الذي يدور بين الحركات المسلحة في الجنوب السوداني ومناطق الهامش والحكومة، ووضعه في سياقه الطبيعي، نكتشف استمرار الصراع على ذات النهج الإثني الذي ذكر في ذلك السياق. وهو ذات الأمر الذي ينسحب على مؤسسات الدولة التي تحكمها نفس السياسات ذات الأبعاد الإثنية. فما يحدث من عمليات الإقصاء السياسي والإجتماعي في كل مؤسسات الدولة لا تغيب عنها تلك الدوافع العنصرية القبلية. ونجد أن معظم مؤسسات الدولة الحيوية تم "خصخصتها"، لصالح مجموعات بعينها دون سائر المجموعات الاخرى بهدف التمكين السياسي والإجتماعي. اما مسألة الحكم والسلطة فظلت من المسائل العصية على ايجاد الحل الجذري لها، في ظل تنامي تلك النزعة الموروثة من تركة الإحتلال الانجليزي. فمن العسير أن تخرج السلطة من دائرة العصبية الضيقة والفاضحة في الظروف الطبيعية والعادية. وهو ما يمثل احد المهددات الرئيسية للإستقرار السياسي في الدولة السودانية. ما يعني ان الشمال المتقدم لم يسلم أيضاً من لعنة القبيلة التي دمرت إستقرار دولة الجنوب.
فقد خرج المستعمر الانجليزي من السودان، وترك للنخبة الشمالية تركة "السلطة" والتي انشغلوا بتقسميها فيما بينهم بعد الإستقلال دون أن يمنحوا الجنوبيون نصيبهم من التركة، بسبب إتباعهم لتلك السياسة الإقصائية. الأمر الذي خلف اثاراً مدمرة على العلاقة ما بين الشمال والجنوب والتي انتهت بإنفصاله وإستقلاله. والمفارقة الغريبة أيضاً أن يعيد التاريخ نفسه، وتظهر نفس الممارسات الشاذة مرة أخرى، ولكن في سياق تاريخي ومكاني آخر. وبدلاً من إستيعاب دروس الماضي وإستصحابها للمستقبل، ألا ان قادة البلاد لم يحيدوا عن نفس الأدوار والممارسات الشاذة التي حكمت ممارسات النخب السياسية السودانية. الأمر الذي قاد الى إنهيار الدولة الجنوبية بسبب التهافت على السلطة.
وإذا ما تم إستشراق مستقبل الإستقرار السياسي في جنوب السودان، نجد أنه مرهون بزوال الفكر السياسي القبلي الذي ينتهجه القادة السياسيون في ممارسة الحكم، والذي تجسده الحركة الشعبية،وكل النخب التي تمثلها في الحكم، خاصة وأنها تحمل تاريخاً ممتداً من الصراعات السلطوية الداخلية وسط قياداتها التي لا تؤمن في كل الأحوال بقيم التعايش المشترك وقبول الآخر المختلف.
وقد نتساءل في هذا السياق بعيداً عن التحيزات الفكرية...
ما الذي يمكن أن تقدمه القيادات السياسية الجنوبية – القادمة – بصفة عامة، او قيادات الحركة الشعبية اللاحقة حتى إذا ما ذهب الرئيس كير وجاء آخر، وبقيت الأيديولوجية القبلية مسيطرة على فكرهم السياسي...؟!
حتماً سوف لن تختلف الممارسات السياسية عن سياقاتها الطبيعية التي حكمت أيديولوجيا الحركة الشعبية. وقد تصدق مقولة "إذا إتفقوا سرقونا وإذا إختلفوا قتلونا" -عن الحركة الشعبية- في كل الأحوال مع تلك القيادات السياسية. ويكفي الإضطلاع على تقرير"سنتري" للناشط الأمريكي جون كلوني عن حجم الفساد المرتكب بواسطة قيادات الحزب ، او شهادة دكتور جوك مدوت امام الكونغرس الامريكي، عن إنفصال قادة الحركة الشعبية عن الحقائق القومية ، وإختيارهم طريق مكافأة أنفسهم، والإسراف في الإنفاق،وأظهروا قدرة ضعيفة جداً في وضع برامج لرفع مآسي زمن الحرب عن كاهل البلاد.
إذن مستقبل الإستقرار السياسي مرتبط بظهور نخب سياسية وطنية واعدة وواعية - بمشكلة جنوب السودان الحقيقية- تتبنى أفكاراً وطنية خالصة قادرة على تجاوز مسألة "القبلية السياسية" والإيمان بمبدأ التعايش السلمي بين مكونات الوطن الواحد. ومعالجة تلك المشكلة من خلال عملية الإندماج الوطني،والتي تحتاج الى جهود كثيرة،تعنى بالمصالحات الوطنية،وتحقيق العدالة الاجتماعية لضحايا العنف القبلي،وسن بعض التشريعات الهامة والتي تدفع في اتجاه نجاح تلك العملية، وإذابة تلك الظاهرة التي واجهت معظم دول القارة الافريقية ما بعد الإستقلال. وإقرار مفهوم المواطنة الدستورية لتجاوز عقبة بناء الهوية الوطنية والتي تمر بمراحل تطورية عديدة. وهي صيغة دستورية مؤقتة - يرتكز فيها الولاء الوطني على مباديء الدستور- تهدف الى تحقيق الإستقرار السياسي والأمني وصولاً الى صيغة الهوية الوطنية الجامعة على المدى الطويل.
وإذا ما تعذر ظهور تلك النخبة السياسية الوطنية المتطلعة الى إحداث ثورة مفاهيمية في الفكر السياسي الجنوبي الذي يستند الى عامل القبيلة، هنا يجد المجتمع الدولي ضالته التي يسعى لها، وهو التدخل تحت ذريعة إعادة بناء الدولة من خلال الإحتلال، والتي تهدف في نهاية المطاف الى خلق قيادات سياسية جديدة في الدولة المحتلة ، يقوم على عاتقها مسألة إعادة بناء دولتهم في المستقبل بمفاهيم وأسس تفرضها الدول الراعية للإحتلال.
في خاتمة هذا المقال يمكن الحديث بأن مشكلة القادة السياسيون الجنوبيون بصفة عامة تكمُن في التمسك بالولاء القبلي- الذي يعتبر ولاءاً فردياً- والذي يتغلب على الولاء الأسمى في معظم الأحيان. ولكن متى ما تم تقليل حجم تلك الولاءات الفردية وحلت مكانها الولاءات القومية. هنا يمكن إستشراق مستقبل الإستقرار السياسي لدولة جنوب السودان في المستقبل المنظور.
إذن فالقبلية في جنوب السودان هي القناع الذي يمارس خلفه الجنوبيون ضروب السياسة المختلفة .
المقال جزء من خاتمة كتاب غير منشور بعنوان
جنوب السودان
واقع القبيلة في الحياة السياسية
دور صُراعات السلطة (1972- 2017)
شوكير ج. ياد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.