كثيرا ما نسمع عن مصطلح دول ناجحة ودول فاشلة، تقاس بمعايير مختلفة وقد تكون متحيزة أو حيادية. لكن مما لا شك فيه على الأقل في نظري الشخصي أن السودان هو دولة فاشلة بكل المعايير الحيادية والمتحيزة. لا أود أن استطرد ماهي معايير النجاح أو الفشل لان كلها ستقود إلى نتيجة واحدة هي أن السودان كدولة قد فشل في استغلال وتعمير موارده البشرية والمادية. وهنا قدمت الموارد البشرية على المادية لان الإنسان هو قوام النجاح والتطور. لكن مقالي سيتناول سردا تاريخيا لماذا فشلنا في أن ننهض ببلدنا في حين أن دولا أفقر وبمورد اقل وعدد اقل من السكان والتنوع حققت نجاحات مبهرة حتى في قارة أفريقيا المتأخرة. السودان بحدوده الجغرافية وهويته السودانية بدا قبل الاستقلال بمدة طويلة، لكن الحديث عن هذه الفترة ومدى نجاح تكون وتشكل الدولة السودانية فيها كان رهينة بيد المستعمر ولم يكن القرار بيد السودانيين في أمر بلدهم بالرغم من أن المستعمر كان أرئف بالسودانيين من بني جلدتهم. لذا فإن شماعة الاستعمار تعتبر عذار كافيا لتعليل لماذا فشل السودان في النهوض بموارده البشرية والمادية في تلك الحقبة. ومما لا يخفي على المطلعين منا على الأقل، فان هناك عوامل سودانية أيضا ساهمت في عدم نجاح تكون الهوية السودانية في تلك الحقبة ومن أهمها تفشي الجهل والأمية الذي دعمت وجوده الأسرتين الإقطاعية (آل الميرغني وآل المهدي) التين مثلتا أقطاب السياسة في السودان إبان حقبة المستعمر. فقد كانت مصالح هذه الطُقمة قائمة على استغفال الشعب ونهب مقدراته باسم الدين تارة والسياسة تارة اخرى. كونت هذه العصبة ثروات هائلة خلال تلك الحقبة باسم الدين من أموال الضعفاء وفقراء الشعب تحت وسم بركة الشيخ والتوسل به. وكان حريا أن تدار هذه الأموال كوقف باسم الجماعة الدينة أو غيرها وتنفق على مصالح المجتمع من تعليم وخدمات صحية ومساعدة الفقراء وغيرها. لكن ما حدث هو أن "الولي" اعتبر هذا ماله الخاص وورثه أبناءه من بعده. فتجد أن القرية التي كونت للولي كل هذه الثروة لا تمتلك حتى مركز صحي صغير أو مدرسة ابتدائية في حين أن ابناء الولي ينالون أفضل التعليم خارج القرية ويعيشون حياة مترفه من أموال الفقراء والمغفلين. وإذا ما قام هذا الولي بأي عمل خيري وصدقه فإنه يتمنن بها على الناس ويقول أنأ فاتح بيتي وأنا وأنا وينسى انه وما يملك من فضل هؤلاء الفقراء. الاستفاضة في الاسر الإقطاعية والنهب بإسم الدين يحرفنا عن موضوعنا الأساسي وهو لماذا فشل السودان في أن ينهض بمقدراته. لنقفز بالحديث إلى حقبة ما قبل الاستقلال مباشرة، ففي هذه الحقبة بدا تشكل الرأي الوطني وهوية السودان الحالي. انقسمت مصالح الاسر الإقطاعية في تلك الفترة بين من يرانا تابعا لمصر ومن يرانا دولة قائمة بذاتها وقد اثرت المشاكسات بين الأسرتين في تشكيل الطبقة السياسية التي انقسمت بينهما. فلم يكن السودان الدولة الوحيدة المستعرة ولم يكن الاستقلال نتيجة كفاح مسلح، بل أن الدول الاستعمارية تخلت عن كل مستعمراتها في نفس الحقبة الزمنية (ما بعد الحرب العالمية الثانية) بالرغم من اختلاف تواريخ خروجها بين دولة وأخرى. القادة الوطنين الذين تولوا حقبة الانتقال من سلطة المستعمر إلى السلطة الوطنية يعتبرون زعماء في معظم الدول بحكم انه يرجع لهم الفضل في تكوين الدولة الوطنية. في نظري لقب زعيم أو قائد وطني لا يطلق فقط لمن قادة البلد في الحقبة الانتقالية؛ بل لمن أسس نظام الدولة وبنى لها كيانها المستقبلي مثل ما يعرف بمصطلح الآباء المؤسسون في الولاياتالمتحدة (founding fathers) أو قادة بعض الدول مثل نهرو في الهند ولي هسين في سنغافورة وعبد الناصر في مصر وغيرهم. ما يهمنا هنا هو أن الزعيم أو القائد هو الذي يؤسس نظام سياسي واقتصادي مستقل للدولة تنبي عليه هويتها وشكلها المستقبلي وليس فقط هو أول من حكمها، فمثلا نجد أن الخليفة المنصور يمكن اعتباره زعيم ومؤسس الدول العباسية بالرغم من انه الثاني في حكمها بعد أبي العباس السفاح لأنه كون وخلق هيكل الدولة العباسية بعكس السفاح الذي كانت جل إنجازاته هي سفك دماء الأمويين. بهذا التعريف، لا أرى أن مصطلح زعيم ينطبق على من قادوا السودان في إبان الاستقلال، وأعنى "الزعيم" اسماعيل الازهري ومن معه "فلم يكن وحده"، واسرد هنا عدة أسباب لذلك. أولا أن قادة الاستقلال لم يضعوا دستورا عادلا وشامل ينصف جميع مكونات المجتمع السوداني بل تأثرت أفكارهم بالأسرتين الكبيرتين في تلك الحقبة وأنتجوا نظاما أقرب إلى المحاصصة السياسة التي لم تنصف الكل. ثانيا لم يقم القادة بناء هوية وطنية سودانية فالبعض رأى الهوية السودانية أقرب لمصر والاخرون ارادوا تشكيل هوية سودانية لكنهم لم يحددوا ملامحها اما الجنوبين فأرادوا سوادنا افريقيا لان العروبة والإسلام لا تشملهم. ثالثا فشل السياسيين في تحجم دور العسكر ومنعهم من الولوج في السياسية. فالسودان كحالة استثنائية عن مصر، أول حكومة وطنية كانت من المدنيين (بعكس مصر التي قادها العسكر من أول يوم إلى يومنا هذا). هذا غير الفشل في بناء خارطة اقتصادية للبلد وخارطة للتنمية الاجتماعية ما جعل اول حكومة وطنية هشة وضعيفة لم تستطع الصمود في أول اختبار فاغتالها العسكر في مهدها واستلموا السلطة ليبدوا صفحة جديدة من تاريخ السودان. إذن فقد فشل الرعيل الأول في بناء دولة السودان والنهوض بها، فما ذا فعل من بعدهم؟. أتى بعد الأزهري حكومة عسكرية جاءت بانقلاب عام 1958 نسبة لفشل السياسيين في إدارة البلد وتشاكسهم المستمر في البرلمان الأمر الذي عطل مصالح البلاد والعباد. عبود وجماعته لم يفلحوا في حلحلة مشاكل السودان بل بالعكس توجهوا بالسودان في تيار أقرب إلى مصر من دون مراعاة لمصالح البلاد وكان نتاج ذلك أتفاقية مياه النيل تلك القسمة الضيزى التي ورطونا بها وبسببها تم تدمير مدينة وادي حلفا وتهجير الآلاف السكان بثمن بخس. وحري بالعسكر أن لا يفلحوا فليست هذه صنعتهم؛ إنما البناء والتطور هو صنع القادة والمفكرين واصحاب الرأي الراشد. انهارت حكومة عبود على يد انتفاضه شعبية قادها الطلاب ومعهم الشعب لكن للأسف ركب السياسيون الفشلة صهوة الجواد واتوا بحكومات كانت أفشل ممن سبقتها في الفترة الديمقراطية الأولى. فترة الديمقراطية الثانية ظهرت فيها جماعات سياسية غير المرتبطة بالأسرتين فقد ظهر الإسلاميين والشيوعين كقوة لها وجود في الشارع. لكن هذا لم يفلح في خلق حكومة مستقرة بلد زاد الامر سواء وازدادت المؤامرات والمكائد السياسية من الأحزاب ضد بعضها البعض متجاهلين الوطن والشعب الذي تغولوا على السياسية باسمه. فما كان من العسكر الا أن قاموا للمرة الثانية بما هم أهل له وهو قلب الحكومات وفرض الأحكام العرفية وكذلك يفعلون. حكومة النميري تتحمل وزرا كبيرا في فشل الدولة السودان نسبة لطول مدة حكمها للسودان، فالنميري نفسه لم يكن ذا فكر Hو أيدلوجية بل إنما جاء به الشيوعين وهو ضابط صغير لحكم البلد. تقلب النميري من بين شيوعي احمر إلى رأسمالي ينفذ سياسات الغرب في بلده ثم إلى إسلامي بين يوم وليلة. قائد بهذه الصفات لا يعول عليه في بناء دولة أو تأسيس أمة بل بالعكس استفحلت مشكلة الجنوب في عهده حتى بعد اتفاقية السلام. انهارت حكومة نميري تحت ثورة شعبية بعد أن أذاق الشعب السوداني كل ألوان السياسية تارة الشيوعية وتارة الرأسمالية وتارة الإسلامية وكل ذلك لم يصلح حال البلد لأنها كانت شعارات امتطاها نميري لإطالة أمد حكمه لكنه لم يلتزم نهج اي منها فهناك أمثله ناجحة لدول إنتهجت هذه المناهج والمدارس الفكرية المتباينة. بعد نميري أتت حكومة ديمقراطية "متشاكسة" كعادة أحزاب السودان السياسية وبرهنت هذه الأحزاب أنها لا تمتلك ادني حس وطني ويمكن أن تقوم بأي عمل أو تتحالف مع الشيطان نكاية في خصومها السياسيين حتى لو أدى ذلك لدمار السودان. لم تدم الحكومة الديمقراطية مدة الأربع سنوات "نفس المدة التي لم تتجاوزها الحكومات الديمقراطية السابقة. حتى انقلب عليها العسكر بتدبير من الإسلامين وادخلوا البلاد في دوامة لا يعلم نهايتها إلا الله، وانتهجوا أساليب في تدمير البلد لمن تكن فيمن سلفهم. رغم طول مد فترة حكم العسكر الأخيرة والمستمرة حتى الأن، لم يتمكنوا من وضع دستور يرتضيه كل مكونات المجتمع السوداني، كما لم يتمكنوا من تطوير البلاد اقتصاديا واجتماعيا رغم توفر موارد نفطية كبيرة لم تتوفر في الفترات السابقة. وصدق من قال "إن الموارد والثروات إن لم تكن بيد أمة واعية ولا ضمير حي، فستشقى الأمة بثرواتها وتقوم الحروب الأهلية". إن مما يؤسَف له أكثر أن تغول العسكر على السياسة أسهم أيضا في إضعاف الجيش السوداني فلم يعد قادرا على القيام بحماية ثغور البلاد وفشل فشلا زريعا في القضاء على التمرد حتى انفصل الجنوب وفي دارفور قامت الدولة بإلاستعانة بمليشيات قبلية للقيام بما هو واجب الجيش الوطني. البشير في شخصه كان أقرب إلى النميري من حيث أنه لم يمكن هو من دبر الانقلاب إنما جاء به الإسلاميين كغطاء لفعلتهم وكان أملهم أن يرد الأمانة بعد انفراج الأمور، لكنه فعلها كسلفه ونكل بزعيم الإسلاميين في السجون ردحا من الزمن. تخبطت حكومة البشير في سياساتها فاصطفت مع صدام في حرب الخليج من دون سابق إنزار واستضافة إرهابي ومشردي العالم في خطوة استعدت بها كل الجيران والأقارب. وفي مجال الاقتصاد منَ الله عليهم بالنفط فهجروا الزراعة التي كانت تحتضر أصلا واصابهم المرض الهولندي الذي لم يفيقوا منه إلا بعد انفصال الجنوب. فترة هذه الحكومة تميزت بضيق الأفق السياسي والقرارات المتعجلة التي لم تحسب عواقبها وظهور متنفذين استغلوا السلطة لأغراض شخصية وورطوا السودان بما هو في غنى عنه. حكومة بهذه الصفات لا يمكنها بناء بلد عانى من التشرذم وجور السياسيين ناهيك عن أن تبني هوية وطنية أو نظام اقتصادي للبلد. إذا أردنا معرفة من المسئول عن فشل الدولة السودانية؛ نستطيع تحديد ثلاث حكومات أو قادة هم من لهم القدح المُعلى في فشل الدولة السودانية. أول الثلاثة هي حكومة الأزهري الأولى لأنها مبدا الفشل الوطني، يتبعها في الفشل حكومة نميري وثم حكومة البشير التي أجهزت على ما تبقي من الوطن. يُلاحظ أننا رمزنا لكل الحكومات برأسها على الرغم من أن كل هذه الحكومات كان عبارة عن مجموعة من الفاسدين وليس الرئيس وحدة لان هناك الكثير من الدول التي نجحت أو فشلت بفعل قادتها. في نظري الوزر الأكبر لفشل السودان ينصب على الحكومة الوطنية الأولى بقيادة الأزهري ومن معه، فلو ترك هؤلاء التشاكس السياسي وأسسوا لنا نظاما سياسيا واوضحوا للعسكر مبكرا أن مكانهم الصحيح هو الثكنات وثغرات الوطن وليس كراسي السلطة، لما وصلنا إلى هذا الحال الأن. لكن لأن البداية كانت فاسدة فقد فسد كل ما جاء بعدها. حكومة نميري أفشلت السودان بتخبطها فنميري كشخص لم يكن معولا عليه أن يبني هوية للسودان أو يخلق له نظام اقتصادي. أما حكومة البشير تأخذ وزرا أكبر من حكومة نميري في ذلك كون أنها دامت مدة اطول "قرابة ثلاثة عقود" تدمر فيه السودان اقتصاديا وحدث شرخ اجتماعي كبير كما انفصل في تلك الجنوب واستفحلت فيها النعرات العرقية والطائفية وقامت حرب طاحنة في دارفور وشرق السودان وجبال النوبة والنيل الازرق. فما ذا تبقي من السودان إذا بعد كل هذا الخراب والدمار؟ ما دام تاريخ الدولة السودانية بهذا السوء، لماذا نثير الماضي السيئ الأن أو ليس الاولى بنا الالتفات إلى المستقبل. الجواب هو أن الإصلاح ينبني على أساس صحيح ويجب علينا أن نقر أن الماضي كان سيئا وأنه ليس العسكر وحدهم من اختطف الدولة السودانية وأفشلها بل هي تراكمات ساهمت فيها كل مكونات السياسية السودانية (حكومة ومعارضة). والذي علينا أن نعيه جيدا هو أن مستقبلنا سيكون اسوأ إن لم نفق من ثُباتنا ونصنع لأنفسنا وطناً يليق بنا وبمقدرات وإمكانات هذا البلد المعطاء. أقول لشباب السودان أنتم المستقبل وأنتم من يقرر من تكونون. السرد التاريخي السابق يبن لنا أن شماعة كنا وكنا هي مجرد أكاذيب نسلي بها أنفسنا من الم الواقع الُمعاش. كثير من الدول مرة بتجارب فاشلة وعاشت حقبا من الظلام والفقر لكنها فاقت من ثباتها ونهضت وصارت مثالا للنجاح على المستوى العالمي. نذكر من هذه الأمثلة دولة كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتركيا وغيرها كثير. إذا ما أخذنا كوريا الجنوبية فنجد أنها ردحت عهدا من الزمن تحت حكم عسكري مستبد فاسد دعمت الولاياتالمتحدة بقاءه وتمدده. لكن هذه الدولة استيقظت من غفوتها وتركت الاعتماد على المساعدات الأجنبية وطورت صناعتها الداخلية ونهضة لتكون قوة اقتصادية كبرى في العالم. دعونا من الأمثلة البعيدة والتي نراها كالنجوم فإذا نظرنا إلى جيراننا في شرق افريقيا، اثيوبيا وتنزانيا ورواندا فنجد أنهم حققو نجاحات اقتصادية واستقرار اجتماعي وسياسي في فترة وجيزة حتى صارت هذه الدول قبلة للاستثمارات الأجنبية في القارة. في اعتقادي السودان يستطيع تحقيق نجاحات أكبر من هذه الدول بموارده المتنوعة وشبابه المستنير فمستويات التعليم في السودان هي اعلى بكثير من هذه الدول وإمكانيات السودان الاقتصادية أكبر بكثير منها. فقط نحتاج إلى قائد يقود سفينتنا الى بر الأمان ويوجه السودان في الاتجاه الصحيح مستقيا الدروس والعبر من تجارب الماضي المؤلمة والأمثلة الناجحة في العالم من حولنا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.