في أوائل الستينات أطلق الرئيس الغيني الأسبق (أحمد سيكوتوري) عبارة بدت صادمة للكثيرين ، إذ وصف فيها السودان بأنه (رجل أفريقيا المريض) فكان أن أحدثت لغطا ولبسا كبيرا في ذلك الوقت فيما أراده الرجل من وراء هذه العبارة التي بدت غريبة شكلا ومضمونا ، فإذا ما كان المقصود التخلف كما يتبادر للذهن أول مرة فإن السودان قطعا لم يكن يومها النموذج المثالي لذلك ، غير أن الحصيف (جمال محمد أحمد) بحسه الدبلوماسي العالي ، رأى بأن سيكوتوري يمضي إلى أبعد من المعنى الظاهري للعبارة فهو كان يريد تحديدا إبتعاد السودان عن محيطة الإفريقي وإتجاهه شرقا نحو المحيط العربية ، كونه أدارة ظهره للقارة الأم . من جهة : ربما كان ل (سيكوتوري) مبرراته التي جعلته يطلق هذه العبارة فالأفارقة عموما ظلوا ينظرون إلى السودان على الدوام بأنه قلب أفريقيا النابض إلى حد الإقتداء به فإذا ما تعافى تعافت القارة وإذا ما سقم أصابها السقم . لذا فإنه يصعب عليهم مفارقته لهم ، غير أنه من جهة أخرى كان من الصعب تجاهل المعطيات المنطقية التي على الأرض في ذلك الوقت فقضية فلسطين إصطبغت بالصبغتين العربية والإسلامية وما أقترن معها من مد عروبي كاسح كان من غير الممكن تجاهله ، لذا فإن الكثيرين يرون أن الساسة السودانيون كان لهم العذر في توجههم شرقا للتجاوب مع معطيات تلك الأحداث . غير أن ما حدث بعد ذلك أي إرجاع التوازن بين المكون العربي والأفريقي للهوية السودانية لم يأت إلا بعد أن أدرك السودانيون خصوصية هويتهم ، مما جعلهم يتحسسون مواضع أقدامهم بعد أن كانوا أشبه بالملاح التائه الذي لا يعرف وجهته وإلى أي المرافيء تمضي به سفينته ؟ ولعل من أكبر مغانم الإغتراب الذي بدأه السودانيون في منتصف السبعينات إيقاظ جذوة الهوية السودانية بعد عقود طويلة من الجمود . لذا فقد كان من الضرورة بمكان إسترداد الثقة بالنفس والإلتفات إلى تقديم الهوية السودانية على ما سواها وإحترام كل مكونات هذه الأمة ومعتقداتها دون تغليب مكون على أخر . إن هذا البلد وبفضل حضارتة الضاربة في عمق التاريخ قد إستطاع أن يهضم كل الشعوب التي قدمت إليه منذ سالف العصور بما فيهم العرب حيث إستطاع إستيعابهم في عملية كيميائية معقدة تسوّدن فيها هؤلاء وأستعرب السودانيون ثقافة ولسانا . لذا فإن معادلة الهوية السودانية هي معادلة في غاية البساطة : بلد ذو حضارة وموروثات أفريقية + ثقافة ولسان عربي غالب ، كما الطائر الذي يحلق بجناحين فأي ميل يمكن أن يطيح بالتوازن وتغليب أي مكون على أخر يمكن أن يقودنا إلى ما نحن فيه اليوم من نزاعات وإحتراب . لذا فإن الشعار القادم بل الأحرى الدائم لا بد أن يكون السودان أولا .. السودان ثانيا والسودان أخيرا . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.