عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. كتب دكتور غازي صلاح الدين المفكر النابه ورجل الدولة بعيد النظر مقالاً بعنوان "من يحكم السودان؟" نشره في موقع قناة الجزيرة الإخبارية على الشبكة الدولية في العام 2013 حظي باهتمام بالغ في حينه. وربما بسبب تشابه الظروف بين الوقت الذي كُتب فيه المقال ابتداءً وبين الظروف الآنية التي يعيشها بلدنا، فقد انبعث الاهتمام بذلك المقال وأصبح يسبح طليقاً من جديد في الفضاءات الإسفيرية تتعاوره مواقعها ومجموعاتها وناشطوها. نبه فيه دكتور غازي الى أهمية تجديد القيادة داخل المؤسسة الحكم وحاضّاً السيد رئيس الجمهورية على احداث اختراق يقوده بنفسه في مسألة خلافته، موضحاً ان النظام الأساسي للحزب، يقصد المؤتمر الوطني، فضلاً عن دستور السودان يقضيان كلاهما بأن فترته الراهنة - التي كانت ستنتهي في العام 2015- هي الفترة الاخيرة التي سيتيسر للبشير فيها الحكم. ولذلك فقد حضّه على احداث اختراق يتجاوز حتى الأُطُر التقليدية داخل الحزب وان يضخ دماءً جديدةً في القيادة تمتلك الرؤية والدُربة والقدرة على التفكير خارج الصندوق فيُدشن السيد الرئيس بذلك تحولاً جذرياً يدعم فرص المستقبل للبلاد ويمكنها من عبور أزماتها ما قدُمَ منها وما استطرف. أنا لا أعرف ما هو موقف دكتور غازي من مقاله هذا الآن، ويسرني جداً أن أفعل ذلك لأن المواقف السياسية تتبدل بتغير الأحوال وطُرُوء المستجدات، ولذلك أستميح دكتور غازي، كما استميحكم عذراً في الرد على مقاله هذا بأثرٍ رجعي، كما يقولون، لأنه قد انتشر انتشاراً سريعاً مما يدل على أن هناك من لا يزال يؤمن بالمقولات الأساسية المثبتة فيه سواءً أظل كاتبُها الأصلي مؤمناً بها أم لا. لم أتشرف بمعرفة السيد الرئيس شخصياً كما فعل دكتور غازي، ولكن معرفتي بالطبيعة البنائية للفعل السياسي وبالطبيعة الحالية للنظام الحاكم في الخرطوم خاصة، وهو مما يعلمه العديد من أمثالي، تجعل من فكرة جنوح الرئيس إلى مثل تلك الخطوة، هذه المرة أيضاً، أمراً مستبعداً جداً لعدة اعتبارات موضوعية ليس هنا محل بسطها. ولذلك فقناعتي، كما هي قناعة الكثيرين من أمثالي أيضاً، هي أنه ليس أمام الرئيس من خيار سوى تكرار سيناريوهات التَشبُث، كما هو حال البلدان المتخلفة من حولنا، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. أقدم على خيار التَشبُث هذا متحدياً الدستور أو معدلاً أو مُلتّفاً حوله بنجاح كل من بول كاقامي في رواندا وابن عمه يوري موسوفني في يوغندا، بينما تتعثر في نفس المحاولات خُطى جوزف كابيلا في الكونغو وبيير نكورونزيزا في بوروندي. ولكن لندع التاريخ جانباً فمقبل الأيام سيكون حكماً فيما سيحدث هذه المرة أيضاً فيما تبقى من شهورٍ معدودات. وأتمنى، بالطبع، أن أكون مخطئاً فيما ذهبتُ إليه، وأن يكون دكتور غازي مصيباً فيما ذهب اليه قبل سنوات وأراده من بذل هذه النصيحة الثمينة للرئيس. من أكثر ما يعنيني، وأظنه يعني أيضاً الكثيرين من أمثالي، في مقاله هذا تلك الفقرة الأولى التي افتتحه بها حيث أثبت الآتي: "في صراعنا مع الرئيس الراحل نميري رحمه الله -وقد كنا طلاباً معارضين يافعين- ما كان يلجمنا سؤال مثل السؤال الأبله: "ما هو البديل؟" أي البديل لجعفر نميري." ولمّا كنت أعرفُ من دكتور غازي تَؤدةً عند الجدال ورزانةً عند الخصومة، فإنني أصدِفُ عن صرف البَلَه المراد الى ذلك المعنى الشائع في لغتنا العامية. لأنها ستكون ضرباً من الاساءة يعفُ عنها بالطبع قلم دكتور غازي لأنه يعلم أكثر من غيره أن هذا هو التساؤل الدائم عند السودانيين عندما يجابهون في كل مرة بسؤال من سيخلف هذا النظام حال ذهابه؟ هذا النظام الذي أزعم، بتحفظٍ شديد، أن الأغلبية الغالبة من أهل السودان لم تعد ترتضيه وزهدت فيه. ولم يبق الا أن الدكتور قصد المعنى المُعجمي للكلمة والذي اثبته صاحبُ لسان العرب بأن قولك شبابٌ أبْلَهُ : يعني أنه غافلٌ منعَّم، كما أن قولك عيشٌ أبْلَهُ : يعني عيشاً ناعماً رَخِياً راضياً مطمئناً. ولمّا لم يكن عيشُنا في السودان، ولا سيما في السنوات القلائل الماضيات، مما يمكن وصفه بسعة الرخاء ولا برَغَده أو بُحبوحتة، لم يبقَ إلا ما أثبته أبو حيّان التوحيدي معرفاً الرجلَ الأبله بأنه ذلك الذي لاَ يعْرفُ مَا يُخْرِجُ مِنْ أُمِّ دِماغِهِ. ولكننا، عندما تحدثنا عن وجود أزمةِ بديل حقيقيةٍ ومتأصلة في سودان اليوم، كنّا نعلم ما نُخرجُ من أمِّهات أدْمِغتِنا، واليك هذه الأسانيد : نحن عندما نتحدث عن "بديل" لا نقصد إطلاقاً القول الشائع بعدم إمكانية إيجاد شخص ما، أو حتى حزب ما، بإمكانات عادية كانت أو متوسطة أو حتى خارقة بما يمكنه من أن يملأ الفراغ الذي سيخلفه السيد الرئيس، أو حتى حزبه، اذا حدث ووصل الى قناعة أن الوقت قد حان له كي يترجل حميداً، ولكننا نعني أن ليس ثمة "بديل برامجي" مُجمع عليه من قبل النخب السودانية المعارضة ويحظى بتأييد الجماهير أو قطاع معتبر منهم، تلك الجماهير التي ضاقت ذرعاً بانسداد أفُق العملية السياسية في سودان اليوم، بين حكومةٍ عاجزة تماماً انسدّ أمامها السبيل وفقدت قدرتها على الابتكار والتجديد وافتراع استجابات مبدعة لتحديات ما برحت تُعيد فرض نفسها على نحوٍ مستمر، وبين معارضة رسمية اخفقت حتى الآن في الوصول الى إجماع حول برامج الحد الأدنى الذي يتجاوز تعميمات "ما بُني على باطل فهو باطل" و"حاكمية صندوق الاقتراع" وحديث "الأغلبيات الميكانيكية" كأنَّما هي المرجعية الوحيدة للشرعية بعيداً عن مجمل السياق الموضوعي الذي أنتج صندوق الاقتراع كأحد وسائل الدَمقرَطة Democratization، وليس ذروة سنامها بحال كما كنّا نظن ونفعل في ماضيات السنين. من هذه الأفكار الكبرى التي أسست للديمقراطيات الثابتة في عالم اليوم، كما يقول المفكر المغربي عبد الاله بلقزيز : العقلانية والعلمانية، بغض النظر عن تعريفنا لها، والمواطنة وفكرة الحرية والتوافق والعَقد الاجتماعي. وأُضيف من عندي: تكافؤ الفرص ومساواة الناس امام القانون وحفظ كرامتهم الإنسانية وأدميتهم كبشر. بما يتجاوز اللغو المكرور والمحفوظات المُعادة التي دَرجنا على سماعها حقباً متطاولة ولم تُعد مُبرئةً للذمّة بحال لدى قطاعات واسعة من أبناء وبنات وطني. فشلنا جميعاً في صياغتها خططاً وبرامجَ واستراتيجيات وواقعاً معاشاً يمشي بين الناس. وغياب تلك المفاهيم كان سبباً أصيلاً في ضياع فرص التجارب "الديموقراطية" السابقة كما هو معلوم لدى الكافة. أزعم، كما يزعُم غيري، أن هذا التصور البديل لما نريده لمرحلة ما بعد البشير، أو حتى لما بعد نظامه، غير واضحة المعالم وغير محددة الخطوط حتى يوم الناس هذا. وإذا كانت ثمةَ مثل هذه الرؤية في مكان ما أو لدى حزب ما، فإنها لم تستطع، من أسف، الوصول الى أغلب الناس الذين هُم معنيون بها بالدرجة الأولى. إن المقارنة الضمنية التي عقدها دكتور غازي في بداية مقاله بين فترة الرئيس الأسبق نميري، رحمه الله، وبين فترة الرئيس الحالي تبدو غير موفقة الى حدٍ كبير. فمايو لم يكن قط نظاماً يبشر بمشروعٍ ايديولوجي كوني هدفُه أن يَتسيَّد العالم أجمَع، ولا أن يسهم فعلياً في تغيير الأنظمة بالمنطقة من حوله، ولا أن يستضيف حركات مقاومة عالمية عابرة للحدود تتوخى إلحاق الأذى بدولٍ عظمى تتعدى أدنى إمكانياتها بمراتٍ عديدة إمكانات الدولة السودانية الهشة أصلاً والمعقدة التركيب والتي كان أصحابُ المشروع الحضاري أنفسُهم يعلمون مدى هشاشتها. لقد كان نظام مايو انقلاباً كلاسيكياً شاهدنا العديد من أضرابه في مرحلة الحرب الباردة، تقلصت فيه السلطةُ تدريجياً إلى أن وصلت كلُها شخص الرئيس النميري الذي مضى في مغامراته بغية احتفاظه بالسلطة إلى المدى الذي تحول فيه فجأةً إلى امامٍ للمسلمين! نشط أقوامٌ آنذاك، من ضمنهم الاسلاميون، في حشد الناس لمبايعته على الطاعة في المَنشط والمَكره ما أقامَ الدينَ كلَّه. ولكن أين ذلك من حكم الإنقاذ في طبعاته المختلفة الذي أنشب أظفاره عميقاً وبالكامل في بنية مؤسسات الخدمة المدنية وغيرها من أجهزة الدولة والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى وعمل جاهداً على تجييرها لتصبح خالصةً له من دون الناس فيما عرف بسياسات التمكين. والآن قلما توجد مدرسة نائية تحت أحد منحدرات جبل مرة في غرب السودان ولا في سهوب البطانة في شرقه ولا في غابات النيل الأزرق في جنوبه ليس للمؤتمر الوطني فيها منتسبٌ وشَوكة وصولة. ناهيك عن السيطرة الكاملة التي بسطَها النظامُ على كافة مؤسسات إدارة الاقتصاد والإعلام والهيئة الدينية منذ زمان. يُضاف إلى ذلك كله تحالفات واسعة قائمة على المصلحة والاستتباع على المستوى القاعدي ما انفك النظام يجدد عُراها مع القبائل والبيوتات الدينية بعد أن أعاد هندسة بعضها بالكامل في فترات خلت. أضف الى ذلك السيطرة المطلقة الحالية على السوق ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية من قبل أناس تربطهم رابطةُ المصلحة أيضاً ببقاء النظام الحالي، تلك السيطرة التي أشار اليها الباحث الرصين أستاذُنا الدكتور التجاني عبد القادر وربطها بتحالف الأمن والقبيلة. ومن طبائع الأشياء أن هذا المَلأ، وهم أَشرافُ القوم وسَراتُهم بحسب التوصيف القرآني، لن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى آبار الذهب التي طالما جلس عليها دهراً دهيرا يعمل بعضُ "الحالمين" على تحويلها لآبارٍ من اللهب. المقاومة التي سيبديها هؤلاء تندرج فيما يعرف "بالثورات المضادة" وهي حتمية بعد كل تغيير سياسي ذي بال. لم يُطرح إلى الآن، بحسب علمي، أي برامج للتعامل مع تلك "الثورة" المؤكد حدُوثُها حال ذهاب النظام واختفائه فجأة من مسرح الأحداث بغير صفقةٍ تاريخية تضمن حَداً أدنى من التوافق على السمات المائزة للمرحلة التي نريدها بعده. إن الأمر الذي لا يجب أن يعزُب عن أفهامنا جميعاً الآن هو أن المفاضلة المتاحة حالياً هي ليست بين نظامٍ مَعطوب مُجهَد ومُجهِد استنفد كافة اغراضه ولَم يعد عنده ما يعطيه، وبين نظام "ديمقراطي" مَعيب – نقول دائماً بأننا سنسعى، إن شاء الله، الى الإصلاح من فسادة ثمّ نعجز عن ذلك في كل مرة، بل إن المفاضلة الْيَوْمَ هي بين هذا النظام المعطوب بلا أدنى أمل أو حتى قدرةٍ منه على الإصلاح من جهةٍ، وبين فوضى شاملة، من الجهة الأخرى، لا تبقي ولا تذر، يُصاحُ في جنباتها مع العشيات: كُلُّ قَتيلٍ في كُليبٍ غُرّةً حَتَى يَنالَ القتلُ آلَ مُرّةً وهي بالضرورة فوضى غير خلّاقة - بمعنى أنها لن تفضي إلى أي شَيْءٍ حسنٍ كما يتوهم البعض مُخطئاً. وستكون من بين دواعيها الكثيرة تلك الثورة المضادة السابق ذكرها، والتي يجب ألّا نستهين بأمرها لأن منابر المساجد لن تكون هي ساحاتها الوحيدة. يضاف ذلك إلى مجاميعٌ مسلحة تامُّةُ العُدة كاملةُ الاستعداد طالما تأبَّىٰ قادتُها على رؤوس الأشهاد، في إفادات موثقة، عن الانضواء تحت لواء القوات المسلحة القومية مبدين العديد من الأعذار، ولَم يفعلوا ذلك إلا بعد لأيٍ وتمنع طال أمدُه. تتكون هذه المجاميع من شباب فاتهم قطار الدولة الوطنية بمؤسساتها المنوط بها صناعة المواطن، فأصبح أفقهم السياسي لذلك محكوماً بسقف العصبية للانتماءات الأولية أياً كانت، وتدين قيادات هذه المجاميع الآن للنظام ورموزه بأكثر من اعتبارها للوطن كدولةٍ ومؤسسات. يضاف الى ذلك بالطبع قبائل مسلحة، يحتفي بعضها علناً بامتلاكه الدوشكا رقم مئة، وهو سلاح ثقيل مضاد للطائرات - وينحر الذبائح جهاراً فرحاً بذلك كما نقلت الصحافة الورقية في السنوات الماضية. كما نقلت نفسُ الصحافة مطالبة قبائل أخرى لأبنائها الوزراء في حكومة ولايةٍ ما بالانسحاب منها لأن مستوى تمثيل القبيلة في حكومة الولاية تلك دون حجمها السكاني أو ربما دون وزنها التاريخي. وتمتلئ العديد من بيانات القبائل بالصحف السيارة والمواقع على الشبكة الدولية في الفترات السابقة بعبارة كثيرة الدوران فيها وهي: "وتبقى كل الخيارات مفتوحة"، مما يحمل نبرة تهديد لا تخفى على أحد. وطالما اندغمت بعض هذه القبائل في السابق في حروب السودان الأهلية وصار نفسُ مقاتليها السابقين ممن رفعوا عقائرهم بنداء الله أكبر والعزة للسودان، ينادون الْيَوْمَ بالله أكبر والعزة لهذه القبيلة أو تلك كما هو متاح للتداول ومشاهد في مقاطع الفيديو هذه الأيام. لكل واحدة من هذه القبائل جيشها وسلاحها وعداواتها وأعداؤها وغبنها وظلاماتها وحروبها الصغيرة والكبيرة وأبطالها وأمراء حربها ومبرراتها. سيدعم هذه التنظيمات الاجتماعية أعلاه ويرفع من حيويتها في المُضي في ذلك الاتجاه خطابٌ سياسيٌ سائد، عمّت به البلوى- كما يقول ابن خلدون - تغلُب عليه الجهوية والإثنية والمناطقية والدينية المذهبية والمظلومية، وهو، من أسف، خطاب قادر على الوصول الى الناس بأكثر مما تفعل خطابات العقلانية والتنوير العابرة لمثل هذه الولاءات خاصةً في إبّان الأزمات كالتي نعيشها اليوم. وزاد الأمر سوءاً أن نُسخة الْيَوْم من السياسيين، سواءً في الحكومة وفي معارضتها معاً، اعتادت على الترقي سياسياً بالاستثمار في مثل هذا النوع من الخطابات الإقصائية. وستسعى دولٌ جارة دائمة الوجود في قوائم تصنيفات الدول الفاشلة لاهتبال أجواء الفوضى التي من المؤكد أنها ستسود حال اختفاء النظام الفجائي وفترة الانتقال المضطربة ضرورةً التي سنعيشها، وستعمل هذه الدول غير الراشدة والتي لا يعنيها شأن إنسانها ورفاهيته في شيء، ستعمل على الاستثمار في ظروف الفوضى هذه وفقاً لأجندات متنوعة وربما متصارعة ستؤثر بالضرورة سلباً على الأوضاع الداخلية بالبلاد، تلكم الأوضاع التي ستجد هذه الدول ألف عذرٍ وعذر للتدخل فيها عبر العديد من الأذرع والصنائع التي ستتخذها في الداخل ومنه. ثُم هناك ميراث الإنقاذ المُبهظ مثل مزاعم الاستهداف لمناطق وأقاليم إثنيات وقبائل، بل ومدن، بعينها: ما صحّ من هذه الدعاوى وما أفتُري، السُبل السياسية والدستورية لإيقاف الحروب الأهلية: ما هو قائم منها على ساق الآن وما هو في رحم الغيب، البحث عن صيغة موضوعية وعادلة وفعالة لإدارة التنوع بالبلاد وتقسيم الثروة بها بما يتجاوز تعميمات الخطاب السياسي اليومي المستهلكة الحالية، وسائل دعم الخدمة المدنية المنهارة، اعتبار صعوبة تقديم الخدمات الأساسية من قبل الدولة في ظل أزمة النُدرة الحالية، الأزمة الاقتصادية المتطاولة منذ انفصال دولة جنوب السودان الجارة، إعادة الثقة في أجهزة الدولة وفي حيدتها ونزاهتها وزيادة كفاءتها، سُبل مقابلة المطالب الفئوية التي ستُطل برأسها حتماً بما يفوق كثيراً قدرة جهاز الدولة عن التعامل معها جميعاً، الانفلات الذي يعقب في العادة شعور الناس بالحرية فجأة بعد سنين متطاولة من القمع، وموضوع اعادة بعث الأمل في نفوس الناس بعد حالة اليأس المتواصلة والعميقة التي اجتاحت الجميع بلا استثناء والتي لا بد من مخاطبتها أولاً قبل الشروع في أي برنامج إصلاح جاد، شاق وطويل. هذا فقط بعض مما سيكون علينا أن نواجه حال ذهاب الانقاذ من غير ترتيب، ولحسن الحظ فإن وجودها قد أعطى النُخب في السودان الوقت الكافي للتفكُر في هذه المسائل العديدة والمتشابكة وفي غيرها، ولكنني أزعم بأننا لم نتهيأ بعد لمرحة ذهاب هذا النظام بخاصة اذا ما كان هذا الذهاب سريعاً وعنيفاً، ذلك الذهاب الذي أصبح مسألة وقت ليس إلا. لهذه الاعتبارات ولغيرها ممّا لم أذكر لضيق الوقت وخوف الإملال أعتقد جازماً بأن السؤال الخاص بما أو من هو البديل لهذا النظام القائم؟ ليس سؤالاً أَبلَهاً على الإطلاق. مع معرفتي التامة بأن النظام يستثمر في هذا السؤال كثيراً كاستراتيجية تخذيل وتخويف، ولكن ليس كل ما يحذّر منه النظام حالياً هو فزّاعةٌ اصطنعها لإثارة المخاوف وردع الناس عن السعي العملي لتغييره. ولذلك كنتُ دائما أعتقد بأن كلمات الرسام الانجليزي بنجامين هايدون (1786 – 1846) جديرة بالتأمل فقد قال:" لا تتجاهل أبدًا ما يقوله أعداؤك لك. قد تكون كلماتهم شديدة الوطأة عليك، قد تكون مُتحيزة الى حدٍ بعيد، قد تكون مُصرّةً على الرؤية في اتجاه واحد فقط، ولكن عليك أيضاً أن تنظر جيدا في نفس هذا الاتجاه ذاته. إنهم لا يتحدثون عادةً عن كل الحقيقةِ، لكنهم عموماً يتحدثون الحقيقة من وجهة نظر واحدة. وطالما كان الأمرُ كذلك، انتبه بجديةٍ لما يقولون."