تقاسمت كتابة تاريخ السودان مدرستين احداهما مدرسة رسمية باردة تسرد ما يدور من احداث مادية وخطط عسكرية وخسائر بشرية ومهزوم ومنتصر. وقد وثقت هذه المدرسة الاحداث والمعارك وما يتصل بتلك الحقبة من نصر وهزيمة وبفعل التوثيق كانت هي المرجع الوحيد المكتوب عن تلك الاحداث ، ومن سجلاتها درس السودانيين تاريخ بلدهم مع وجود النفس الاجنبي الذي جرد تلك الاحداث من دوافع وعنفوان المواجهه والاقدام والتضحية ومقابلة الصدور العارية للسلاح الناري. ومدرسة الرواه الشعبية القصصية التي تواترت ابٍ عن جِد في سلسلة ممتده بعمق داخل وجدان رواتها استطاعات ان تُكسي العظام لحماً ونسيجاً بمحرك بحث العقيدة وقيم وموروثات الآباء والاجداد الذين قدموا لنا تاريخ ناصع ضحوا في سبيلة بالدم والولد والغالي والنفيس. انسحبت المدرستين على تاريخ السودان الحديث الى ان وصلتا الى بيت كل سوداني مع اختلاف التوثيق في المدرسة الثانية اذ كانت تدون تاريخها شفهياً تلهمه الابناء بقصص رائعة ومشوقة استطاعت ان تبقى محفورة ومركوزة في نفوس من حظي بمصاحبة رواة تلك المدرسة الذين لم ينالوا من التعليم الحديث الحظ الوافر ولكن رواياتهم كانت تغوص في اعماق الاعماق ولا يمكن ان تُنسى بالسهوله، فقد كانوا رواة بارعين يتحدثون بعفوية وينسجون ببراعة سر النجاح والانتصار بحكم مشاركتهم في الأحداث وصناعتها ودور كل منهم في وضع لبنه من لبناتها. نشأت وترعرت في بيت انصار درست التعليم الحديث الى ان تخرجت من الجامعة ولم يحظى والدي بتعليم اساس ولا محو اميه ولم يكن من رواة اي المدرستين ولكنه فهم المضمون والمقصد ووجد النتيجة واقع وتاريخ مهما قيل عنه لا يوجد تاريخ سواه ولا يمكن تكذيب نتائجة النهائية وهذا ما اقرت به المدرستين ان المحصلة النهائية هي قيام بلد اسمه السودان وتحرير واستقلال وطن هو السودان. تشربت بتربية الانصار من والدي وهو قدوتنا ورب الاسرة الذي كان يحفظ الكثير من القرآن ويعرف كل ما يحتاج اليه من الفقة والمعاملات ، كان متفقة في امور العبادات ومعرفة الحلال والحرام وكل مقاصد الشريعة من التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج. عرف والدي كل ما يحتاج اليه في امور دينه من قيادات الانصار شفاهتاً ابتداءً من اب السودان الامام عبد الرحمن المهدي طيب الله ثراه مروراً بالسلسلة الذهبية وانتهاء بالامام الصادق المهدي. ما انقطع عن مناسبة عظيمة تجمعة بقيادات الانصار في الجزيرة ابا أو عن طريق مناديب الامام الذين يتم ارسالهم سنوياً لكل قرى ومدن السودان طوال شهر رمضان في القرى والحضر الا وسار اليها بنفس صادقة وعزيمة لا تلين في تحدي الصعاب المادية القاسية التي هي سمه من سمات الانصار فقد كانوا اهل زراعة مطرية واهل مواشئ تعتمد في رعيها على الامطار والحركة الدائمة مع الحلال حسب توفر العشب. هذا هو الجو العام الذي كنا نعيشه نحن الابناء وسط الآباء الانصار وقد كان نفعة يعود علينا بمعلومات غزيرة عن الدين وعن السياسة وعن اخبار الائمة الكرام وقد انعكس كل ذلك في سلوكنا وارتباطنا بالمساجد والخلاوي واحتفالات المولد النبوي الذي يحضرة عدد كبير من الشعراء والمداحين الانصار الذين يشنفون آذاننا بالشعر والمديح النبوي الشريف ولا يخلو ذلك من اعطاء جرعة شعرية عن ائمتنا وقادتنا. وقد اعطى ذلك ايضاً الآباء الأنصار مسئولية ضمنية بان يكونوا هم من يتولى امر المساجد واعمارها وامر المدارس ومجالس الأباء والذين يقع على عاتقهم صيانة المدارس وسكن المعلمين الذين تدفع بهم الحكومة بلا مأوى فكانوا يجدون من الانصار في جميع بقاع السودان الاستقبال والحفاوة والكرم الذاتي حرصاً على تعليم ابناءهم حتى يحذو ابناءهم الصغار حذو القدوة من الائمة الكرام الذين كانت طلتهم خير وبركة على الاحباب. اما اولئك الذين لم يحظوا بالرعاية الانصارية فقد كانوا في غفوة الجاهلية وقمة الانحلال الخلقي والاخلاقي كم كانت مناسبات الزواج ماجنه وكم كانت الاسواق عامره بالرجال الكبار الذين يلعبون "الضالة" وبلا حياء وكلمات بذيئة لا تليق باعمارهم وكانت حانات الخمر تعمر بكبار السن وما يصاحبها من سرقات وعواء ومشاكل القتل والطعن والضرب بين الازقة وخلوات القرى. قل لي بربك من نشأ في هذا الجو الاسرى المفعم بالابوه الحانية والمسئولية الاجتماعية ومن سعى كل وقته في الكسب الحلال ومن لم يشرب الخمر والدخان ويسف التنباك وغيرها من مثبطات العادات الرزيلة التي تهبط بانسانية الانسان وتتركة يتصرف كالجهال وتنقص عليه دينة وعباداته. قل لي من عاش هذا الجو الانساني الصافي من كل مكدرات الدنيا الماجنة وغيرها اليس حري به ان يعلن على المدى ويحمد الله انه كان انصاري وخلقه الله انصاري بالميلاد. والله الموفق... الهادي ادم – جدة المملكة العربية السعودية