في تشخيصه لظاهرة التباس الإنتماء الطبقي عند مواطنيه الامريكان يقول الكاتب والروائي جون شتاينبيك: "أعتقد أن المشكلة هي أننا لم يكن لدينا من يعترفون من تلقائهم بأنهم بروليتاريين. لقد كان الكل رأسماليا مُحْرَجاً بشكل مؤقت". ينطوي هذا القول علي نَزْرٍ من الحقيقة. فالامريكيون، أكثر من أي شعب آخر تقريباً، لديهم إيمان أكبر بقابِلِيّة الحراك الإقتصادي (إمكانية تحرك الأشخاص أو الجماعات في هرم التدرج الاجتماعي إلى أعلى الطبقة أو المكانة الاجتماعية). لدينا خصوصية التعلق بالفكرة القائلة بأن الأصل الطبقي ليس مصيراً، وأن أي شخص ذكي بما فيه الكفاية، ويعمل بجد، عنده فرصة في تحقيق مستوى معيشي مرتفع. هذا الإيمان بالجدارة meritocratic conviction يتحول في بعض الأحيان إلي قناعة بأن ثروة الشعوب الغنية مستحقة، في حين أن الفقراء يعانون الفاقة لأنهم كسالى وغير ذكيين. وبالتالي، ليس من الصعب على أي مراسل متوسط لصحيفة نيويورك تايمز، على سبيل المثال، العثور على اميركيين غير ثريين يتعاطفون مع الأغنياء أكثر من تعاطفهم مع الفقراء، مما يؤكد الصورة النمطية "للرأسمالي المُحْرَج بشكل مؤقت"، ذلك الذي يبدي إعتراضاته على زيادة الإنفاق الاجتماعي أو يعبر عن تحبيذه ودفاعه عن التخفيضات الضريبية لكبار الأثرياء. لكن هؤلاء هم إستثناء. الأمريكيون أكثر قلقاً مما نظن بشأن التفاوت في الثروة، والصورة الشعبية ذائعة الرواج للامريكيين من الطبقة العاملة الذين يساندون الأغنياء، أو يتجاهلون الأهمية الاجتماعية للطبقة، مبالغ فيها. يكتب العالم السياسي سبنسر بيستون Spencer Piston في كتابه الجديد "التوجهات الطبقية في أمريكا" Class Attitudes in America "خلافا للإعتقاد باللامبالاة الطبقية، الناس العاديون يبدون إهتمامهم بالإنتماء الطبقي عندما يناقشون بشكل روتيني موضوعة الفقراء والأغنياء خلال الحديث عن السياسات، والمرشحين للمناصب، والأحزاب السياسية." لكن الامريكيين على الأرجح يتعاطفون مع الفقراء ويستاءون من الأغنياء، وليس العكس. للبرهان علي ذلك قام بيستون بالتنقيب في الاستطلاعات التي جمعتها الدراسات الأمريكية الوطنية للانتخابات American National Election Studies (ANES) لنحو أكثر من عقدين ونصف ووجد أن: "الأفراد الذين يذكرون الفقراء في ردودهم على أسئلة الاستطلاع لا يقولون عادة أنهم قلقون بشأن قيام الحكومة بمنح الفقراء مساعدات مجانية. بدلاً من ذلك، يعبرون عن قلقهم من أن الحكومة لا تفعل ما يكفي لمساعدة الفقراء. وفي نفس الوقت، لا يتَضَايَقَ أولئك الذين يذكرون الأغنياء من أن الحكومة تخنق الابتكار من خلال الإفراط في فرض ضرائب علي "أصحاب العمل"، بل يشتكون من أن الأغنياء لا يدفعون حصتهم العادلة في الضرائب." إضافة إلي ذلك قام بيستون بإجراء استطلاع على المستوى الوطني، مما أدى به إلى الإستنتاج بالمثل: "الاميركيون يعبرون في الغالب عن وجهات نظر تتعاطف مع الفقراء بالمقارنة مع وجهات نظرهم تجاه الأغنياء – وهم أقل احتمالا للتعبير عن وجهات نظر تتعارض مع الفقراء من وجهات نظرهم تجاه الأغنياء - هذه النتائج تكذب الزعم الواسع الإنتشار بأن معظم الجمهور الامريكي ينظر إلى الفقراء على أنهم يستحقون وضعهم المتدني، و إلى الأغنياء بإعتبارهم يستحقون وضعهم المُمَيَّز." لاختبار فرضياته أكثر، قام بيستون بإجراء تجارب طُلب فيها من مجموعة من المشاركين تقييم سياسي افتراضي hypothetical politician في حال كونه يخصص الموارد للفقراء، بينما طُلب من آخرين تقييم نفس السياسي الإ فتراضي في حال كونه يمنع الموارد عن الفقراء. وجد بيتسون أن السياسي الذي نقل الموارد إلى الفقراء أكثر شعبية في كل تكرار للتجربة، مما يشير إلى أن الامريكيين يتأثرون بشدة بمواقفهم الطبقية في اتخاذ القرارات السياسية. يوضح بيستون المبدأ الذي خلص إليه من التجارب أعلاه من خلال استكشاف الانتخابات التمهيدية الرئاسية لعام 2016 بين بيرني ساندرز الذي يركز في خطابه الإنتخابي على التفاوت الاقتصادي وانعدام المساواة ومرشحة الوضع الماثل هيلاري كلينتون. رغم تعميد وتفضيل هيلاري منذ البداية كمرشحة من مؤسسة الحزب الديمقراطي، فقد شارفت كلينتون علي الخسارة أمام ساندرز، الذي لم يكن معروفاً علي نطاق واسع ولم يكن يملك سوي جزء ضئيل من موارد منافسته. كيف تمكن من ذلك؟ الإجابة حسب تقدير بيستون: أحب الامريكيون ساندرز لأنه خاطب توجهاتهم المشوبة بالإمتعاض والإستياء من الأثرياء. تمحور خطاب حملة ساندرز حول انتقاد الأغنياء: فقد عارض "طبقة المليارديرات"، ووعد بزيادة الضرائب على أثرياء الامريكيين، واقترح الحد من قدرة المصرفيين على الثراء من خلال إنقاذ مؤسساتهم بواسطة دافعي الضرائب، وهاجم هيلاري كلينتون بسبب الأموال التي تحصلت عليها نظير حديثها لرجال الاعمال وأصحاب المصارف ورؤوس الأموال في وول ستريت. وجادل بأن حفنة من الأثرياء جدا يحددون من ينتخب لمنصب عام. رَكَّزَت حملته بشكل روتيني وبلا هوادة علي توجيه النقد للأثرياء على إعتبار أنهم غير مستحقين لثروتهم، لدرجة أن كلينتون (وآخرين) سعوا لتشويه سمعته كمرشح ذي قضية واحدة، هي إنتقاد الأغنياء. لم يقتصر الأمر على إقتراب ساندرز من الفوز علي مرشحة مؤسسة الحزب الديمقراطي فحسب، أكثر من ذلك، برز ساندرز منذ بداية الحملة الإنتخابية بوصفه السياسي الأكثر شعبية في أمريكا. وتظل رسالة ساندرز مركّزة في المقام الأول على إنعدام المساواة الاقتصادية. ويدعم ذلك بشدة فكرة بيستون بأن الأمريكيين بالفعل يولون إهتماماً بواقع التفاوت الطبقي. تغبيش وعي الناخبين Keeping Voters in the Dark لكن تريث قليلاً - أليس لدينا رئيس جمهوري؟ ألا يسيطر الجمهوريون علي الكونغرس والسنيت؟ ألم يستمر كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الحصول على الدعم حتى وهم ينحدرون بدولة الرفاهية ويقلصونها ويمررون السياسات التي تسهل إعادة توزيع الثروة من الفقراء إلى الأغنياء؟ للوهلة الأولى يبدو أن هذه الحقائق تتناقض مع حجج بيستون. لكن كما يشير بيستون، أن طبيعة من يشغلون المناصب، و السياسات التي يمررونها، لا تعكس بحد ذاتها قيم ورغبات الناخبين. ربما سيكون ذلك هو الحال في ديمقراطية أكثر كمالاً، لكن في الواقع الراهن يظل التطابق بين ما يفكر فيه الجمهور وما تفعله الحكومة غير مكتملاً. على العكس من ذلك، فإن الأشخاص، الذين يتمتعون بقوة أكبر في المجتمع، لديهم قدرة أكبر على تشكيل السياسات، وذلك، في المقام الأول، من خلال الاستفادة من الثروة التي يستاء منها معظم الامريكيين. "إن الاعتقاد بأن معظم الاميركيين لا يساندون إعادة التوزيع الاقتصادي إلى الأسفل (أي من الأغنياء إلي الفقراء) هو واحد من الأساطير الكبري في عصرنا"، كما كتب بيستون. "إنها أسطورة تهيمن على إفتتاحيات الصحف وتنتشر عبر موجات الأثير". ليست هناك أدلة تستند عليها تلك الأسطورة. وكما يوضح بيستون، فإن الأمريكيين يدعمون إلى حد كبير الإنفاق الاجتماعي على التعليم والرعاية الصحية، ومحاربة الفقر وإنهاء التشرد، ومساعدة النساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين. وتدعم غالبية الأمريكيين البرامج التي تم اختبارها من قبل مثل "هيد ستارت Head Start" و "Supplemental Security Income " و "Earned Income Tax Credit"، كما تساند قطاعات واسعة من الامريكيين بلا حدود البرامج الشاملة مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، والتي تهدف أيضًا إلي إعادة توزيع الدخل. وتدعم غالبية الأمريكيين فرض ضرائب على الأغنياء لتمويل هذه البرامج. هناك استثناء واحد مهم لهذا الاتجاه العام. عندما يَتَعَذَّرَ على المواطنين التعرَّفَ بيسر على من سيكون المستفيد النهائي من برنامج أو سياسة حكومية معينة - أي ما إذا كان الأغنياء أو الفقراء سيكونون المستفيد الأول - عندها ستضمحل المساندة وينحسر الدعم لهذا البرنامج. يمكن أن يكون للتشويش من وسائل الإعلام والسياسيين والشركات تأثير ضار على مساندة المواطنين للإنفاق الاجتماعي. لكن هذا لا يُشَّكل دليلاً على أن غالبية الامريكيين العاديين يساندون الأغنياء، كما يقول بيستون. بالعكس من ذلك، ما نراه ما هو إلا عبارة عن سد الطريق علي الأغلبية للتعبير عن مصالحها الطبقية. كما يكتب بيستون "إذا لم تكن هناك إشارات واضحة، لا يمكن لتعاطف الناخبين مع الفقراء وإستياءهم من الأغنياء أن ينعكس ويؤثر في قراراتهم المتعلقة بمن يمنحونه أصواتهم في الإنتخابات"، "يبحث السياسيون عن مساحة كافية للمناورة من خلال إرباك الجمهور وإلهائه. وعندما يتم تغبيش وعي الشعب، يصبح من السهل على الحكومة الا تفعل أي شيئ يستحق الذكر حيال الفجوة المتنامية بين الأغنياء وبقية الشعب." وكما يقول بيستون، فإن المشرعين الأمريكيين اتبعوا سياسات مؤيدة للشركات و للإجراءات التقشفية ليس بسبب التوجهات الطبقية لعامة الشعب، ولكن على الرغم من هذه التوجهات، التي هي علي طرف نقيض مع تلك السياسات والإجراءات. إذا كان بيستون علي حق من أن الامريكيين يتمتعون بوعي طبقي أكبر مما نظن، فعندئذ يصبح هناك فراغ في مجالنا السياسي، في انتظار أن تملأه القوي السياسية الفاعلة - الانتخابية وغيرها – التي تتطلع بصدق إلى إعادة توزيع ثروة أمتنا وبناء إقتصاد يخدم الطبقة العاملة. ----------------- هامش: برنامج "هيد ستارت" هو برنامج تابع لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، يقدم خدمات شاملة للتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، والصحة، والتغذية، وخدمات مشاركة الوالدين للأطفال ذوي الدخل المنخفض وعائلاتهم. تم تصميم خدمات وموارد البرنامج لتعزيز العلاقات الأسرية المستقرة، وتعزيز رفاه الطفل الجسدي والعاطفي، وإنشاء بيئة لتطوير المهارات المعرفية القوية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.