يعتبر كتاب البروفيسور عمر حاج الزاكي أستاذ الآثار والتاريخ القديم والعميد السابق لكليتي الآداب والتربية بجامعة أم درمان الإسلامية والموسوم ب"مملكة مروي: التاريخ والحضارة" من أهم الإصدارات التي تطرقت لهوية السودان القومية من خلال الإكتشافات الأثرية. والكتاب من سلسلة إصدارات وحدة تنفيذ السدود – رئاسة الجمهورية (إصدارة رقم 7)، من القطع العادي تزين غلافه الخارجي الصقيل أهرامات البجراوية أحد أبرز المنجزات المعمارية للحضارة السودانية في العصور القديمة (طبعة أولى 2006م – مطابع الصالحاني). وقدم للكتاب البروفيسور علي عثمان محمد صالح أستاذ الآثار بجامعة الخرطوم. يحتوي فهرس المحتويات على خمسة فصول، فضلاً عن قائمة المصادر والمراجع والملاحق. تضمن الفصل الأول معلومات عن نشأة وازدهار واضمحلال مملكة مروي (900 ق.م.-350م). وأفرد الفصل الثاني لنظام الحكم والإدارة في المملكة مبيناً طريقة اختيار وتتويج الملوك مع تبيان تسامي دور النساء الكوشيات (المرويات) في السلطة والحكم مما يشير بجلاء إلى المكانة التي ارتقتها المرأة السودانية في مجتمعها منذ القدم. فقد حرص السودانيون القدامى على الانتساب للأم قبل الأب. فلا غرو إذن أن نجد في بعض موروثات المجتمع السوداني الحديث صدىً للتقاليد الكوشية-المروية التي عظمت دور النساء. وخصص الفصل الثالث للفنون (النحت والفنون الدقيقة والنقش والتلوين) والعمارة الدينية والجنائزية والمساكن والقصور والكتابة المروية. وتحدث الفصل الرابع عن العقائد الدينية والنظام الكهنوتي (معبودات المرويين والكهانة والطقوس الدينية). أما الفصل الخامس والأخير فقد سلط الضوء على الإقتصاد المروي بشقيه (الزراعي والرعوي) علاوة على الصناعات اليدوية والتعدين والتجارة. ويلاحظ أن المؤلف لم يتطرق في حديثه لسكان مملكة مروي الذين تحدروا من إثنيات وثقافات متنوعة. ونأمل أن يفطن إلى ذلك في طبعة الكتاب الثانية، سيما وأن ذلك التنوع العرقي والثقافي كان مصدر قوة الدولة المروية فهو تنوع في إطار الوحدة الكوشية (السودانية)، فهناك قواسم ثقافية وحضارية بين كل المجموعات السكانية التي قطنت هذا الوطن منذ آجال موغلة في القدم تشير دون ريب إلى الانتماء الحضاري المشترك لأهل السودان. ويجدر التنويه إلى أن الكتاب سطر بلغة عربية قشيبة ويكاد يخلو من الأخطاء الطباعية. منهجية الكتاب وأهميته: من اللافت للإنتباه المقدمة الضافية للبروفيسور علي عثمان محمد صالح والتي نوه فيها للحبكة التاريخية المتماسكة والمتسلسلة لهذا الكتاب، فضلاً عن إشارته للأطروحة التي إنحاز لها بروفيسور عمر حاج الزاكي والتي تقول بوحدة التاريخ الكوشي-المروي مقارنة بالأطروحات الأخرى التي تزعم بوجود فترتين للدولة الكوشية هما "نبتة" و"مروي". وأطروحة ثالثة تزعم بأن التاريخ الكوشي هو تاريخ مملكتي كرمة ونبتة معاً (2500-538 ق.م.). ومن الجلي أن الباحث استعان بأسلوب التكامل المنهجي مستخدماً كلاً من المنهج الوصفي التحليلي والتاريخي المقارن لتسليط ضوء كافٍ على الجوانب التاريخية والحضارية للمملكة المروية. في تصوري أن أهمية هذا الكتاب تنبع من أمرين: أولهما الحاجة الماسة لمؤلفات باللغة العربية عن الآثار السودانية سيما وأن معظم المؤلفات عن آثارنا وتاريخنا مكتوبة باللغات الأوروبية وبخاصة الإنجليزية. وثانيهما: براعة الكاتب وقدرته بحثاً ودراسة ومقارنة على الجمع بين دفتي كتاب واحد أوجه الحضارة الكوشية-المروية التي تطال فترة تزيد عن الألف عام ومناقشتها بموضوعية على ضوء المادة المتوفرة ووفق منهج علمي سليم. ولعل أهم المواضيع التي تطرق إليها الكاتب نظام الحكم والإدارة في الدولة المروية. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن مملكة مروي كانت تحكم لامركزياً (Decentralized Authority) حيث قسمت إلى عدة ولايات لكل منها حاكم يعين مباشرة من البلاط الملكي بسبب إتساع المملكة وصعوبة المواصلات بين أجزائها المترامية الأطراف. ولعل ما أورده المؤلف من ألقاب إدارية عديدة (بكر، الأمير المتوج والبشتو "ابن الملك" والبلموس "الجنرال") تؤيد ذلك. وكان حكام الأقاليم يفوضون بعض سلطاتهم لزعماء العشائر في الأصقاع الطرفية. وإبتدع السودانيون في العهد المروي نظاماً خاصاً للكتابة عرف بالأبجدية المروية (23 حرفاً) بالخطين التصويري (الهيروغليفي) والنسخي (Cursive). وفي تقديري أن معرفة السودانيين للكتابة تشير بوضوح إلى مشروع للنهوض الثقافي هدفه خلق أمة كوشية (سودانية) تتميز عن غيرها من الأمم المجاورة في أفريقيا والشرق الأدنى القديم. بيد أن فك رموز هذه اللغة لا تزال تكتنفه عوائق ناجمة عن عدم وجود لغات (قديمة أو معاصرة) شبيهة، إضافة إلى عدم التوصل إلى مناهج قادرة على التعامل مع هذه اللغة (كتابتها معلومة وقراءتها مجهولة بشكل كبير). ولقد أوفى المؤلف موضوع اللغة المروية حقه سيما وأنه أحد أبرز السودانيين المختصين فيها، فلا عجب أن تحدث عنها بلغة العارف المستبطن. بلغ السودانيون في العهد المروي شأواً علياً في أجناس مختلفة من الفنون وأجادوا في التلوين والنقش البارز والغائر على الحجارة والمعادن والفخار. وفي الجانب الصناعي عرف المرويون النحاس (البرونز) والذهب وبرعوا في صناعة الحديد منذ عهد باكر (القرن السادس قبل الميلاد). وأثبت الشاهد الأثري بكل تفصيلاته أن مملكة مروي هي أول دولة في أفريقيا إستطاعت أن تقوم بعملية تعدين وصهر وتصنيع الحديد مسجلة سبقاً تقنياً على مصر الفرعونية التي لم تعرف هذه الصناعة إلا بعد قرنين من معرفتها في السودان القديم. وأشارت الأدلة الأثرية –كما يستبان من محتويات الكتاب- إلى المعتقدات الدينية التي اعتنقها المرويون رغبة منهم لإرضاء معبوداتهم والتقرب إليها بغية الظفر بالخلود الأبدي بعد الممات. لذلك اجتهدوا في إتقان المعمار الديني (المدافن والمعابد). وتمثل عبادة آمون عقيدة السلطة الحاكمة والنخبة الكوشية (المروية)، بينما تمثل عقيدة المعبود الأسد (أبادأماك) العبادة الشعبية، علاوة على تقديس المرويين للعديد من المعبودات الأخرى (موت وإيزيس وغيرها). وتشير العمارة الجنائزية (المدافن والأهرامات) إلى تميز السودانيين في هندسة البناء في العصور القديمة حيث اختلفت الأهرامات السودانية عن نظيرتها المصرية في الموقع والهندسة والعددية ومادة وهدف البناء. وفي الجانب الإقتصادي أبان المؤلف أن الإقتصاد المروي ذو شقين: هما الرعوي وبخاصة في سهول البطانة وعلى ضفاف النيلين الأزرق والأبيض وسهول كردفان؛ والزراعي-الرعوي المختلط على مقربة من النيل كما عرف المرويون زراعة الذرة والسمسم والبقوليات واستخدموا الشادوف في ري أراضيهم الزراعية بالقرب من النيل. كما كان السودان القديم (كوش) مصدراً للقطن لمصر الفرعونية لقرون عديدة حيث عثر على أدوات مناسج القطن ضمن آثار المنازل المروية في مناطق متفرقة من هذه المملكة. ومما تم إيراده عن تاريخ وحضارة مملكة مروي -سواء في هذا الكتاب أو غيره من المؤلفات- يوضح بجلاء أن نشوء هوية السودان الثقافية قد بدأ منذ ذلك الحين. فلقد أصبح السودان (كوش) أحد الدول العظمى في العالم القديم (أفريقيا والشرق الأدنى وحوض البحر المتوسط) بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد. وتعتبر مملكة مروي صورة مصغرة للسودان الحديث بتنوع ثقافاته وأعراقه حيث برزت على المسرح السياسي كدولة قوية في جنوب وادي النيل في فواتيح القرن العاشر قبل الميلاد. وتنامى نفوذ هذه الدولة في بعض فترات التاريخ لتصبح إمبراطورية مترامية الأطراف تحكم وادي النيل برمته ما يقارب قرناً من الزمان. ولا ريب أن كثيراً من المستمسكات الحضارية التي نعايشها اليوم هي جزء من إرث حضارة مملكة مروي العريقة والتي لعبت دوراً مهماً في الإرتقاء بالحضارة الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى من ناحية التراث السياسي والإبداعي. وتجدر الإشارة إلى أن السودان في العهد الكوشي-المروي لعب دوراً رئيساً في دفع عجلة التقدم الإنساني نحو الأمام سواء في المجال الفكري (معرفة أبجدية الكتابة) أو التقني (صهر وتصنيع الحديد). فكان أسلافنا حداة ريادة فكرية وعلمية أماط اللثام عنها إرث حضاري شديد التفرد كشفت عنه الحفريات الآثارية والسجلات التاريخية.والله المستعان.