فى هذا الزمن المتجدد نسمع بين الفينة والأخرى مصطلحاً جديد أو كلمةً جديدةً أو أخرى قديمة لكنها أطلت برأسها على السطح وصار عندها حضور متواتر وواسع فى لغتنا العربية المنطوقة والمقروءة. ومن هذه الكلمات القديمة التى أطلت علينا من جديد هى كلمة "نوستالجيا" وهي بالطبع ليست كلمة عربية بل أصلها يرجع إلى اليونانية القديمة ولذلك لم نكن نعرف معناها ولا أين موقعها من الإعراب كما لا توجد كلمة واحدة مرادفة لها فى لغتنا العربية حسب علمي. النوستالجيا مصطلح قديم لكن أصبحنا نستعمله حديثاً بصورة أكثر لوصف حالة الحنين والشوق إلى الماضى أو حالة الألم التى يعانيها المريض إثر الحنين للعودة إلى بيته وخوفه من ألا يحصل ذلك إلى الأبد. فهو أشبه بحالة مرضية أو شكل من أشكال الإكتئاب ثم أصبحت موضوعاً ذا أهمية فى وصف أى حالة حب وشوق شديدة لفترات المعايشة الماضية بشخصياتها وأحداثها. وينتابك هذا الشعور بالحنين والشوق كلما زرت أو جال بخاطرك شىء عزيز من الماضى مثل بيتكم الذى شهد طفولتك وشبابك..مدرستك..المعلمون و زملاء الدراسة..غرفتك فى الداخلية.. متعلقاتك الشخصية القديمة.. فريق كرة القدم الذى لعبت معه....صور عائلية قديمة..صور الأصدقاء وزملاء العمل فى الماضى وهكذا.. فهناك رائحة مألوفة ومشاعر دفء خاصة لمثل هذه الأشياء. فعقلك أو خيالك أحياناً كثيرة يأخذك للحظات فى جولة سريعة فى أشياء من الماضى وهى حالة السرحان الممتعة. هذه الجولة الخيالية ترفع المزاج وتحسن الحالة النفسية فى حالات الشعور بالوحدة أو الملل من سوء الحاضر. فالعقل دائماً يستدعى ذكريات الماضى الطيبة ليعطى الأنسان الوقود الكافى للتعامل مع تحديات الحاضر وسباقه.. فالنوستالجيا ربما تكون وسيلة لرفع الروح المعنوية وإعادة النشاط فى الحياة ولذلك فهى من السبل الناجحة فى صد الإكتئاب لأن مجرد الشعور بأن حياتك الحالية كانت ذات قيمة أكبر يوماً ما يبعث فيك الشعور بالسعادة والأمل.. ولذلك فهي تُعتبر جهازاً آخر فى أجسامنا يمدنا بالسعادة ولحظات من الراحة وذلك الشعور الجميل الذي يجمعنا ويربطنا بأشخاص معينين وأماكن دافئة وروائح مألوفة. وهو ما نصفه فى لغتنا المتداولة حالياً بالزمن الجميل. النوستالجيا عندى كثيرة بحكم السن والأحداث - وزمان قالوا "تعيش كتير تشوف كتير" – ودائماً لدى الرغبة و الحنين لأشباع هذه النوستالجيا بمعايشة الواقع القديم لكنى للأسف الشديد لم أجد ذلك الواقع ولذلك سوف أكون فى حالة جوع عاطفى ونوستالجيا دائمة.. فمثلاً بيتنا الذى شهد طفولتى فى حى أركويت فى وادى حلفا لا ولن أجده.. أشتاق إلى بيتى الذى ترعرعت فيه وأشتاق إلى كل من تربوا معى فيه حتى الدجاج والحمام والغنم وبوبى الذى كان يحرسنا.. أشتاق إلى المدينة وشوارعها ومتاجرها وحاناتها ودراويشها وإلى شارع النخيل الذى ينتهى عند مدخل فندق النيل الجميل الأسطورة الذى كان الروائي والكاتب المسرحي البريطاني الشهير "سومرست موم" يقضى فيه فصل الشتاء من كل عام لجماله كما أن الروائية الإنجليزية المشهورة "أجاثا كريستى" كتبت روايتها المعروفة "موت فوق النيل" من وحى منظر الفندق والنيل حينما كانت تقيم مع زوجها منقب الآثار فى الفندق نفسه عام 1937.. أشتاقُ إلى الميناء وأبواق البواخر "الثريا" و "المريخ" و "لوتس" فى عز الليل ومنظر المراكب الشراعية التى كان تحوم حولها كطيور النورس والبجع الأبيض عندما تقترب من دخولها الميناء. أشتاقُ إلى محطة السكة حديد فى حلفا ومحطة عنقش وقطار إكسبريس حلفا القادم من السودان كما كنا نقول و أشتاق إلى الأثارات فى بوهين وفرص واللعب على شاطىء النيل، كما أشتاقُ للعودة إلى مدرسة حلفا الشرقية الأولية في الحى نفسه وطعمية حجة نفيسة في فسحة الفطور. كما أشتاقُ إلى مدرسة حلفا الأهلية الوسطى فى حى عثمان وضريح سيد إبراهيم شرقها ومزارنا له فى أيام الإمتحانات... كما لى شوق شديد إلى من علمونى حرفاً (مثل الناظر محى الدين محمد طاهر والأستاذ محسن إبراهيم مصطفى فى حلفا الشرقية الأولية والنظار على أحمد على وأحمد عواض وحسين النور والمعلمين الأساتذة رشدي وصاوي بتيك وأحمد عبد الجابر وحسن أحمد ومحسوب حسن كاشف ومحمد الحسن الشيخ "ودالشيخ" وأحمد عباس ومحجوب محمد صالح في حلفا الأهلية الوسطى) الذين لم أرهم منذ أن إفترقنا في تلك المرحلة من العمر. كما يمر بخاطري بين الفينة والأخرى حي التوفيقية الذى سكنا فيه و نادي التوفيقية الرياضي الذى لعبت مع فريقه كرة القدم مع زملائي أعضاء الفريق (مثل اللاعبين كمال عثمان ومصطفى قناوي وعبد الكريم رضوان والمعز عوض يوسف وعزو محمود وبكري كلودة والإداريين أحمد كواب وسعيد قرقودة وجمال كلودة والمشجعين عبدالوهاب وسليم ميرغنى عبدالعزيز). كل هؤلاء الأعزاء من معلمين وزملاء كان آخر عهدي بهم في بداية الستينيات من القرن الماضي. وكذلك أشتاقُ إلى إستاد وادى حلفا والريس محمد الحسن عطية الله سكرتيرها العام الدائم ومنافسات كأس الدوري وكأس البلدية و حماس الفرق (الهلال والمريخ والموردة والنيل والعرب والتوفيقية ودغيم ودبروسة) وكبار النجوم (مثل جنكيز ومُلكة وقدورة وعبده قيّه وظلوط وحمزة عطا المنان وفريني وحمودي). كل هذه الأمكنة العزيزة ودعناها بدمع منهمر وقلب منفطر حيث غاصت كلها تحت مياه السد العالي وذابت فيه وما لم يذب منه أصبح قابعاً على بعد مئات الأمتار فى قاع النيل. وأولئك الناس الأعزاء من أساتذه وزملاء وجيران فرقتهم الهجرة أيدى سبأ وأكثرهم رحلوا عن هذه الدنيا ولا نملك إلا أن نترحم عليهم فى هذه الذكرى. أما بوبى، الوحيد الذى لم يرافقنا فى الهجرة إلى الشرق، فقد وقف حائراً أمام بيتنا الخالى ونحن نساق مع أنعامنا وطيورنا إلى قطار الشرق، لا يصدق أنه تُرك وحيداً. وعندما تحرك قطار الشرق، الذى كان أشبه بسفينة نوح، ظل يجرى خلفه لاهثاً مع رفاقه إلى أن تواري القطار عن الأنظار فرجع هو ورفاقه إلى بيوتنا الخالية المهجورة ليواجهوا مصيرهم المجهول.. والله يجازى الكان السبب... ذلك الهدم للماضى ولحضارة عريقة إمتدت لأكثر من 7 ألف سنة قبل الميلاد وتشتيت أمة مستقرة آلاف السنين شرقاً وغرباً كان بسبب رعونة وجهل عسكر الفريق إبراهيم عبود الذين إحتلوا حكم البلاد بدبابة آنذاك. ولما إنتهت مرحلة الطفولة وبدأت مرحلة الشباب دخلت المرحلة الثانوية وسافرت إلى الخرطوم وتلك كانت مرحلة أخرى بجمال مختلف.. وادي سيدنا جمال الموقع وجمال المدرسة وعلم من علمونا (النظار خالد موسى ومحمد أبوبكر ونورالدين و الأساتذة النور عثمان أبكر وعمر ماث وعبد الله الشيخ البشير والعتباني ومحمد الأمين سعيد والخواض). الحنين يعود إلى تلك المدرسة وجمال تخطيطها وفخامة مبانيها وروعة طبيعتها وحتى إلى ذرات ترابها.. أذكر أسعد اللحظات عندما كانت تأتينا فيها قندرانات النقل الميكانيكي ظهر كل خميس لتقلنا من الداخليات وتطلقنا عند أجزخانة العاصمة المثلثة بعمارة الأراك لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.. كما أن الحنين يعود إلى بصات السروراب التى كانت تساعدنا فى الهروب من المدرسة أثناء الأسبوع إلى دور سينما برامبل والسينما الوطنية وسينما أمدرمان ومشاهدة أفلام البيرت لانكستر والكاوبوى وقاري كووبر وجيف شاندلر(أبوشيبة) وأفلام إسماعيل ياسين المضحكة.. ولا أنسى فرقة "هارامبى أفريكا " التى لبت الدعوة و زارتنا فى المدرسة فى عام 1966 وأطربتنا بأغنياتها الأفريقية والسواحيلية والإنجليزية .. والحنين يعود إلى فول عمك نواى المصلح الذى كنا نغير به طعم فول وعدس الداخلية الكل يوم معانا.. وأشتاق إلى حلاقة عم بشتنة المبشتنة، والتى أصبحت موضة اليوم، فأيقنت أن عم بشتنة كان سابقاً لعصره.. ولا أنسى النظام وراحة السكن فى تلك الداخليات الجميلة (جماع والداخل وأبوقرجة وبابكر بدرى والمختار و ود البدوى) وحصص الكديت وعمنا بابكر قائد الكديت وضارب الأجراس وجالد الناس..الحنين يعود إلى لعب الكرة فى تلك الميادين الخضراء على ضفاف النيل ونادى الزوارق ومحمد خليل صيام ونادى التمثيل والمسرح الذى خرّج المسرحى والفكاهي المعروف الأستاذ محمد شريف علي وسيف الدولة محمد الحسن ونادي الموسيقى الذي تخرج منه عازف الأكورديون المشهور المرحوم عبد العزيز حسن محجوب ونادي الصحافة والإعلام الذى خرّج الكثير من الكُتّاب والإعلاميين ومنهم الكاتب الساخر والإعلامى المعروف الأستاذ جعفر عباس (أبو الجعافر) والجمعيات الأدبية التى خرّجت الشاعر والقاص المعروف المرحوم البروف على المك والمرحوم الشاعر دكتور محمد مهدى أحمد علي والشاعر الأستاذ عبد المجيد يسن وملاعب الكرة التى خرّجت النجم فيصل عبد المنعم لاعب المريخ العاصمي والنجم كمال أحمد.. يا لجمالها من سنوات عامرة بالعلم والفن والرياضة والبهجة مضت كلمح البرق. لكن وااأسفاى فقد إنتهى كل ذلك و لا عودة لهذا المكان من جديد لإشباع النوستالجيا فقد إحتلها ذات العسكر فى حقبة المشير جعفر نميرى بل هى نفسها تحولت من منارة علم إلى كلية حربية تفرخ العسكر كل عام. ولا غرو فتخريج الضباط أيضاً أمر حيوي بلا ريب، يحتاج له الوطن للدفاع عن حياضه، لكن لماذا لا تختار لهم الدولة مكاناً آخر وفي موقع أفضل تحاول أن تنافس فيه المستعمر البريطاني ببناء صرحٍ بمستوى كُلية يتفوق في بنائها على ما خططه وبناه المستعمر كمدرسة ثانوية نموزجية... ولكن هيهات.. وربما لهذا السبب وغيره من الأسباب، هنالك نوستالجيا من نوع آخر تجاه المستعمر ممّن عاصروه. وإنتقلنا إلى مرحلة جامعة الخرطوم وتلك كانت مرحلة أجمل بفضل إكتمال النمو وتكوين الشخصية وحياة الجامعة بكل ما فيها من حرية وإستقلالية.. إشتقتُ أن أعيش فى داخليات البركس وأشهد النشاط السياسى والجرائد الحائطية فى قهوة النشاط وكذلك الندوات السياسية فى نادى الطلبة والميدان الشرقي حينما كان يتحدث كل الزعماء السياسين (المناضل الأستاذ عبد الخالق محجوب والأستاذ محمد إبراهيم نقد والنقابى الرفيق الشفيع أحمد الشيخ وكذلك الدكتور حسن الترايى ويسن عمر الإمام ورجل الدين الشيخ محمود محمد طه والإمام الصادق المهدي) .. لا تغيب عن ذهني قاعة الإمتحانات التى تصببنا فيها عرقاً فى عز الشتاء و التى شهدت كثيراً من المناسبات و الإحتفالات وموكب مارس شهر الكوارث الذى كان ينتهي عندها بحرق تمثال الإمتحانات المرعب وكذلك مباريات كرة السلة فى ميادينها (واللاعبون محمد فرج وشارلس منيان وسكرامنتو وعلى يوسف وشاشاتي). ولا أنسى سينما النيل الأزرق المجاور لنادي الطلبة و أفلامه الحديثة. أين ذلك الماضى الجميل؟ وهل من عودة من تاني؟ لا عودة لإشباع النوستالجيا فكل ذلك الصرح وما به من علم و إرث ونظام وتاريخ قد هدمه ذات العسكر عمداً فى حقبة المشير عمر البشير بل حتى باعوا مباني الجامعة كما باعوا البلد. مصيبتنا الكبيرة فى حكم العسكر وحتى فى مرحلة الحياة العملية عشنا المآسي وإنهيار الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بسبب دكتاتورية وفساد الحكومات العسكرية المتعاقبة، فحكم العسكر يتشابه وتجارب الإنقلابات العسكرية تستنسخ كما أن كتالوج الإنقلابات العسكرية متماثل، فكلهم يشتركون فى هدم كل ماضٍ جميل. وزمان قالوا "حكم العسكر ما بتشكر". ولذلك فقد هاجرت مكرهاً أخاك لا بطل إلى بلاد أخرى أكثر أمناً وأكثر حريةً لكن تبقى النوستالجيا لنعيش عليها فهى مبعث السعادة والأمل.. والشاهد لقد هدم العسكر كل ماضٍ عشته منذ الطفولة إلى الكهولة وبالأخص منارات العلم والتعليم. فالحقبة الأولى من الحكم العسكري أغرقت مسقط رأسي وبيتي ومدرستي الأولية والمتوسطة والحقبة الثانية إحتلت مدرستي الثانوية وحولتها إلى كلية حربية والحقبة الراهنة باعت جامعة الخرطوم. فماذا يعني ذلك !! وهكذا اندثر ماضينا من أرض الواقع، أو كما قال الشاعر العبقري الفذ إدريس جمّاع: "ثم ضاع الأمس مني وانطوت في القلب حسرة" كما ذكّرتنا بذلك الكاتبة البارعة د. ناهد قرناص في احدى مقالاتها الشيقة مؤخراً، وظلت سيرته في الكتب والذاكرة. ولذلك أصبح الإشباع النوستالجي مستحيلاً في بلدي فبحثت عنه فى مكان آخر. ففى عام 1976 بعثتنى جهة عملى فى السودان إلى بريطانيا فى فترة تدريبية ورتبت مسألة السكن فى لندن عن طريق المجلس الثقافي البريطاني فى الخرطوم.. يا لها كانت من سهولة آنذاك. وفى مطار هيثرو قابلنى مندوب المجلس البريطاني وسلمني مفتاح المنزل والموقع وخارطة الطريق. ومن المطار ذهبت رأساً الى منزلى فى شمال لندن فى منطقة "إيست فنشلي" وبقيت عاما كاملاً فى ذلك المنزل الصغير ذو الغرفتين و كانت توجد حوله حديقة كبيرة كنت أظن أنها تابعة لمنزلى لكن إكتشفت فيما بعد أنها مشتركة لكل البيوت المجاورة.. هذا المنزل الصغير زارني فيه عشرات الأشخاص و نزل معنا فيه إخوان وإخوات لى كما كانت لنا فيه ذكريات جميلة حيث كنا قد عرفنا كل شبر فى تلك المنطقة وتعودنا عليها حتى أصحاب المتاجر والمحلات والعمال صاروا أصدقاء لنا. لكن العسكر لم يتركونا فى حالنا بل لحقونا حتى إلى هناك وتلك قصة أخرى أحكيها لكم – ففى يوم من الأيام جلس بجانبي فى القطار شاب سوداني يكبرني وتعرفنا على بعض ونزل معى فى محطة "إيست فنشلي" وذكر أنه يسكن فى نفس المنطقة لكن لم يدلنى على مكان سكنه. وفى الطريق من المحطة إلى منزلي تجاذبنا أطراف الحديث وعرف عني كل شىء حتى وصلنا إلى المنزل ودخل معي وضيّفته وودعته وذهب إلى حاله. إلا أنه كرر زياراته وكثرت أسئلته ومنذ زيارته لى زادت المنشورات السياسية التى كانت تأتيني فى بريد المنزل فإنتابني شك فيه. وفعلاً فقد صدق حدسي.. فعندما شاهده معى دكتور عاصم، وهو طبيب سوداني جاء للدراسة ويسكن قريباً منى، حذرني من ذلك الشاب بحكم أنه هو القنصل وممثل الأمن والإستخبارات فى السفارة ومن يومها تهربت منه وقطعت دابره ولم أره مرة أخرى. و من غرائب الصدف أن ألتقيت بهذا الشاب بعد أكثر من 22 سنة فى البلد التى أعمل فيها الآن بل تزاملنا فى العمل فى نفس الشركة لسنين طويلة. وكان حينها قد ترك العمل فى جهاز الأمن بعد زوال حكم الرئيس جعفر نميري وإغترب..وقد ذكّرته بتلك الأيام فى لندن لكنه لم يعر القصة إهتماماً وهكذا هم دائماً غالبية رجال الأمن يودون أن يُمحى ماضيهم بإستيكة - وبعد أن إنتهت البعثة الدراسية عدت أدراجى إلى السودان. وأعود لموضوعنا... ففى إحدى زياراتي للندن و تحديداً فى عام 2008 أخبرتُ أحد أقربائى المقيمين هناك بأننى أود زيارة مكان ما، ولم أخبره بالمكان ولا بسبب الزيارة، وطلبت منه أن يرافقني فى ذلك المشوار.. وفعلاً ركبنا القطار فى إتجاه "إيست فنشلي" ونزلنا فى محطتها.. لم يتغير فيها شىء البتة وكأننى كنت بها بالأمس وسرنا فى الطريق وأنا ألتفت يميناً وشمالاً أنظر إلى المتاجر والمحلات وأسلم على أصحابها والعمال فى الطريق إلى أن وصلت المنزل الذى سكنت فيه قبل 32 عام . وقفت أمام بابه أتأمل فى كل شى فيه لدرجة أننى وجدت إسمى الذى كنت قد كتبته فى الباب ثم شطبته حرصاً عندما زارنى رجل أمن السفارة. وجلست فى حديقة المنزل أتأمل الملاعب والأطفال يلعبون. أما قريبي فقد وقف متحيراً إزاء ما أفعل وكان يتوقع مني أن أطرق باب المنزل. وعندما إشتدت حيرته قلت له كنتُ أسكن فى هذا المنزل قبل ميلادك وعاودنى الحنين إليه ولذلك جئتُ أزوره و بس.. قريبي هذا إحتار أكثر ولم يصدق الحكاية بل فكر بأنى أمزح معه أو إنه زهايمر مبكر. مسكين قريبي لم يستوعب الفكرة ولم يتخيل مدى الراحة التى إرتحتها ومدى السعادة التى غمرتني وأنا فى ذلك المكان الذى ذكرني بحقبة تاريخية كاملة وناس وحكايات وأمكنة...إنه الحنين وقوة النوستالجيا التى دفعتني إلى العودة إلى ذلك المكان بعد مضي 32 سنة بالتمام والكمال. البعثة الدراسية إلى بريطانيا عام 1976 كانت مقسمة بين مدينتى لندن ونوتنغهام التى تقع فى شمال غرب مدينة لندن. وفى نوتنغهام أقمنا ومعى زوجتى وزميل آخر فى داخليات الطلبة فى جامعة نوتنغهام حيث كانت الدراسة فى الجامعة نفسها. قضينا فى تلك المدينة الدامجة للتراث والتمدن فترة جميلة فى الجامعة مع طلبتها وأساتذتها وعمالها وكذلك فى زيارة معالم المدينة الكثيرة منها غابة شيروود الشهيرة التى عاش فيها البطل الأسطورى "روبن هود" وعلمنا الكثير عن أسطورة "روبن هود" أجمل الحكايات القديمة. لكن أذكر واقعتين مؤسفتين حصلتا إبّان وجودنا فى نوتنغهام سوف لن أنساهما ما حييت. الواقعة الأولى كان الطعام فى داخليات الجامعة بنظام البوفيه وإخدم نفسك بنفسك مثلما كان الحال فى جامعة الخرطوم فى أواخر عهدها. ذهبنا إلى سفرة الطعام فى أول يوم وأول وجبة ووقفنا فى الصف ومررنا بالصينية على كل أنواع الطعام وأخذنا نصيبنا من كل صنف وجلسنا إستعداداً للأكل. وعندما جاء الدور على زميلي رفع صحنه لعاملة المطعم (مدام ميري) لتصب له فيه الحساء أو شوربة الكريما الساخنة.. وبعد أن إمتلأ صحنه، ولسبب ما، وقع منه الصحن بشوربته على يد مدام ميري فإنسلخ جلدها بالشوربة الساخنة وصاحت باكية من الألم والتشويه والخوف الذى أصاب يديها وأجزاء من جسدها. وزميلى طغت عليه السعدابية فبدلاً من أن يبدي إعتذاره لها صاح صارخاً فيها فى نفس الوقت محاولاً تبرير نفسه من الخطأ وصارت مشكلة كبيرة.. وتجمّع طاقم إدارة الجامعة وشرطة نجدة وإسعاف وطوارىء للاسعاف والتحقيق فتركنا الأكل وكل شىء كما هو وخرجنا من المطعم لأن "الحكاية جاطت" كما يقولون. كان ذلك اليوم يوماً حزيناً بالنسبة لنا ولكل من كان موجوداً فى الجامعة فى تلك الساعة. الواقعة الثانية هى هروب أسد مفترس من حديقة الحيوانات فى نوتنغهام أثناء إنقطاع التيار الكهربائى بالحديقة. جاءنا خبر بذلك، عبر إعلام الجامعة والمنشورات والإذاعة، مع التحذير بعدم الخروج إلى الشوارع لعدم تمكن السيطرة عليه بعد. كانت زوجتي قد ذهبت لتوها لشارع الأسواق للتسوق حيث كان قد بقيت لنا أيام معدودة لمغادرة تلك المدينة. حين سمعت ذلك الخبر إنتابنى شعور بالخوف والحيرة خاصة وقد راجت إشاعات بأن الأسد يهاجم الناس فى الشوارع وأنه قضى على إمرأتين وطفلتين فى جهة الأسواق حتى الآن... وقتها لا هواتف ولا جوالات للإطمئنان ولذلك أخبرت قسم إدارة الأزمات فى الجامعة فما كان منهم إلا أن أرسلوا سيارة مصفحة مع عدد من حراس الأمن المسلحين وبحثوا عن زوجتي فى شارع الأسواق وأحضروها وهي تكاد تموت من الخوف لأنها للصدف كانت قد رأت بأم عينها من داخل أحد المتاجر، الأسد الهارب وحراس الحديقة مع الشرطة يحاولون السيطرة عليه إلى أن أردوه قتيلاً حينما فشلوا فى السيطرة عليه حياً. الشاهد فى عام 2009 زرتُ مدينة لندن فى مهمة عمل. وبعد إنتهاء المهمة صادف إجازة نهاية الأسبوع.. وبدافع من النوستالجيا قررت أن أزور مدينتي القديمة نوتنغهام وسافرت إليها لوحدي، دون قريبي، هذه المرة لمدة ساعتين بالقطار . وذهبت رأساً إلى الجامعة فلي فيها ذكريات وأناس وأحداث حلوة ومرة . تجولت فى ردهات الجامعة وبين القاعات والمكتبات والداخلية التى سكنت فيها وفى سفرة الطعام وقابلت أناس كنت قد عرفتهم. ما أعجبنى وأدهشني فى الوقت نفسه أنه بعد مضي 33 سنة وجدت كل شىء كما كان وفى مكانه لم يتحرك قيد أنملة.. فقط لم أجد بعض ممن كنت قد عرفتهم من الأساتذة والموظفين والعمال. وما أذهلني أكثر أن عرفني أحد عمال سفرة الطعام من الباقين من أول وهلة وذكرني بحادثة مدام ميري والشوربة الساخنة التى لم ولن أنساها.. لكن عندما رأى الحزن بادياً على وجهى طمأننى بأن مدام ميري كانت قد نالت تعويضاً مجزياً من شركة التأمين عن نسبة عجزها المهني ومن ثم تركت العمل فى الجامعة وفتحت محلاً تجارياً خاصاً بها و راجت تجارتها وصارت من أثرياء المدينة بعد أن كانت عاملة بسيطة فى الجامعة لسنوات طويلة ثم توفت وفاة طبيعية فيما بعد. وكانت صورة مدام ميرى قد عُلقت فى برواز كبير أمام سفرة الطعام بإعتبار أنها كانت واحدة ممن ممن أخلصوا وتفانوا فى خدمة الجامعة ومن تحصلوا على شهادة تقدير الخدمة الطويلة. وقفت عند الصورة لدقائق وحزنتُ من جديد لحماقة زميلي وعدم تقديره للموقف فى تلك اللحظة لكن قلتُ ربّ ضارةٍ نافعة. وبعد أن فرغتُ من جولة الجامعة زرتُ معالم المدينة كلها ومن ضمنها شارع الأسواق.. و أثناء الجولة وجدت نفسى فى شارع عريض و أمام لافتة صغيرة فى طرف هذا الشارع فيها صورة أسد وكُتبت تحت الصورة عبارة حزينة (فى هذا المكان قتل أسد هارب يوم 10/8/1976). وقفتُ عند تلك الصورة والعبارة حيث دارت فى رأسى أشياء كثيرة من الماضى والحاضر. وتعجبت.. فالبلديات تستفيد من كل حَدث فتحول مكانه إلى مَعْلَمٍ سياحي يكتسب أهميته بمرور الزمن. عُدتُ أدراجى إلى لندن فى مساء اليوم نفسه وقد أشبعت النوستالجيا بتلك الجولة السريعة فى مدينة نوتنغهام. الشاهد فى هذه البلاد تبقى حتى أبسط الأشياء على حالها مئات السنين لا يقربها أحد ولا يمسسها بشر لأنهم يقدسون التراث والماضى فهو تاريخ الأمة غير قابل للإندثار أو العبث. وما صورة مدام ميرى التى عُلقت فى حائط الجامعة وصورة الأسد المقتول فى شارع الأسواق إلا رمز للتقدير وحفظ للماضى. أما فى بلادنا فحدث ولا حرج فمعاول الهدم لحكم العسكر تطال كل شىء قديم حتى رمز الجندى المجهول لم يسلم من شرهم فقد هُدم فى ذات ليل مظلم... الحقيقة أنها محاولات مقصودة وفاشلة لمحو التاريخ، فيأبى التاريخ إلا أن يكون حاضراً في وجداننا، وقد يعيد التاريخ نفسه، فليس ذلك على الله ببعيد. لست وحدي أعيش النوستالجيا.. فإذا قسّمنا الشعب السوداني الآن بين جيلين: الجيل المخضرم الذي عاصر الحقب السياسية الديمقراطية و الحقب العسكرية، وبين الجيل الحالي الذي وُلد وترعرع في ظل الأنظمة الشمولية العسكرية فقط فسوف نجد أن أكثر من نصف الشعب السودانى يعيش النوستالجيا من القهر والظلم وضنك المعيشة الحاصل الآن. ولذلك تجدهم في معظم أوقاتهم في حالة إستدعاء دائم للمخزون الإستراتيجى الهائل من الماضي. والدليل أنك إذا تحدثت عن الحكومات والزعماء السياسين يذكرون إسماعيل الأزهرى والمحجوب وعبدالله خليل ومبارك زروق.. وإذا تحدثت عن تدهور الإقتصاد يتذكرون وزراء المالية وإدارة بنك السودان الأسبقين الشريف الهندى والسيد الفيل وعوض عبد المجيد وإذا تحدثت عن الفن يقولون سوف لن ينجب السودان فناناً مثل الفنان إبراهيم عوض والفنان محمد وردى والفنان أحمد المصطفى والفنان عثمان حسين والفنان سيد خليفة والفنان الكابلى والفنانة عائشة الفلاتية.. وإذا جاءت سيرة الأدباء والكتاب لا نجد غير سيرة الأديب الدكتور عبدالله الطيب والكاتب الأديب جمال محمد أحمد وكتابه سالي فوحمر والروائى الطيب صالح وروايته موسم الهجرة إلى الشمال والشعراء صلاح أحمد إبراهيم والطير المهاجر ومحمد المكي إبراهيم والغابة والصحراء والشاعر محجوب شريف ورائعته يا والدة يا مريم. وإذا تحدثت عن الرياضة يقولون أين نحن من فنون الكابتن صديق منزول وسبت دودو وإبراهومه وجقدول وقرعم وجكسا وماجد. وإذا جاءت سيرة التمثيل و المسرح يتذكرون الرواد الفاضل سعيد وبت قضيم وحمدنا الله عبدالقادر والفكى عبدالرحمن وعثمان حميدة تور الجر. وإذا تحدثت عن شعراء الأغنية فليس هناك من يضاهي شعر وكلمات الشاعر خليل فرح وعزة فى هواك.. ومحمد بشير عتيق ويا ناعس الأجفان ورونق الصبح البديع وعبدالرحمن الريح وملك الطيور.. وحسين بازرعة والقبلة السكرى وأنا والنجم والمساء.. وسيف الدسوقى والمصير.. وإسماعيل حسن والقمر بوبا ... وإذا أردت أن تغير وتسمع موسيقى وأغانى الجاز يقولون أين نحن من الفنانين وليم أندريا وكمال كيلا وفرقة جاز البلوستارز وفرقة جاز العقارب والفنان شرحبيل أحمد.. والموسيقيين فأين نحن من الموسيقار برعى محمد دفع الله وفرحة شعب وأجراس المعبد ومحمدية وعبدالله عربى. وإذا ذهبنا إلى الفنون التشكيلية فلم يظهر مثل الفنان التشكيلى الصلحى وشبرين وأحمد عبدالعال وراشد دياب.. وحتى إذا ذكرنا التجار فأين نحن من محلات مرهج وقومشيان وأتنيه ومحلات زكي والسليماني و ريش والجي بي. وحتى مؤسساتنا القومية التى كانت عِماد إقتصادنا لم تسلم من الخراب الاقتصادي المنظم وصارت شيئاً من الماضى وفى خبر كان.. فقد طالتها معاول الهدم المخطط والفساد الممنهج.. فأين مشروع الجزيرة الزراعي وأين الخطوط البحرية السودانية وأين الخطوط الجوية السودانية (وأين خط هيثرو) وأين سكك حديد السودان وورشة عطبرة وأين بصات أبورجيلة الصفراء وأين المصانع وخليل عثمان وأين فندق السودان والإسطراطور وأين بترول هجليج بل أين جنوب السودان وأين وأين وأين........ ولا أدري إلى أين وصل "واو العطف" و"واو الاستئناف" الآن في كل قضايا الفساد التي يتابعها الأستاذ الفاتح جبرا متابعةً حثيثة ولكن لا حياة لمن تنادى. إذا كان هذا هو الحال اليوم فلن يلوم جيلنا أحد فى إستغراقنا الأبدى فى النوستالجيا لأنه يفصلنا عن الواقع الحالى المرير. فهذه النوستالجيا تأخذنا إلى عوالم جميلة لا نريد أن نستفيق منها أبداً. الحقيقة ليس هناك مبالغة إذا قلنا أن الشعب السودانى أغلبه يعيش النوستالجيا فى كل شىء وحتى الآن لم يظهر قادة أو رواد جُدد يكسرون تلك القاعدة فى كل المجالات التى ذُكرت وكأن رحم حواء السودان قد توقفت عن ميلاد أصحاب المواهب والنبوغ والحكمة لينشلونا من إخفاقات القادة والشعب التى أسهمت فى تأزم أوضاعنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية التى لا مخرج منها إلا بأصحاب المواهب والنبوغ والحكمة لإعادة إصلاح الإنسان السودانى أولاً ليعود إلى سيرته الأولىى ومتى ما صلح الانسان صلح السودان. خلاصة القول.. أن التفكير النوستالجي فيه إشباع لرغبة ومتعة حسية تجعل الحياة ذات معنى كما أنه يولد الأمل فى المستقبل. والخطر الوحيد وراء النوستالجيا يكمن عندما تقف عندها وتظل ترتدي تلك النظارات الوردية عن الماضيى بدلاً من أخذ نظرة جادة عن الحاضر و العمل الدؤوب من أجل المستقبل.. حذار أن نغرق أنفسنا فى الماضي ويضيع منا الحاضر ونهدم المستقبل.. تذكر ماضيك وأصنع حاضرك ومستقبلك. شوقى محى الدين أبوالريش عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.