إكتمال الترتيبات اللوجستية لتأهيل استاد حلفا الجديدة وسط ترقب كبير من الوسط الرياضي    تواصل دورة شهداء معركة الكرامة بمدينة رفاعة    كساب والنيل حبايب في التأهيلي    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    كأس العالم.. أسعار "ركن السيارات" تصدم عشاق الكرة    تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَاذا حَدَثَ لكِتابِ الإسلاميين عن اتفاقيةِ نيفاشا؟ (2/5): تعقيب على الأستاذ خالد موسى دفع الله .. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
نشر في سودانيل يوم 27 - 06 - 2018

تعرّضنا في المقال السابق من هذه السلسلة من المقالات إلى مقال الأستاذ خالد موسى دفع الله الذي نشره في 16 مايو عام 2017 (أي قبل أكثر من عام) على عددٍ من الصحف الالكترونية والورقية بعنوان "الإسلاميون وانفصال جنوب السودان." وقد ابتدر الأستاذ خالد مقاله بالقول:
"يترقب الوسط السياسي قريبا صدور كتاب جامع مانع عن اتفاقية السلام الشامل من افواه صانعيها بعد ان اكتملت فصوله وتحقيقه وتدقيق اللمسات الاخيرة ليضيف للمكتبة السودانية سفرا نوعيا يسد فراغا هاما في التوثيق والادب السياسي المعاصر."
وبعد وصفٍ وإطراءٍ طويلين للكتاب الموعود حاول الأستاذ خالد موسى في مقاله أن يجادل أن إعلان فرانكفورت الذي وقّعته حكومة الإنقاذ مع الدكتور لام أكول عام 1992 لم يمنح الجنوب حق تقرير المصير. ثم زاد على ذلك بالقول إن التجمع الوطني الديمقراطي هو أول من منح الجنوب حق تقرير المصير في مقررات أسمرا عام 1995، وأن كل ما فعلته الإنقاذ هو أنها سارت على درب التجمع في بروتوكول مشاكوس عام 2002، واتفاقية السلام الشامل عام 2005.
وقد ذكرنا في المقال السابق أن هذا الكتاب الموعود لم يصدر بعد، رغم مرور أكثر من عامٍ على وعد الأستاذ خالد أن الكتاب سيصدر "خلال أسابيع." كما أوضحنا أن سلسلة مقالاتنا هذه سوف تتناول الردَّ على ثلاثة مسائلٍ أثارها مقال الأستاذ خالد، وهي:
أولاً: لماذا تأخّر صدورُ كتابِ الإسلاميين عن اتفاقية نيفاشا رغم وعد الأستاذ خالد موسى قبل أكثر من عام أن الكتاب سيصدر في غضون أسابيع؟
ثانياً: لماذا لا يعتد ويعتمد المؤرخون على كتابات وإفادات الأشخاص الذين ساهموا في صنع الأحداث موضوع الكتاب والمقال؟
ثالثاً: وهذا هو الأهم، سوف نناقش بالتفصيل إعلان فرانكفورت ونوضّح أنه في حقيقة الأمر أول وثيقةٍ توقّعها حكومةٌ في الخرطوم تعترف فيها صراحةً بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
وقد تناول مقالنا السابق الإجابة على التساؤلين الأوليين. وننتقل في هذا المقال إلى الموضوع الثالث والأهم، وهو إعلان فرانكفورت.
2
ركّز مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان والذي تمّ إصداره في يوليو عام 1983 على وحدة السودان. وتناولتْ الفقرةُ الثالثة من المانيفستو مبدأ "السودان الجديد"، القائم على المواطنة التي تُساوِي في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العِرق أو الدين أو اللغة أو الثقافة.
وقد أنشأت الحركة الشعبية منذ قيامها في مايو عام 1983 تحالفاً وطيداً مع نظام منقيستو هايلي مريم، وأصبحت أديس أبابا مصدراً رئيسياً للعون العسكري والمادي للحركة، وصارت أراضي اثيوبيا المتاخمة للحدود مع ولاية أعالي النيل في جنوب السودان ميداناً للتدريب والاجتماعات للحركة الشعبية ومعسكراً للاجئين.
يعتقد الكثيرون أن شعار السودان الجديد المُوحّد فرضته وأملته العلاقة مع نظام منقيستو. إذ لايعقل أن تتوقّع الحركة الشعبية عوناً متكاملاً من اثيوبيا التي كانت تحارب الحركات الاريترية المنادية بالانفصال إذا كانت الحركة نفسها تطالب بالانفصال أو حتى حقّ تقرير المصير.
عليه فقد نتج عن سقوط نظام منقيستو هايلي مريم في مايو عام 1991 دويٌّ هائلٌ داخل الحركة الشعبية. فجأةً توقّفتْ الإمدادات العسكرية والمادية، وأمرتْ الحكومةُ الإثيوبية الجديدة الحركةَ بإغلاق معسكرات التدريب الواقعة داخل اثيوبيا. وأصبح على الحركة البحث عن حلفاء جدد لن تتوفّر في أيٍ منهم أقلُّ الميزات الاثيوبية. من الجانب الآخر سعدتْ الخرطوم كثيراً بالتغيير في أديس أبابا، وأعلنت حكومة الإنقاذ بنفسها أنها كانت قد ساهمت فيه. وفتح هذا التغييرُ فصلاً جديداً للعلاقات بين الحكومة والحركة من جهة، وداخل الحركة نفسها من الجهة الأخرى.
3
كانت أولى تداعيات سقوط نظام منقيستو هايلي مريم هو الانشقاق داخل الحركة نفسها. ففي 27 أغسطس عام 1991، أي بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من سقوط منقيستو، أعلن الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول عن انقلابٍ عسكريٍ زعما أنهما أطاحا من خلاله بالدكتور جون قرنق. غير أن الانقلاب لم ينجح، وانتهى الأمر بحدوث انقسامٍ كبيرٍ داخل الحركة الشعبية وبروز فصيل الناصر (أو الفصيل المتّحد) من الحركة الشعبية بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. وقد تبنّى هذا الفصيل شعاراتٍ عدّة منها تقرير المصير والانفصال، في مواجهة شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان يدعو له مانيفستو الحركة الشعبية الأم.
4
في السادس من شهر سبتمبر عام 1991، أي بعد أسبوعين من الانقسام داخل الحركة الشعبية الأم، عقدت الحركة اجتماعاً لمكتبها السياسي بمدينة توريت التي كانت تحت سيطرتها. وأصدرت الحركة عدّة قراراتٍ أهمها القرار رقم (3) الذي نصّت الفقرة الثانية منه على الآتي:
"النظام المركزي للحكم في السودان والذي يستند على دعائم العروبة والإسلام مع إتاحة الحق بإقامة نظمٍ لحكمٍ محليٍ ذاتي أو دولٍ فيدرالية في الجنوب (أو أي أقاليم أخرى) تمّ تجربته ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لذلك تأرجح السودان بين الحرب والسلام منذ الاستقلال، وأخذت الحرب 25 من 36 عاماً من هذه الفترة. في أية مبادرةٍ للسلام مستقبلاً سيكون موقف الحركة الشعبية من نظام الحكم هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير."
وهكذا بين ليلةٍ وضحاها انتقلت الحركة الشعبية لتحرير السودان من شعار السودان الجديد الموحّد إلى المطالبة بنظامٍ كونفيدرالي أو تجمّعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير. كان هذا هو أول شرخٍ لمبدأ السودان الجديد ابن الثمانية أعوام. وهو دون أدنى شكٍّ شرخٌ كبير. فحركات التحرير لا تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل إرضاء طموحاتٍ نظرية، أو لغرضٍ أكاديمي. إنها تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل أن يقودها إلى غايتها النهائية وهي الانفصال.
لقد كان سقوط نظام منقيستو هايلي مريم دون شكٍ هو عود الكبريت الذي فجّر قنبلة الخلاف داخل الحركة الشعبية وقاد إلى بروز جناح الناصر. وأدى هذان التطوران معاً إلى تبنّي الحركة الشعبية الأم لمبدأ حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وإلى البدء في وداع شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان المكوّن الأساسي لبرنامج الحركة الشعبية منذ عام 1983.
5
بدأت حكومة الإنقاذ اتصالاتها مع فصيل الناصر الذي كان يقوده الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول فور الانشقاق من الحركة الشعبية الأم. وقد كان ذلك الانشقاق هو غاية ما تتمناه حكومة الإنقاذ. وتمّ عقد أول اجتماعٍ بين مسئولين كبار من الحكومة والفصيل المنشق في أكتوبر عام 1991 في نيروبي، حيث التقى الدكتور علي الحاج مع القانوني السيد جون لوك الذي كان أحد أبرز القادة المنشقين عن الحركة الشعبية الأم. اتفق الطرفان على لقاءٍ موسّعٍ ورسميٍ في إحدى الدول الأوروبية. وقد وافقت جمهورية المانيا الاتحادية على عقد اللقاء في مدينة فرانكفورت.
وصل الوفدان إلى فرانكفورت وبدأت مفاوضاتهما في 23 يناير عام 1992 واستمرت حتى يوم 25 يناير. قاد وفد حكومة الإنقاذ الدكتور علي الحاج وشملت عضوية الوفد العميد كمال علي مختار، والسيد موسى علي سليمان، والسكرتير الأول بالسفارة السودانية بالمانيا السيد محمد حسين زروق. وقاد وفد مجموعة الناصر الدكتور لام أكول وشملت عضوية وفده السادة جون لوك، وتيلار دينق، وتعبان دينق والدكتور كاستيلو قرنق.
6
قدّم كلٌ من الوفدين تصوّرَه لحل النزاع السوداني. تضمّنت مقترحات الوفد الحكومي إقامة نظامٍ فيدرالي باعتباره الخيار المناسب لتحديد العلاقة بين الشمال والجنوب وبين الولايات كافة، وباعتباره النظام الأمثل الذي يسمح للشعب السوداني بالتعبير عن تبايناته وتعدّديته الثقافية والدينية والعرقية. أوضحت المقترحات الحكومية ضرورة الاتفاق على صيغة لاقتسام السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، وعلى دمج قوات الحركة الشعبية/الجيش الشعبي في القوات المسلحة وقوات الشرطة، وإنشاء مجلسٍ قومي يترأسه رئيس الجمهورية لمباشرة إعادة تأهيل الولايات الجنوبية، وتوطين المواطنين المتأثرين بالحرب.
7
غير أن تصوّر فصيل الناصر كان مختلفاً ومطوّلاً. أوضح تصوّر الفصيل أنه منذ عهد الاستعمار وحتى الاستقلال لم يُمْنح جنوب السودان أبداً الفرصة ليقرّر في وحدة البلاد، وأن قرار إلحاق جنوب السودان بالسودان في عام 1946-1947 قد تمّ اتخاذه بواسطة القوى المستعمرة بالتواطؤ مع شمال السودان دون الأخذ في الاعتبار تطلعات شعب الجنوب. وأنه منذ الاستقلال في عام 1956 كانت وحدة السودان تقوم على هيمنة الشمال على الجنوب في جميع المناحي، مما أدّى إلى نكران المساواة والعدل والحريات السياسية والتنمية الاقتصادية.
أوضح التصّور أن الوصول إلى سودانٍ علمانيٍ متّحد غير ممكنٍ في المستقبل القريب، وذلك بسبب القوى الإسلامية القوية المتمكّنة في الشمال. وبينما اعترف التصور بحق الشماليين في تطبيق القوانين والسياسات الإسلامية على أنفسهم، فقد أوضح أن للجنوبيين نفس الحق في اختيار قوانين علمانية ومبادئ سياسية تناسب قيمهم وتطلعاتهم.
شدّد التصور على أن جزئي السودان (الشمال والجنوب) لديهما اختلافات عرقية وثقافية ودينية وجغرافية، وقد فشلا تماماً خلال 36 عاماً من التعايش السياسي في تكوين دولة قابلة للوجود، بحسب ما تشهد به الحرب المستمرة بين الطرفين. خلص التصوّر أنه لحل مشكلة الحرب الأهلية في السودان، فإن شعب الجنوب يجب أن يمارس حقّه غير المشروط في أن يختار وضعه السياسي بحرية، ويشرف على تطوره الاقتصادي والاجتماعي. كما يجب على حكومة السودان أن تعترف وتلتزم بمنح شعب الجنوب الحق في ممارسة استفتاء، خلال فترة محدّدة، ليقرّر الجنوبيون ما إذا كانوا سيبقون ضمن السودان الموحد أم تكون لهم دولتهم المستقلة. واختتم التصور القول إنه فور تصديق الحكومة على هذا الخيار فسيدخل الطرفان في محادثات مفصّلة حول نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، وخاصةً تقاسم السلطة والموارد وإجراءات الأمن والإغاثة وإعادة التأهيل وإعادة التوطين وإعادة التعمير.
8
وهكذا طرح الوفد الحكومي تصوره لحلِّ مشكلة الجنوب بقيام نظامٍ فيدرالي يسمح للشعب السوداني بالتعبير عن تبايناته الثقافية والدينية والعرقية. وفي حقيقة الأمر فقد كان هذا هو التصور الذي تبنّاه وطرحه الحزب الليبرالي لجنوب السودان رسمياً عام 1954، وطالب به باسم الجنوب الأب سترنينو لوهوري أمام لجنة الدستور، ثم أمام البرلمان السوداني عام 1958. وقد عدّد وفد جكومة الإنقاذ لمفاوضات فرانكفورت نفس الأسباب التي تبنّاها وتضمّنها خطاب السيد ويليام دينق عند مطالبته بالنظام الفيدرالي لجنوب السودان في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965: استيعاب التباينات الدينية والعرقية والثقافية بين شعبي شمال وجنوب السودان.
لكن الأحزاب الشمالية جميعها، خاصةً الجبهة القومية الإسلامية بمسمياتها المختلفة، رفضت بغطرسةٍ وعناد، وعلى لسان قادتها، ذلك الطرح مراراً وتكراراً، خصوصاً خلال مؤتمر المائدة المستديرة، وتعالت الهتافات "لا فيدرالية لأمةٍ واحدة" (نو فيدريشن فور ون نيشين). لماذا ياترى غاب صوت العقل والمنطق المتمثل في النظام الفيدرالي لقرابة نصف قرنٍ من الزمان، وبرز فجأةً عام 1992 بعد أن تجاوزه الزمن؟
9
كان من الممكن للوفد الحكومي أن يحاول أن يلتقي فصيل الناصر في منتصف الطريق، كما يحدث عادةً في المفاوضات، ويطرح تصوّر النظام الكونفيدرالي. لكنه لم يفعل، ووافق في اليوم الثاني للمفاوضات، على طرح فصيل الناصر كما هو.
وعليه فقد تمّ التوصل في يوم 25 يناير عام 1992 إلى إعلان فرانكفورت والذي تضمّن لأول مرّةٍ في تاريخ السودان اعترافاً حكومياً صريحاً بحقِّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
10
نصّت الفقرة الأولى من إعلان فرانكفورت على مبدأ حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وتقرأ كالآتي: "بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار."
كما نصّت نفس الفقرة على أنه "ستكون هناك فترة انتقالية يتفق عليها الطرفان من يوم توقيع اتفاقية السلام بين الطرفين، يتمتّع جنوب السودان خلالها بنظامٍ قانونيٍ ودستوريٍ خاص في إطار السودان الموحّد."
ولتجنّب النزاع المسلّح مستقبلاً بين الجنوب والحكومة المركزية اتفق الطرفان على وضع قواعد دستورية وقانونية لحل الخلافات عبر المؤسسات السياسية والدستورية. واتفق الطرفان أيضاً على عقد جولة المفاوضات القادمة في مارس عام 1992 في أبوجا تحت مظلّة الوساطة النيجيرية، على أن يبدأ وقف إطلاق النار الشامل في الجنوب والمناطق المتأثرة بالحرب في الشمال عند بدء المحادثات. أوضحت الفقرة الأخيرة من إعلان فرانكفورت أن المسائل التي سيتقدم الطرفان بمقترحاتٍ مفصّلةٍ للتفاوض حولها هي نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، واقتسام السلطة والثروة، بالإضافة إلى الأمن والإغاثة وإعادة التوطين وإعادة التعمير.
وهكذا وافقت حكومة السودان ببساطةٍ شديدةٍ ومتناهية، واستعجالٍ غريب، ولأول مرةٍ في تاريخ السودان، على حقّ شعب جنوب السودان في تقرير مصيره دون استبعاد أي خيار.
11
ورغم أن إعلان فرانكفورت لم يستعمل مصطلح "تقرير المصير" إلّا أنه اشتمل على المُقوِّم الأساسي لهذا المبدأ وهو الاستفتاء لشعب جنوب السودان. كما أن الإعلان لم يستبعد أي خيارٍ، بما في ذلك بالطبع خيار الانفصال، وهو الشعار الذي رفعه فصيل الناصر.
من الواضح أنّ هذا الاستحياء الحكومي من استخدام مصطلح "تقرير المصير" قد فرضته حقيقة أنّ هذه أول مرةٍ في تاريخ السودان توافق فيها حكومةٌ في الخرطوم على حقِّ تقرير المصير لمواطني جنوب السودان. من الجانب الآخر فإن أي مصطلحٍ يفيد باستفتاء شعب جنوب السودان ويعطيه كلَّ الخيارات هو انتصارٌ كبيرٌ للدكتور لام أكول ولفصيله المنشق ابن الخمسة أشهر.
فتح إعلان فرانكفورت القمقم وخرج المارد ولم يعد بإمكان أحدٍ إعادته. لم يعد حقّ تقرير المصير بعد 25 يناير عام 1992 جُرماً يُعاقِب القانون من يتبنّاه أو يدافع عنه، بل أصبح حقّاً لشعب جنوب السودان بمقتضى اتفاقٍ وقّع عليه أحد كبار المسئولين السودانيين في الدولة والحزب الحاكم والحركة الإسلامية مع حركة جنوبية مقاتلة.
وقد تمّ التوصّل إلى إعلان فرانكفورت في دولةٍ أوروبيةٍ دون وسيطٍ أو طرفٍ ثالث يمكن أن يُتهم بأنه مارس ضغطاً على الطرفين، أو على أحدهما، مما ينفي نفياً قاطعاً وواضحاً الادعاءات الساذجة والخاطئة أن التدخّل الأجنبي هو السبب الرئيسي لانفصال جنوب السودان.
ولم يعد اعتراف الإنقاذ بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان حكراً على الطرفين، بل انتشر خبره بعد شهورٍ من التوقيع عليه، وأنشأ سابقةً سيعتمد عليها الوسطاء منذ تلك اللحظة في كل مبادراتهم القادمة، كما سنناقش في المقالات القادمة.
12
من أين ياترى استمدّ الدكتور علي الحاج مرجعيته، ومن أعطاه التفويض والسلطة للموافقة على هذا التنازل الكبير والخطير والغير مسبوق في تاريخ السودان لفصيل الناصر؟ هل كان ذلك قراراً من الحكومة، والحركة الإسلامية والحزب الحاكم، أم تفويضاً من الدكتور حسن الترابي الذي كان الآمر والناهي والحاكم العام والحقيقي والفعلي للسودان في ذلك الوقت؟ أم كان قراراً اتخذه الدكتور علي الحاج بنفسه في فرانكفورت بعد أن رفض فصيل الناصر عرضه الخاص بالنظام الفيدرالي، وتعاملت معه الحركة الإسلامية بعد ذلك على أنه أصبح أمراً واقعا؟ أم أنه كان توجيهاً من الحركة الإسلامية العالمية لإخوتهم في السودان؟
لقد أجاب على هذا السؤال الإسلاميون أنفسهم. ففي كتابٍ لأحد شباب الحركة الإسلامية عن تجربة الإسلاميين في الحكم في السودان، تطرّق الكاتب إلى إعلان فرانكفورت وحق تقرير المصير، وذكر أنه: "عند عودة د. علي الحاج إلى الخرطوم، وفي اجتماع مشترك للقيادة (جرى في منزل د. الترابي) وفي ردٍ على سؤال عن مدى التفويض الذي ناله ليقدم مثل هذا المقترح لممثل الجنوب في اللقاء، أجاب د. علي الحاج أنه تحادث مع د. الترابي (عبر الهاتف) وأنه نال مباركته على هذا الأمر – يكشف هذا بجلاء كيف أن قضية محورية لا تمس السودان فحسب بل تتجاوزه إلى القارة الأفريقية جمعاء يجري تفويض شخص فيها عبر اتصال هاتفي مع آخر، بغض النظر عن الثقل الذي يمثلانه – شبّه أحد الحضور الأمر بأنه وكأنه (منزل يريدان بيعه أو ايجاره) وليس وطناً يعيش عليه ملايين من البشر." (انظر: عبد الغني أحمد إدريس: الدعوة للديمقراطية والإصلاح السياسي في السودان – الإسلاميون: أزمة الرؤيا والقيادة (مؤسسة سنار الثقافية، لندن 2012) صفحة 95).
عليه وبناءً على هذه الرواية (والتي مصدرها أحد شباب الإنقاذ نفسها)، فإن مصير السودان وحاضره ومستقبله تمّ تحديده بواسطة الدكتور علي الحاج والدكتور حسن الترابي في 25 يناير عام 1992، ومن خلال مكالمة هاتفية، عندما كان الرجلان مركز الثقل للحركة الإسلامية الحاكمة في السودان، وكان الدكتور الترابي الحاكم المطلق والعام للسودان. وقد تم تحديد مصير السودان بتلك البساطة المتناهية وكأن السودان، وكما ذكر الكاتب الإسلامي أعلاه، منزلٌ معروضٌ للبيع أو الإيجار بواسطة شخصين فقط.
13
استخدم إعلان فرانكفورت كلمة Plebiscite
وقد حاول الأستاذ خالد موسى في مقاله الذي نقوم بالرد عليه في هذه السلسلة من المقالات أن يجادل أن هذه الكلمة تعني "المشاورات غير الملزمة" وليس الاستفتاء كما ذكرنا في كتابنا. وأضاف الأستاذ خالد "لكن بمراجعة النص الوارد في الإعلان فإن كلمة تقرير المصير او الاستفتاء لم ترد مطلقا في اعلان فرانكفورت و ينسف هذا تلقائيا كل الادعاءات والمزاعم بان اول من أعطي حق تقرير المصير هو الحكومة الحالية." وخلص من إعطاء هذه الكلمة هذا المعنى إلى أن إعلان فرانكفورت لم يمنح شعب جنوب السودان حق تقرير المصير وإنما منحه فقط الحق في المشاورات غير الملزمة.
ولكن كما سنوضح في المقال القادم فقد أخطأ الأستاذ خالد خطأ كبيراً وفادحاً بهذا الادعاء غير الصحيح وغير السليم وغير الأمين. فالكلمة لها معنى واضح وثابت في اللغة الإنجليزية ولا مكان للاجتهاد. وهذا المعنى هو الاستفتاء، كما سنفصّل في المقال القادم.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
www.salmanmasalman.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.