بعد أيام يكمل نظام الإنقاذ عامه التاسع والعشرين ويدخل في سن الثلاثين وهو متربع منفردا على دست السلطة في السودان , في الواقع انتهى النظام إلى أفراد يتحكمون في مصير البلاد وشعبها وفق ما يرونه من مصالح وطموحات ليست بالضرورة ذات صلة بمصالح وطموحات غالبية الشعب السوداني , هكذا تبدو الصورة الوطنية بعد أن قضمت سنوات الإنقاذ الطويلة أبهى وأنضر فترات الخصب الوطني . شاب الوطن وصار شيخا هرما يتوكأ على عصا مقوسة تطوح به شمالا ويمينا وهو في خطوه يترنح يسقط مكبا على وجهه فيتعفر بالوحل , يمد يديه المرتعشتين طلبا للعون من القريب والغريب ولا مجيب , أبناء الوطن تتقاذفهم الأنواء والأهواء , أمّا الأنواء فقد تسبب فيها نظام الإنقاذ نفسه , عندما احتكر الوطن وحوله لضيعة خاصة بمنتسبي التنظيم اللئيم , لتسيطر الأهواء , كل يسعى بعد التمكين لمزيد من التمكين . بينما غالبية الناس في كبد العيش ودوامة الحياة التي تزداد ضنكا كل ساعة وليس يوما بعد يوم , وقد بلغ انهيار العملة السودانية مثلا أنّ قيمتها ظلت تنحدر في اليوم الواحد على مدار الساعة في ظاهرة ليس لها من قبل ضريب . في هذه الحالة الشاملة من الانحطاط في كل شئ يتلفت الشعب رغم همومه الجسيمة صوب من يتوسم فيهم القيادة الجادة عساه يجد من بينهم من يأخذ بيده المشلولة , يبحث الناس عن مشروع للأمل يخلصهم من حالة اليأس الكامنة بين الحنايا والتي يتم التعبير عنها بزفرات وتأوهات تعقب كل حديث يدور عن مآل الحال يتوق الشعب حقيقة إلى أفق مغاير ينقله من حالة العجز إلى خانة القدرة , مشروع وطني بمعطيات انسانية فهل من مؤشرات تسهم في ميلاد مثل هذا المشروع ؟ الإجابة في تقديري نعم , فالشعوب تمرض وتمر بمرحلة انحطاط لكنها لا تموت وما انطبق على البشر من قبل وفي مراحل مختلفة من التاريخ ينطبق على شعب السودان , فالجذوة لم ولن تنطفئ أبدا . أول المؤشرات في تقديري هو نظام الإنقاذ نفسه , فهو قد قدّم خدمة عظيمة بالفعل لرواد مشروع التغيير والنهضة السوداني , وعلى قاعدة بسيطة هي (بضدها تعرف الأشياء ) فالحق لا يُعرف إلاّ بوجود الباطل والصدق يشرق في حضرة الكذب ولولا عتمة الليل لما استبان الناس ضوء الفجر ..إلخ , فالإنقاذ ومن عنوانها المضاد لمحتوى ممارستها أوضحت أين يكمن الإنقاذ , بات الناس يعرفون فعلا لا قولا معنى حقوق الإنسان عندما أهدرت الإنقاذ أدنى هذه الحقوق بممارساتها المعادية لإنسان السودان , فلم تعد هناك لجلجة حول هذه الحقوق وساد الوعي المضاد للإنتهاكات في أوساط كثيرة من المواطنين لم يكونوا ليأبهوا كثيرا بأدبيات حقوق الإنسان لولا الإنتهاكات الصارخة ضدهم من جانب نظام الإنقاذ , هذه خدمة لمشروع النهضة الوطني المرجو , أن يتم البناء على القدر المعقول من أدب حقوق الإنسان , خبر السودانيون تحت حكم الإنقاذ ويلات الإنقسام الوطني على كل المستويات , فانقسم الناس في مناطق النزاعات المسلحة إلى زرقة وعرب أو تورا بورا وجنجويد كما في دارفور مثلا , وأسفر الإنقسام الإثني عن وجه أكثر اظلاما بتفتيت القبائل في الإثنية الواحدة , وبعثرة القبائل إلى عشائر والعشائر إلى خشوم بيوت , لم يعد هناك بنيان اجتماعي واحد بمنأى عن الإنقسام حتى الفرق الموسيقية والمجموعات الكوميدية , والقرية الواحدة التي تربطها صلة الدم والرحم انقسمت إلى (ورا وقدّام ) , هذه تجربة مريرة تجرع كؤوسها المرّة الشعب السوداني في الشمال والجنوب فانقسم إلى دولتين , ليجئ الرئيس البشير مؤخرا جدا يبدي الأسف على ارتباط عهده بفصل الجنوب ويسجل التاريخ ذلك في أضابيره ! حالة الإنقسام الوطني محفّزة جدا للنظر الجاد والموضوعي فيما يعيد لحمة الوطن ويوحد الناس على أسس جديدة للعيش المشترك , إنّها تجربة مثيرة وعنيفة لكنها في ذات الوقت مفيدة لمشروع البناء الوطني الجديد بتجنب منزلقاتها الوعرة , عاش السودانيون تحت حكم الإنقاذ تجربة الديكتاتورية العقائدية والإستبداد المستند على آيدلوجية الدين الإسلامي , وبالتجربة والبرهان انكشف المستور وراء الشعارات الزائفة واللافتة الكذوب , فلا قداسة في مشروع النهضة الوطني إلاّ للإنسان , ولا مجال في برنامج النهضة لمروجي الدجل والشعوذة من سدنة التاريخ وعبدة النصوص , وتجار الدين الطفيليين , الآن استبان معظم السودانيين قيمة الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية ولم تعد المسألة مما يهرف به العلمانيون والشيوعيون كما كانت تقول أدبيات الإسلاميين , وقد عاش الناس في كنف الإنقاذ ورأوا بأمهات أعينهم إهدار القانون وسيادة السطوة والفهلوة وأخذ القانون مطية للسيطرة وإذلال الناس والتطبيق الإنتقائي للنصوص والأحكام بفقه إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق الشريف طلبوا منه التحلل بديل ذلك في مشروع النهضة الوطني قيام دولة المؤسسات , وسيادة حكم القانون ليتساوي تحت ظله الوارف عامة الناس وحكامهم , هذه لها خدمات قدمتها تجربة الإنقاذ المريرة مما يتطلب العمل بنقيضها لقيام دولة المواطنة والمشاركة الشعبية والرقابة والحريات العامة . الشاهد أنّ الخير كامن في نفوس الشعب , وربّ ضارة نافعة حقّا فسنوات التيه الإنقاذي رغم مرارتها بيد أن الناس قد اكتسبوا خلال التجربة قدرات هائلة كامنة فيهم , الهجرات الكثيفة والمنافي أضافت خبرة انسانية عظيمة للسودانيين , وسائط التواصل الحديثة والتقدم التقاني والعلمي المذهل يشكل رصيدا إضافيا مهما لبناء مشروع النهضة المأمول , فهلا تنادى نفر من السودانيين لقيادة مشروعهم الوطني المشترك غض النظر عن المسميات الفارغة واللافتات التي لا تحمل مضمونا ذا قيمة عملية , هلا استشعر نفر من السودانيين ذلك الأمر وهبوا للتو في عملية البناء الخلاق يدا بيد فلا وقت أنسب من الآن وقبل فوات الوان , نأمل في ذلك ونسعى له مع كل الحادبين .وكل عام وأنتم بخير .