494819264_2305764233150834_4412989733308335398_n    تأجيل جديد لاجتماع مجلس المريخ    ثلاثي المريخ يعتذرون للقاعدة المريخية    شاهد بالصورة والفيديو.. الراقصة آية أفرو تعود لإثارة الجدل على مواقع التواصل بأزياء فاضحة ورقصات مثيرة على أنغام (انا مغسة لكل الناس)    بالصورة والفيديو.. ناشط سعودي ينشر مقطع لمنزله بمدينة "جازان" ويشبهه بالمنازل السودانية: (اعلم كما قيل لي انها تشبه السودان ونفس كل شي في السودان و لذلك احس بكل الشوق الذي في دواخلكم إلى بلدكم)    شاهد بالصور.. الخرطوم تتعافى.. 50 حافلة تنقل المواطنين مجاناً من "الجرافة" حتى السوق العربي يومياً دعماً للقوات المسلحة والقوات المساندة لها    وفاة جندي بالدعم السريع بعد تعرضه لنوبة هلع أثناء قصف الجيش لمطار نيالا    شاهد بالصورة والفيديو.. بعد أن شاركتها الغناء في حفلها الجماهيري بالقاهرة.. الفنانة هدى عربي تتغزل في "بلوبلو": (في فنان بخلي الغناء بس الغناء ما بخليهو وفي فنان الغناء بخليهو رغم انه بكون عايز لسة)    بثلاثية الفيحاء.. الاتحاد يضع يدا على لقب الدوري السعودي    ((مبروك النجاح يانور))    التعادل.. آرسنال يخمد ثورة ليفربول في أنفيلد    صاحب أول حكم بإعدام رئيس مصري سابق.. وفاة قاضي محاكمات مبارك ومرسي    توثيق ذاتي لمفقودي جرائم الدعم السريع بمخيم زمزم    إدارة جامعة بحري تقف على سير الامتحانات بمقر الجامعة بالكدرو    حاكم إقليم دارفور يهنئ القوات المسلحة والقوات المشتركة عقب معارك مدينتي الخوي وأم صميمة    غياب 3 أندية عن مجموعات التأهيلي    تجهيزات الدفاع المدني في السودان تحتاج إلي مراجعة شاملة    السعودية: تدريبات جوية لمحاكاة ظروف الحرب الحديثة – صور    رونالدو يضع "شروطه" للبقاء مع النصر    "نسرين" عجاج تهاجم شقيقتها الفنانة "نانسي": (الوالد تبرأ منك عام 2000 وأنتي بالتحديد بنت الكيزان وكانوا بفتحوا ليك التلفزيون تغني فيه من غير "طرحة" دوناً عن غيرك وتتذكري حفلة راس السنة 2018 في بورتسودان؟)    الطاقة تبلِّغ جوبا بإغلاق وشيك لخط أنابيب النفط لهجمات الدعم السريع    ترامب: الهند وباكستان وافقتا على وقف النار بعد وساطة أميركية    محمد وداعة يكتب: التشويش الالكترونى .. فرضية العدوان البحرى    على خلفية التصريحات المثيرة لإبنته الفنانة نانسي.. أسرة الراحل بدر الدين عجاج تصدر بيان عاجل وقوي: (مابيهمنا ميولك السياسي والوالد ضفره بيك وبالعقالات المعاك ونطالب بحق والدنا من كل من تطاول عليه)    إتحاد كرة القدم المصري يدرس دعوة فريق سوداني للدوري المصري في الموسم الجديد    بمشاركة زعماء العالم… عرض عسكري مهيب بمناسبة الذكرى ال80 للنصر على النازية    أصلا نانسي ما فنانة بقدر ماهي مجرد موديل ضل طريقه لمسارح الغناء    عادل الباز يكتب: النفط والكهرباء.. مقابل الاستسلام (1)    خدعة واتساب الجديدة لسرقة أموال المستخدمين    عبر تطبيق البلاغ الالكتروني مباحث شرطة ولاية الخرطوم تسترد سيارتين مدون بشانهما بلاغات وتوقيف 5 متهمين    شاهد بالفيديو.. بعد غياب دام أكثر من عامين.. الميناء البري بالخرطوم يستقبل عدد من الرحلات السفرية و"البصات" تتوالى    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمناسبة صورة لوركا الزائفة وإعدامه! .. بقلم: جابر حسين
نشر في سودانيل يوم 28 - 07 - 2018


بحق الجرح النازف في خاصرتك...
بحق قرنفلات دمك الزكي:
عكِّر الليل علي الجنود! )...
- لوركا –
عن الصورة:
مؤخرا،انتشرت، علي نطاق واسع، علي الإنترنت وفي العديد من مواقع التواصل الإجتماعي صورة فتوغرافية بالإبيض والأسود، يظهرفيها جنود الدكتاتور الأسباني فرانكو وهم يوجهون بنادقهم إلي رجل يقف رافعا ذراعه، في تحد واضح، مستقبلا في كبرياء وجسارة موته الآتي أمام جدار في مواجهة فرقة الإعدام المتأهبة لإعدامه. وكتب تحت الصورة عبارة تقول أن الذي سيتم إعدامة هو فريدريكو غارسيا لوركا، ( 5 يونيو 1898م/ 19 أغسطس 1936م )، أحد أعظم وأجمل شعراء القرن العشرين وإلي أزمان طويلة قادمة. هذه الصورة، التي جري تداولها بوتائر عالية، ليست حقيقية، فالرجل الذي، كما تشي الصورة، بإعدامه ليس لوركا، وطريقة إعدام لوركا نفسها، ليست، أبدا، كما توضحه الصورة، بل إنها عكس ذلك تماما. ولربما السبب الحقيقي لرواج وإنتشار الصورة هو المكانة الكبيرة للشاعر التي تدخره البشرية لشعر الشاعر وسيرة حياته القصيرة. هذا، في ظني، سبب إنتشار الصورة. صحيح، بالطبع، أن لوركا قد تم إعدامه بالرصاص، لكن، لوجه الحقيقة، نقول أن الإعدام لم يكن علي تلك الشاكلة، ولم يكن، أصلا، إعدام لوركا في مواجهة جدار، بل في الخلاء الفسيح، وهو يهرول حثيثا، ببراءة الشعراء تلك، ويركض للأمام، تمام مثلما طلب منه، وكان يخجل، لحد الخشية منه، أن يتم مقتله تحت ضوء القمر، مثلما صور ذلك المشهد في قصيدته! لهذا، ولنكون في تبيان الحقيقة، نور، حيثيات مقتله كما حدثت بالضبط، دون أن نتورط في الاحتفاء بالصورة (الزائفة)، ثم، لنقول، بصدق، كيف كان إعدامه فيما سنراه فيما يأتي.
مقتل لوركا:
خيوط المؤامرة تبدأ تتشابك:
(في بلدٍ ما
في سجنٍ ما
في شارعٍ ما.
قد يحدث،
أن يموت الإنسان بلا مشنقة)!!.
- محمود درويش -
بعد اجتيازهم لبوابة الخروج، وكأنما الشاعر قد تذكر أمراً هاماً، توقف فجأة ليقول:
- قد يكون من اللازم أن ألبس سترةً وربطة عنقٍ لمقابلة الحاكم، أليس كذلك؟!.
بادره ميكيل وبسرعة:
- نحن في حالة حرب يا فيديريكو، ثم إننا في عز الصيف، إرم المراسيم للشيطان!.
- معك حق. أنا لا أطيق ربطة العنق. ما لبستها مرة إلا وشعرت أن الحبل يشد على عنقي!.
وبعد برهة أضاف لوركا:
- هذه حماقة قلتها: في إسبانيا لا يشنقون الناس!.
تنهد، وبحزنٍ حقيقي أضاف:
- إنهم يسقطون الناس جثثاً هامدة!!.
أخذوه فيما بينهم، زمرةً مدججةً بالسلاح، متخمةٌ بالجهلِ والحقدِ والحقارة، في مواجهة شاعرٍ كبيرٍ بريءٍ كما الطفل، وحيدٌ ومستسلمٌ لمصيره الغامض؛ حاولوا أن يضعوه في أحد أقسام الشرطة حتى الصباح، ولكنهم في القسم رفضوا استلامه، فقد أحسوا أن في الأمر غموضاً ونذالة تبلغ حدَّ الجريمة؛ كان السلاح وحده سيِّد الساحة وقانونها، والقتل المجاني كان هو وجه إسبانيا في تلك الأيام المظلمة من تاريخها؛ وأصبح الشاعر هو الضحية المعدة للذبح في ذلك المسلخ البشع؛ مسرح الجريمة جرى إعداده بعناية، والقتلة جاهزون، والضحية بين أيديهم.
أما الشاعر نفسه فقد كان من بين جميع الشعراء الإسبان الأكثر محبوباً، الأكثر معشوقاً، الاكثر شبهاً بطفلٍ لما له من بهجةٍ رائعة. من كان يمكن له أن يظن أن ثمة فوق هذه الأرض، وبخاصةٍ فوق أرض إسبانيا، مَرَدَةً مسوخاً قادرةً على اقتراف جريمةٍ غير مفسَّرةٍ مثل هذه)*
الجزء الثاني،
الموت بعيداً عن ضوء القمر:
الشاعر أحب القمر جداً. كان يخجل منه فيمتلئ بالصدق والوضوح والشاعرية في حضرته، كان يقول مثلاً: (لا، أنا لا أكذب أبداً تحت ضوء القمر). أو هو يقول: (كيف لهذا الموت أن يحدث تحت ضوء القمر؟!) ولكنه في ذات الوقت، كان يبدع الشعر والأغاني والمسرحيات، وأجمل الكتابات تأخذ دائرة اكتمالها وذروة إبداعها دائماً تحت ضوء القمر، ويا للمفارقة!
استجوبه في ذات الليلة المشئومة حاكم غرناطة المدني (فالدر) في مكتبه، كان اللقاء مهزلة كبيرة فاقعة!.
- إذن أنت كاتب قصيدة (الحرس المدني الإسباني)؟!
- نعم، أنا هو! رد عليه الشاعر بصدق.
- أنا يا غارسيا لوركا واحد من قدامى الحرس المدني!!.
صمت الشاعر. وكانت نظرات الطفل في عينيه تكتسي بظلال الحقارة التي بدأ يضفيها على الحاكم.
- هل أنت فخور بتأليفك هذه القصيدة؟!.
- يقولون عنها أنها من أفضل قصائدي.
- ما رأيك أنت بالذات عنها؟! سأل الحاكم بازدراء واضح.
- كتبت أشياء أفضل منها كما أعتقد.
- مثل ماذا؟!.
- أناشيد للصغار مثل (لونا، لونيرا، كاسيا بيليرا)!.
فوجئ الحاكم وفونسيكا معاً! فقد كانت تلك الأغنيات الرائعة يتغنى بها اطفالهما بالمنزل فيمتلئ مرحاً وحباً وروعة، كانوا، حتى لحظات التحقيق تلك، يجهلون مؤلف تلك الأغاني البديعة للاطفال!.
وفجأة قال الحاكم:
- غارسيا لوركا، أقرر إدانتك بالخيانة لبلدك ومسقط رأسك؛ أحكم عليك أن لا تكتب اطلاقاً بعد اليوم!!.
ارتعش الشاعر، انقبض وردد مستفسراً:
- اطلاقاً؟!
- نعم، اطلاقاً!
بحزم وبلا تردد أجاب الشاعر:
- الموت أحبُّ إليّ!.
- هل هذه رحمةٌ تطلبها مني؟!.
- الموت أحبُّ إليَّ، كرر الشاعر عبارتها ذاتها بإصرارٍ غريبٍ مدهش!.
- اتفقنا، حتى لا يقال أنني رجلٌ بلا قلب!!.
تناول الحاكم ورقة خط عليها بسرعة بضع كلمات، وناولها لفونسيكا مضيفاً:
- فونسيكا، هذه أومري، اعمل اللازم!.
وأنهى بذلك الحاكم لفوره تلك المحكمة القصيرة المهزلة!!.
أخذوه لفوره إلى حبسٍ انفراديٍّ في زنزانةٍ معتمةٍ وفقيرةٍ وخَشِنَة، كانت تلك هي المرة الأولى التي تُحجَرُ فيها حريته، وبضمير الشاعر ظل يردد لنفسه: (لو كان الناس يعلمون، لما أقدموا أبداً على وضع الطيور في الأقفاص)، وقد تيقَّن، بحدس الشاعر لديه، أن مصيره أصبح رهيناً بالموت الغريب، فراح يسأل فونسيكا:
- أين سيتم هذا؟!.
- سترى!.
- أحب أن لا يحدث ذلك في المقبرة، فالمقابر لم تكن ليموت الناس فيها، إنها فقط للصمت والأزهار والغيوم!.
وبعد أن سأل عن القمر أضاف الشاعر:
- لا أحب الموت على مشهدٍ من القمر، في قصائدي قلتُ الكثير عن القمر، وأن أموت على مشهدٍ منه، فسيبعثُ فىَّ انطباعاً أن أفضل أصدقائي قد خانني!!.
ولم يكن بالطبع في غرناطة كلها قمرٌ في تلك الليلة؛ كان فيها ظلامٌ فجٌّ وخوفٌ ورعب.
في منتصف ليلة 19 تموز 1936م، أنهضه الحارس وفونسيكا من نومه العميق، فتح عينيه وتثاءب، شأنَ القطط، والعشَّاق، نَهَض. احتسى قدحاً صغيراً من القهوة المرة، وقال:
- أنا جاهز!.
كان البرد شديداً، والليل موبوءاً بالقتل والخوف والحذر والدم؛ والشاعر يمضي إلى مصيره كقديس؛ أخذوه في سيارة مرسيدس سوداء، سيارة خاصة، كانتا في الواقع سيارتين. المرسيدس يقودها صاحبها، وهو من أعيان غرناطة، وفونسيكا وأحد الحراس بكامل أسلحته، وكان الشاعر يجلس في المنتصف بين فونسيكا والحارس!. وخلفهما سيارة ثانية تضم في داخلها فصيل الإعدام؛ المدينة كانت نائمةً تلك الليلة عن شاعرها؛ نامت غرناطة تلك الليلة عن شاعرها الكبير، نامت فزعةً ومرعوبةً، ترتجف بحمى الموت ولكنها، نامت!.
كانت الساعة تقترب من الثانية صباحاً. توقف الركب قدام خرائب مطحنةٍ عربية. نزل الشاعر وهو يرتجف من البرد؛ رفع نظره إلى فوق، إلى السماء وتجلَّل وجهه بالفرح! يا الله، لم يكن في سماء غرناطة قمر!!.
تقدم الشاعر راكضاً هذه المرة بحسب الأوامر باتجاه مصيره، ولكنه توقف فجأة، كانت توجد خلف الأفق الأسود، وراء غابة الحَوْر السوداء (لا فوانت فاكروس)، قرية الشاعر ومسقط رأسه، ظل يتمتم:
- لماذا يا ربي، لماذا؟!.
والركب يقتحم ذلك الدغل المظلم الكئيب، فجأة ظهرت من ركام الأحجار والتراب والحصى ساقُ امرأةٍ عارية، طَلَعَت خارج اللحد، فوق التراب! وأجهش الشاعر بالبكاء! تقدم منه كاهن كان برفقة الركب:
- اعترف.
- بماذا؟! سأل الشاعر!.
- بما تريد!.
وبيديه الرقيقتين أبعد الشاعر عنه وواصل مسيره!.
- اركض!. هكذا أصدر فونسيكا أمره للشاعر!.
- إلى أيّ اتجاه؟!.
- على خط مستقيم، إلى الأمام!.
أطاع الشاعر تماماً، كما يطيع إلهامه الشعري، فركض لأكثر من عشرين متراً.
عندها أصدر فونسيكا أمره المألوف:
- نار!
أطلق الفصيل مجموعات من الرصاص على ظهر الشاعر الذي سقط كالأرنب، وجهه إلى الأرض معفراً بالدم والتراب الأحمر!، عيناه مفتوحتان على فضيحةِ العصر وكل العصور القادمة؛ كان يبتسم، بدا الجسدُ كله هامداً، حقاً (إنهم يُسقطون الناس جثثاً هامدة)! ومن بين الابتسامة كان يقول:
- أنا ما زلت حياً!.
والغدَّارة محشوةٌ بالرصاص، صوبها فونسيكا إلى صدغ الشاعر وأفرغها!، انتفض جسدُ الشاعر واستدار بوجهه إلى السماء، إلى فوق، لم يكن القمر هناك!. كان غائباً عن سماء غرناطة، هَمَد الجسد تماماً وإلى الأبد!، دفنوه قرب جذع شجرة زيتون، وظل قبره مجهولاً تماماً، ولم يُعرَف له أبداً رُفات!.
وقد تنبأ الشاعر بذلك كله يوماً ما، قال لوركا في إحدى قصائده:
(عرفت أني قد قتلت،
فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس..
فتحوا البراميل والخزانات.
استباحوا ثلاثة هياكل ليسلبوا أسنانها الذهب،
لم يجدوني!
أتراهم لن يجدوني أبداً؟!
نعم. لم يجدوني أبداً)*
ومرة أخرى يقول في (أغنية الفارس):
(لن أبلغ قرطبتي..
عبر السهل
وعبر الريح
مهرٌ أسود
قمرٌ أحمر
والموت يراقبني
من أبراج قرطبة
آهٍ، من طول الطريق
آهٍ، يا مهري الشجاع
إن موتي بانتظاري
قبل أن أبلغ، آهٍ، قرطبة
قرطبة: بعيدةٌ ووحيدة!).*
في سونيتة رائعة، مختصرة جداً، ولكنها عميقةٌ بعنوان (وداعاً)، يفضل الشاعر أن تُترَك نافذته مفتوحة بعد موته، ربما ليكتسب شعره جيلاً بعد جيل معانٍ وصوراً وإيحاءاتٍ متجددة. والجدير بالملاحظة أن هذا المعنى العجيب، الذي أشار إليه الشاعر هو الذي طبع كل إبداعه الشعري والمسرحي والنثري أيضاً، ظل حتى يومنا هذا، عصيَّاً على النسيان، مستحيلاً على الانزواء، بعيداً عن حيويَّةِ ونضارةِ وعبقِ التاريخ والمجتمع وجذوةِ الإبداع العالمي، متوهجاً أبداً على مر العصور كما الحقيقة الحاضرة في أفئدة الناس قاطبة.
يقول لوركا في (وداعاً):
(حين أموت
فلتدَعوا الشرفة مفتوحةً
يأكل الطفل برتقالاً
(إني لأراه من الشرفة)
الحاصدُ يحصدُ قمحَهُ.
(أسمعه من هذه الشرفة)
حين أموت
فلتدعوا الشرفة مفتوحةً).*
أتُرَى يريد الشاعر أن تدخل قصائده من خلال شرفات الناس جميعهم إلى حيث قلوبهم وأفئدتهم، وتتعلَّق كالنجوم في سماوات كل العصور حتى الأبد؟!.
(أجمل البلدان إسبانيا
ولوركا يا صبايا
أجمل الفتيان فيها
يا مغنّي النار وزِّع للملايين شظايا
إننا من عابديها!).
- محمود درويش -
العبقرية الإسبانية النقية كالرخام الصافي، أو البلَّور اليدوي في صنعته البديعة؛ خلاصة إسبانيا كلها وأزمانها جميعاً، وأضخم شعرائها وأنبلهم وأجملهم على الإطلاق. إن شعره وإبداعه لهو من (خيرُ ما أبدعته إسبانيا) على مر العصور، كما يقول دارسه العميق الأكاديمي الناقد ج. ل. جيلي). أنتج خلال حياته القصيرة جداً شعراً عميقاً وصافياً ذو دلالاتٍ ضخمة، وصوراً بديعةً مدهشة، وأخرج مسرحيات شعرية رائعة توجهت بعمقٍ صافٍ ونبيل إلى حيث الإنسان والإنسانية في كل الأزمان والأمكنة، كتب أيضاً نثراً جميلاً، جمع فيه بين أسلوبية الشعر، وايحاءات اللغة وعمق الدلالات. وأنشأ أغانٍ رائعة بديعة للأطفال والكبار، استلهمت روح إسبانيا وجوهر وجدانها الشعبي. فارتفع إبداعه هذا وذاك كله فوق سقف الدنيا والتصق بملامح العصر، كل العصور. وقدم فوق هذا وذاك كله حياته القصيرة جداً، نموذجاً حيَّاً لكيف للشاعر أن يحيا حياته فنَّاً وإبداعاً خالصاً وموتاً أيضاً، بصورةٍ كاملةٍ وعميقة!.
لقد عاش الحياة لهذا الإبداع بالذات، ممسكاً كل لحظات الإبداع تلك ملقياً بها هكذا كالرداء على جسده وفنه وحياته كلها!.
قال عنه صديقه في الشعر والحياة والموت بابلونيرودا: (وأيُّ شاعر! أبداً لم أر شاعراً مثله اجتمعت فيه اللطافة والعبقرية، القلب المجنح والشلال الشفاف. لقد كان فيديريكو غارسيا لوركا العبقري المسرف في وحيه وإلهامه، بؤرةُ الفرح التي تشعُّ كالكوكب بسعادة الحياة. كان نابغة وفَكِهَاً، كونياً وريفياً، موسيقياً فذَّاً، ممثلاً رائعاً، فَزِعَاً ومعتقداً بالخرافات، لامعاً ونبيلاً، كان خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها، صفوة الازدهار الشعبي، نتاجاً عربياً أندولسياً، ينير ويفوح من أيكة ياسمين على مسرح إسبانيا. كان كل هذا يا ويلتي: لقد اختفى ذلك المسرح، فأواه وآه!.
كان يفتتتني بمقدرته العظيمة على الاستعارات والمجازات، لقد كان في المسرح والسكون، وسط الجمهرة وفي الانزواء، يضيف إلى الجمال ويزيد الروعة. أبداً مارأيت مثله انموذجاً له هذا السحر العظيم في يديه. قط ما كان لي أخ أكثر منه بهجةً، كان يضحك يغني، يموسق، ينغِّم، يقفز، يبدع، يخترع، يطلق شرراً: يا له من مسكين، لقد كانت له هباتُ العالم كلها، وكما كان صائغ ذهبٍ، كان أيضاً خليةَ نحلٍ من الشعر العظيم. كان يُسرِفُ في نبوغه، يستنفد قريحته، لم يكن يكفُّ عن الضحك والكلام، لقد كان سعيداً وهذا طبعه وهذه عادته، لقد كانت السعادة جلده وبشرته).
كان ريحانة زمانه ذاك، وسيظل ريحانةً للألفية الثالثة، عبقٌ من الشذى الفواح، يمنح الكثير العميق من الشعر، ينثره كرزاز المطر على وجه الدنيا وملامح الأيام عسى أن تتوقف المذبحة الكونية المرعبة ويعم السلام!
( لن ينم الروائيون والشعراء
فالحلم أصدق من واقع؛
قد يغير شكل البنايات،
لكنه لن يغير أحلامنا)
----------------------------------
* مجتزأ من مقال كبير حول مقتل الشاعر...
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
//////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.