مساء يوم الاثنين (18نوفمبر1965)، أي بعد سبعة أعوام من أول انقلاب عسكري على الديمقراطية بتواطؤ من حزب الأمة الطائفي، اقام الاتجاه الإسلامي ندوة مفتوحة حول المرأة بمعهد المعلمين العالي – حالياً كلية التربية بجامعة الخرطوم – شاركت بالحديث فيها عضو الحركة الاسلامية سعاد الفاتح البدوي. اكتظ المكان بجمهور غفير وكان من بينهم اساتذة جامعة الخرطوم وسياسيين كبار ينتمون لأحزاب مختلفة وصحفيين. سارت الامور عادية، إلى أن اعتلى المنبر الطالب شوقي محمد علي وأخذ يردد كلاماً لا يليق بالنبي وآل بيته، ومعيداً ترديد حادثة الإفك التي تطعن في شرف أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر زوج الرسول. وعندما قاطعته سعاد الفاتح بطريقة مستفزة، وبكلام لاذع وسخرية، وكالت له وللشيوعيات أقذع الشتائم، استبد به الغضب فأكد بأعلى صوته بأنه شيوعي وملحد!. كان شوقي حينها عام 1965 شاباً لا يتجاوز عمره تسعة عشر عاماً، وذكر في تحقيق صحفي فيما بعد أنه لم يكن عضواً في عام 1965، موضحاً (1): "غادرت الحزب في عام 1964م وقدمت طلباً للقيادة الثورية، (2) ولم تقبل عضويتي إلا بعد مغادرتي السجن". استغلت جبهة الميثاق الإسلامي (الأخوان المسلمون) التي كان يتزعمها حسن الترابي ما جرى في الندوة استغلال سياسي ونشطت في إثارة المشاعر الدينية ضد الحزب الشيوعي، ونقلت المعركة الى الشارع ضد الشيوعيين، بعد أن قامت بتأليب الحزبين الكبيرين (الوطني الاتحادي) الذي يترأسه إسماعيل الأزهري و(حزب الأمة) الذي كان يرعاه الهادي المهدي بعد انضمام الصادق المهدي الذي كان يقود تيار شبابي داخل حزب الأمة، ونجحت بالفعل في اشعال الشارع بالمظاهرات المطالبة برأس الحزب وعضويته. ويكفي مشهد واحد يوضح الكيفية التي تمت بها هذه المعركة تخطيطاً إخوانياً وتنفيذاً، يرويه المؤرخ الأمدرماني شوقي بدري الذي يقول: " كما صرح على عبد الله يعقوب فانهم قد استغلوا الحادثة للهجوم على الشيوعيين واستغلال الحادثة متسلحين بالكذب والخداع وعدم الامانة المشهورة عنهم . كانوا يعرفون ان شوقي لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي . وخرج علي عبد الله يعقوب من مدرسة الاحفاد التي كانت تضم حوال 800 شخص وجيش من الموظفين والمدرسين و ذهب الى المعهد العلمي الذي صار الجامعة الاسلامية وضم الكثير من اهل الهوس الديني وشتمهم واستفذهم قائلا تاكلوا السم انت هني والشيوعيين بيشتموا زوجات الرسول الخ . وكان يعرف ان طلبة الاحفاد لم يكن يحترمونه وسيسخرون منه ، ولهذا ذهب لاهل الهوس الديني" (3). كما أكدت التقارير الأمريكية هذا المشهد مضيفة إليه المعلومات التي هي في الأصل لم تكن بخافية على أحد، وذلك في وثائقها عن التطورات السياسية في السودان تلكم الأيام. ففي تقرير بتاريخ (12-11-1965) عن موقف الرئيس اسماعيل الأزهري جاء: " قالت مصادرنا ان الرئيس اسماعيل الازهري، الذي صار رئيسا دائما لمجلس السيادة، وبالتالي، رئيسا للسودان، تحدث لمظاهرة من المظاهرات المعادية للشيوعيين، والتي تجوب شوارع الخرطوم والمدن السودانية منذ ايام، وتطالب بحل الحزب الشيوعي السوداني، ربما اكبر حزب شيوعي في قارة افريقيا. حسب مصادرنا، قال الازهري للمتظاهرين عندما وصلوا الى منزله: "اذا لم تحسم الجمعية التاسيسية (البرلمان) الموضوع، سأنزل الى الشوارع، واقود المظاهرات.. " وقالت مصادرنا ان نفس هذه المظاهرة سارت الى دار الحزب الشيوعي السوداني القريب من منزل الازهري. واشتبكت مع شيوعيين كانوا يحرسون الدار، ويحملون قنابل مولوتوف. واصيب ثلاثة اشخاص بجروح خطيرة، قبل ان تتدخل قوات الشرطة ... في نفس الوقت، اصدر السيد على الميرغني، زعيم طائفة الختمية الاسلامية، بيانا اذاعته اذاعة امدرمان، الاذاعة الوحيدة، والحكومية، في السودان، دعا الى اعلان "دستور اسلامي" يحكم السودان" (4). (2) تبدو خيوط المؤامرة الآن في غاية الوضوح. تقدم اعضاء جبهة الميثاق الاسلامي (الإخوان المسلمون) بطلب ان ينظر البرلمان بصورة عاجلة موضوع الاساءة البالغة التي وجهها الحزب الشيوعي "لنبينا الكريم وآل بيته". وسرعان ما قدم النائب البرلماني الحاج مضوي محمد أحمد إقتراحا للبرلمان بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان. وصوت لصالح الاقتراح 161 نائبا، وعارضه 12، وامتناع 9 نواب عن التصويت. محمد أحمد محجوب، زعيم الاغلبية في البرلمان ورئيس الوزراء، طلب من رئيس الجمعية رفع مواد من اللائحة الداخلية للبرلمان لمناقشة "أمر عاجل." وهو اقتراح طلب فيه " أن تتقدم الحكومة بمشروع قانون يحل الحزب الشيوعي السوداني، ويحرم قيام أحزاب شيوعية، أو أحزاب، أو منظمات أخري، تدعو الى الإلحاد، أو تستهتر بقيم الناس، أو تدعو الى ممارسة أساليب دكتاتورية، وقال " لا تؤمن الشيوعية بالديمقراطية، ولا بوجود الله. وتنظر الشيوعية إلي الدين بانه افيون الشعوب. وتفسد الشيوعية الشباب، وتجعلهم يدمنون شرب الخمر، وتعاطي المخدرات"!!. من اجل تصعيد حملة طرد النواب الشيوعيين، أصدر حسن الترابي كتاب أطلق عليه: (أضواء على المشكلة الدستورية) في محاولة لتبرير طرد النواب، ورد عليه زعيم الحزب الجمهوري المفكر محمود محمد طه بكتاب حمل عنوان (زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان:1/ الثقافة الغربية 2/ الإسلام – من كتابه: أضواء على المشكلة الدستورية). أما موقف الشارع الصامت من خلال عناوين وأعمدة الصحف اليومية فقد عبرت عنه الصحف المستقلة الوثائق المشار إليها، على النحو التالي: * اولا: وصفت صحيفة "الراي العام"، المعتدلة، الطالب شوقي محمد علي، الذي، قبل اسبوع تقريبا، اثار هجومه المتطرف على الاسلام هذه المظاهرات في هذا البلد المسلم جدا، بانه "فتى مستهتر." * ثانيا: انتقدت صحيفة "السودان الجديد"، المعتدلة ايضا، شوقي. لكنها عارضت لجوء المتظاهرين ضده، وضد الشيوعيين، الى العنف. غير انها لم تؤيد الشيوعيين. وأما صحف طرفي النزاع المباشرين فجاء على النحو الآتي: * ثالثا: كتبت صحيفة "الميدان"، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوداني، عن "ارهاب الاخوان المسلمين." وقالت انهم يجوبون الشوارع وهم يحملون السواطير والعصي. * رابعا: كتبت صحيفة "الميثاق"، الناطقة بلسان الاخوان المسلمين، عن "انتصار جنود محمد." وعن "ثورة 21 رجب التي اعادت الوجه الحقيقي لثورة 21 اكتوبر." ومن المفارقات ان نوابا في الحزب الوطني الاتحادي، الحزب الذي يقوده الرئيس الازهري، عارضوا مشروع قانون حل الحزب الشيوعي. من بين هؤلاء حسن بابكر الحاج، الذي قال الأتي: "يقال ان طالبا سفيها، يقال انه عضو في الحزب الشيوعي السوداني، اساء الى الرسول الكريم، والى الدين الإسلامي. وبسبب هذا، خرجت مظاهرات المسلمين تطالب بحل الحزب الشيوعي السوداني. لكن، ماذا اذا كان هذا الطالب السفيه عضوا في الحزب الوطني الاتحادي؟ هل سنجتمع اليوم في جلسة طارئة للجمعية التأسيسية لنحل الحزب الوطني الاتحادي؟. لم يقف الحزب الشيوعي مكتوف اليدين أمام هجمة التحالف الذي جمع فجأة الاحزاب الدينية ضده، بل ناضل في كافة الجبهات وسلك طريق القضاء وتمكن من الخروج بقرار من المحكمة العليا في (18 مارس 1967) يبطل قرار حل الحزب وطرد نوابه من البرلمان، باعتباره عمل غير قانوني يتنافى تماماً مع الدستور، إلا أن الحكومة رفضت قرار المحكمة العليا، الذي استهتر به الصادق المهدي واصفاً إياه بأنه (حكم تقريري)، مما دعا رئيس القضاء بابكر عوض الله الى تقديم استقالته احتجاجا على الإهانة واحتقار القضاء. وتم تشكيل محكمة لمحاكمة الطالب شوقي اصدرت حكمها عليه بالسجن ستة أشهر!!. وهكذا تم على يدي أحزاب الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين والختمية في عام 1965، تنفيذ ما خطط له عام 1954 الوطني الاتحادي تعهدا للإنجليز. وما من عجب في هذا التوافق والتطابق والتحالف، فالإخوان والطائفية وجهي عملة واحدة، وقد قالها الكادر الإخواني محجوب عروة معترفاً بما حدث بعد المفاصلة حيث كتب معلقاً: "..لقد أصبحت الحركة الإسلامية السودانية الحديثة" وهي العبارة التي تفضلها "مثلها مثل الكيانات الطائفية السودانية لا فروقات كثيرة بينها سوى المسميات وبعضا من أشكال وطبيعة الممارسة بحكم طبيعة التطور ولكن جوهرها واحد ولعل هذا بسبب طغيان الروح الأبوية والطائفية وثقافتها الغالبة في السودان"(5). (3) يحاول عبثاً بعض الإسلامويين تصوير الصراع بين الإخوان وكل قوى اليمين، طائفي سواء أن كان هذا الاسلاموي أو أصولي، وبين قوى اليسار، ماركسي سواء أن كان هذا اليسار أم قومي، بأنه صراع سياسي، يقوم على أسسٍ ديمقراطية، يطرح فيه كل فريق بضاعته الفكرية وبرامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إذ أن جماعة الإسلام السياسي، متحالفة، حولته بعد حادثة ندوة دار المعلمين إلى صراع أيديولوجي/إقصائي عنيف، ولكن هذه القوى حاولت أن ترفع عنواناً سياسياً مخادعاً وزائفاً على حربها الاقصائية العنيفة، فسمتها مواجهة بين الإسلام/ والعلمانية. وقد اتضحت هذه الروح الاقصائية وكشفت عن نفسها عارية في الصراع الذي احتدم بين الفرقاء في التنظيم الإخواني الإسلاموي، حيث لم يكن صراعاً فكرياً قائماً على اختلاف المبادئ والرؤى، وإنما على السلطة والنفوذ والمصالح، وانحط إلى درك الصراع القبلي بين أصحاب المشروع الاسلامي!. لثد تغيرت اللعبة، ولم تعد الصين الشيوعية هي العدو والنقيض الديني/ الايديولوجي، ولا حتى روسيا، وأمريكا الصليبية اللتين كانتا مهددتين بالعذاب والويل والثبور. خلاصة الأمر، وحتى لا نطيل، لم يكن اليمين المتأسلم، بكل مدارسه – طائفي، سواء أن كان، أم أصولي، أم معتدل، أو إخواني – يحارب الماركسية في الواقع. ببساطة لأنه لم يقابلها قط أو يتعرف عليها، أو يُعرِّفها، ولكنه كان يحارب عدواً لا وجود له. كان يحارب شبحاً وأطلق عليه اسم الماركسية والشيوعية .. كان عدوَّاً صنعه هو .. ثم أعلن عليه الحرب. أو قل افتعل الحرب على عدو صنعه، واستغل غلبة العاطفة الدينية، وعدم الوعي السياسي ونسبة الأمية العالية ليقنع الناس بوجود "بعاتي" اسمه الشيوعية. ولكن السؤال لم يزل قائماً ما هي إذن غبينة "المتعلمين" أو من درجنا على إطلاق صفة المثقفين عليهم؟. إذا كنا بعض العذر لأولئك الأميون الذين لم يكن بإمكانهم قراءة الماركسية، ماركسية ماركس، للأسباب التي أوضحناها سابقاً، فما هو عذر من كانوا يستطيعون ، بسبب ما تلقوه من علوم في مدارسهم، فهم الماركسية على النحو الصحيح، ومن ثم معارضتها ومقارعتها الحجة بالحجة، أو قبولها؟. نحن هنا بإزاء إجابتين لا نجد ثالثة لهما: * إما لأن الشيوعيون، الماركسيون، في دول العالم الثالث وبينها السودان، لم يفهموا هم أنفسهم الماركسية ، بمعنى أنهم فهموها على نحو خاطئ. * أو إنهم فهموها على النحو الصحيح، ولكن قصَّرت بهم وسائلهم عن إفهام الآخرين وتعريفهم بها. هل تجد ثمة سبب آخر؟!. هذا ما سنراه لاحقاً. هوامش * البعاتي في الخرافة السودانية هو إنسان يُبعث حياً في الحياة بعد موته، يثير الخوف في الكبار، ويثيرون به الرعب في قلوب الصغار ليكونوا مطيعين. 1) موقع (Sudanile.com)، وموقع (سودانيز اون لاين ) عام 2006 2) القيادة الثورية، حركة انشق أفرادها عن الحزب الشيوعي، كانت تنادي بالكفاح المسلح، وهو طريق نقيض لما اختارته قيادة الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب الذين كانوا ينادون بالعمل وسط الجماهير عن طريق نشر الوعي، والنضال السياسي السلمي المدني. 3) شوقي بدري، "حادثة شوقي محمد علي"، صحيفة سودانايل الألكترونية، بتاريخ: 04 حزيران/يونيو 2018. 4) محمد علي صالح، صحيفة الراكوبة " وثائق امريكية عن اكتوبر والديمقراطية الثانية (18): حل الحزب الشيوعي 01-09-2015 08:47 AM الحلقة رقم 18 من الوثائق الامريكية عن التطورات السياسية في السودان 5) صحيفة الرأي العام 8/2/2000: من د. حيدر ابراهيم علي "مراجعات الإسلاميين السودانيين كسب الدنيا وخسارة الدين"، الحضارة للنشر/ القاهرة، الطبعة الأولى مارس 2011 ، ص 8،9. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.