تاتي الاهمية في كتابة هذا المقال، في كونه يأتي متزامناً مع جهود أهل الصحافة، و نشطاء حرية الفكر و التعبير، بالمساهمة بالرأي و التحليل، في شان انتاج قانون جديد للصحافة و المطبوعات، يتواكب مع رغبتهم في توسيع فضاء حرية الفكر و حرية التعبير في السودان، لا سيما بعد ان أدركت الدولة، من تلقاء نفسها بعدم مواكبة القانون الحالي لسنة 2009 للمعايير الدولية لحرية الفكر و التعبير. و قد استعرضت المؤسسات الرسمية نموذج لمقترحات بتعديل قانون الصحافة و المطبوعات الساري، و بقدرما ما افاد في معرفة نية السلطات الرسمية و خططها في شأن تنظيم حرية الصحافة و الفكر، افاد ايضاً في خلق مجال تشاركي للمناقشة المفتوحة، و عصف ذهني حول مستقبل حرية الصحافة و التعبير في السودان، و تأثيرات هذا الحق على بقية الحريات بشكل عام في السودان. تعتبر حرية الرأي والتعبير من أهم الحريات وهي بمثابة نقطة البدء في الانطلاق لغيرها من الحريات الأخرى فهي أداة الاتصال والحوار التي يدار بها النقاش الحر داخل االمجتمع الديمقراطي، حتى يستطيع الناس عن طريق المناقشة الحرة أن يخلقوا نوعاً من التأثير والرقابة على أجهزة الحكومة، كما أن هذه الحرية تمثل الدعم الحقيقي للحكم الرشيد من خلال عملية تبادل الآراء والأفكار للمساعدة في صنع قرارات سليمة. والتعبير عن الرأي يعني حق الفرد في التعبير عن أفكاره والإعراب عن مبادئه ومعتقداته بالصورة التي يراها في حدود القانون . تعتبر الصحافة من أهم وسائل التعبير عن الرأي وأكثرها تأثيراً على الرأي العام، وتأتي هذه الأهمية لصعوبة تحقيق المعادلة المطلوبة بين حرية الصحافة كأهم حريات الإنسان التي نصت عليها الدساتير والمواثيق الدولية وقوانين الدول المتمدنة وبين مصلحة المجتمع وتجنيبه ما تجره من شرور وما تخلقه من آثار ضارة. حرية التعبير حق عالمي اذ تنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: " لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود ". و لا يستلزم لتطبيق هذا الحرية التدخل من السلطة التنفيذية، لان الحريات تكفل باطلاقها و ليس بتحديدها بواسطة السلطة التنفيذية او أحد وكالاتها. و هذا ما اسست له ايضاً المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. الصحافة و المجتمع الديمقراطي: لقد نصت الفقرة الثانية من المادة 39 من دستور السودان على أن) تكفل الدولة حرية الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وفقًا لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي(. و هذا يعني بالضرورة ان تخضع الصحافة في السودان للقوانين المتسقة مع متطلبات المجتمع الديمقراطي فقط، و لا تعني بالضرورة خضوعها للقوانين الغير منسجمة مع مبادئ المجتمع الديمقراطي. لقد نص التعديل المقترح لقانون الصحافة في المادة الخامسة منه على المبادئ الاساسية لحرية الصحافة و الصحفيين، و بالرغم من ان التعديل حاول اقتباس المبدأ الذي ارساه الدستور، إلا ان التعديل اغفل مضمون الفقرة 2 من المادة 39 في الدستور الا و هي " وفقًا لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي(" فلم يورده في متن القانون، و هذا الاغفال مضر، لان مضمون النص يُفسر بأن حرية التعبير هي اساس المجتمع الديمقراطي. في واقع الامر، ان نص المادة 39 من الدستور (حرية التعبير و الاعلام) قد جاء مبتسراً، و مقتضباً، بالقدر الذي يعجز ان يستوعب المستجدات الحديثة المتصلة بكفالة حرية التعبير. حتى انها لم تتواكب مع نص المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. مجلس الصحافة و المطبوعات: لقد تناول النقاش بشكل مستفيض عن دور مجلس الصحافة و المطبوعات في شان تنظيم التمتع بحرية التعبير و النشاط الصحفي. ، و مجلس الصحافة و المطبوعات، بحسب القانون الساري، هو هيئة تنظيمية، يتم تعيين رئيسها بواسطة رئيس الجمهورية. و بالتالي المجلس ليس هيئة لتمثيل الصحفيين، و ليست هيئة منتخبة بواسطة الصحفيين، بل هو مجلس تكونه اعلى مؤسسة في السلطة التنفيذية، الا وهو رئيس الجمهورية. ان انشاء مجلس للصحافة مستقل للاشراف على العمل الصحفي، يتطلب اتباع اساليب تضمن استقلالية المجلس، و الصيغ و الاساليب الديمقراطية عديدة في هذا الجانب، من بينها أعطاء الجسم النقابي دور في اختيار اعضاء المجلس، او، اعطاء دور لممثلي الشعب (البرلمان) في المصادقة على قائمة اعضاء المجلس، و لكن لا يستوى انشاء مجلس بواسطة السلطة التنفيذية باعطاء رئيس الجمهورية سلطة التعيين و العزل، هذا منهج بالضرورة يسحب عن المجلس صفة الاستقلالية. ان اجراءات التكوين و العزل هي مناط استقلال المجلس المنشود، و ليس استقلال ميزانية المجلس عن ميزانية الوزارة. لقد منح التعديل الجديد في المادة 9 منه المجلس سلطات جديدة فضلا عن ما كانت من سلطات في القانون الساري، و هي سلطات واسعة و شديدة الاتصال بحرية التعبير، و تتضمن سلطات تقديرية، الامر الذي يعرض حرية التعبير الى مخاطر متوقعة بشكل واضح. بجانب ذلك نجد ان الفقرة الثانية من المادة 39 من مشروع التعديل، قد اعطت للمجلس التدخل في موضوعات الاعلان في الصحف في وضع ضوابط للاعلانات، و هذا اتجاه يعكس التفكير في السيطرة الشاملة على الصحافة و ووضعها تحت سيطرة السلطة التنفيذية. هذا اتجاه غير محمود، و لا يشجع على كفالة حرية العمل الصحفي، اذ يتمخض هذا الاتجاه عن المزيد من الكوابح و المحددات في وجه الصحافة، و التي لا تتسق في مجملها مع مبدأ حرية الصحافة. و اشارت البنود (ه) و (و) و (ز) من الفقرة الاولى من المادة 33 على سلطات جديدة واسعة للمجلس و هي: (ه) ايقاف الصحفي عن الكتابة للمدة التي يراها مناسبة: و هذا تعدى على حرية التعبير دون الحصول على أمر قضائي، و في هذا تعدى كبير على حرية التعبير. ان البند تضمن عبارة (المدة التي يراها مناسبة) و هذا نص تحكمي، و لا يتصور وجوده ضمن أحكام قانون ينظم حرية التعبير، و لا اظن ان اي عين حقوقية قد تنظر اليه برضا او عدم انتباه. (و) الانذار بتعليق صدور الصحيفة: ان قرار منع اي صحيفة عن الصدور لا يجوز ان يصدر من اي سلطة، بخلاف السلطة القضائية. (ز) سحب الترخيص مؤقتاً لمدة لا تتجاوز الثلاثة اشهر: ان سحب ترخيص مزاولة العمل الصحفي، و لما فيه من حرمان من ممارسة حق دستوري، يجب ان لا يكون الا بناء على حكم محكمة مختصة، و ليس بناء على تقديرات مجلس (غير قضائي) تكونه و تعين رئيسه السلطة التنفيذية.
إن اي خرق للحريات و أي إنتهاك لمصالح الدولة او انتهاك لحقوق الاخرين، يجب ان يحال للسلطة القضائية، و لا لايجب باي حال من الاحوال ان يقوم المجلس باي سلطات متصلة بايقاف نشاط الصحيفة، أو بسحب ترخيص الصحفي بصورة مؤقتة أو دائمة. تلك سلطات تتضمن عقوبات و لا يجب ان تتولاها هيئة غير السلطة القضائية . لا يستقيم في المجتمعات الديمقراطية، ان تقوم اجهزة السلطة التنفيذية بممارسة سلطات ذات طبيعة قضائية، و هذا أحد أهم بديهيات نظرية الفصل بين السلطات.
الصحافة الالكترونية: أحد أهم المستجدات التي يسعي التجديد المقترح الاتيان بها، هو ادراج الصحافة الالكترونية ضمن مسئوليات مجلس الصحافة و المطبوعات. في المادة الرابعة (تفسير) اقترح التعديل الجديد تضمين الصحافة الالكترونية. و عرفها مشروع القانون بالقول: يقصد بها اي عملية نشر الكتروني تحتوي على احداث جارية يتم بثها عبر الانترنت و يستخدم فيها قانون الصحافة و المطبوعات و آلياتها فضلا عن مهارات و آليات تقنية المعلومات. و من الواضح ان التعريف ملتبس و غير منضبط، اذ يتضمن، دون حصر دقيق، عدد كبير من الانشطة التي تتم على الانترنت و لا تدخل بحسب طبيعتها ضمن النشاط الصحفي. و كان من الاجدى الاستعانة باحكام الفقرة الثانية من المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية و الذي نص على صور حرية التعبير بالقول: لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها. اهمية قانون الانتخابات في المشهد السياسي: من الواضح ان قانون الصحافة و المطبوعات له تأثيرات كبيرة على النشاط السياسي، لانه قانون منظم للحق في حرية التعبير و الفكر. و مثلما ذكرت في المقدمة، تعتبر حرية الرأي والتعبير من أهم الحريات وهي بمثابة نقطة البدء في الانطلاق لغيرها من الحريات الأخرى فهي أداة الاتصال والحوار التي يدار بها النقاش الحر داخل االمجتمع الديمقراطي، حتى يستطيع الناس عن طريق المناقشة الحرة أن يخلقوا نوعاً من التأثير والرقابة على أجهزة الحكومة. و هذا البعد السياسي لقانون الصحافة، يجعلها رهينة بالتطورات السياسية و مستوى الحريات التي تقدمها الدولة لمواطنيها، و ذلك بحسبان ان الحريات العامة سلسة مترابطة من الالتزامات. من المهم ان يدرك النشطاء و قادة العمل الصحفي و اصحاب الرأي و الفكر و القيادات السياسية في الاحزاب، ان قانون الصحافة و المطبوعات، له عميق الاثر في التطور الثقافي و الفكري في البلاد، و على مستقبل نشاطهم العام. و على مؤسسسات التشريعات ان تدرك التزاماتها و تعهداتها الدولية، و كذلك اتساق تشريعاتها ذات الصلة، ببعضها البعض. هذا القانون سيعكس بالضرورة مستوى الحريات الذي في ظله تنوي السلطة السياسية انعقاد انتخاباتها في 2020، و لا شك ان صدور قانون ذو قيود اضافية على حرية التعبير سيفسح المجال واسعاً ليمكث السودان ضمن الدول الاسوأ عالميا من حيث كفالة حرية التعبير، اذ يحتل السودان اليوم و بحسب تقرير مراسلون بلا حدود، الموقع 174 من اجمالي 180 دولة.