عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. بسم الله الرحمن الرحيم بما ان الثورة في اساسها فعل خلخلة للثوابت المفاهيمية والعيارية والقيمية والاداتية، التي وفرت الاسباب الموضوعية لقيامها. فهذا بدوره يؤدي لحالة السيولة التي تسم اجواء الثورة، حتي استواءها علي مفاهيم وقيم وعيارية وادوات جديدة تلبي اشواق اصحابها، بناء علي درجة نجاحها او انجاز اهدافها. او العياذ بالله فشلها ومن ثم منح تلك الثوابت مزيد من الصلابة والتماسك والتكريس لاوضاع اكثر مأساوية، وهذا ما يسمي بالثورة المضادة! اي هذه الاخيرة ليست اكثر من حملة انتقامية ضد كل من رفض الاذعان لشروط القهر وانتهاكات الكرامة التي كانت سائدة قبل الثورة، وتاليا ما كان مستترا من اذلال ونهب وفساد يصبح اكثر جرأة و حضور وتحدٍ لكل مقاومة او عدم مقاومة! وبما يمكن وصفه برد الاعتبار للاستبداد والفساد والقمع بعد تزويدها بكل عوامل الفتك والسيطرة والهمجية، والحالة المصرية هي النموذج الصارخ/الفاضح لهذا المآل. ولكن يظل اوضح ما في حالة السيولة، ان الحكم علي الموقف من الثورة يتخذ عيارية قيمية وليس وجهة نظر موضوعية، وتاليا يصبح ملازم لصاحبه غض النظر عن مآلات الثورة او دوافع اصحابه الحقيقية، اي اجواء الثورة تحمل في داخلها علاقات استقطابية، ومن ثم تتم تقسيمات اجتماعية سياسية حسب البعد او القرب من الثورة او بالاصح اطرافها في الجانبين، اي اما ابطال او خونة حسب نظرة كل فريق. بناء علي اعلاه هنالك عدة مواقف من الثورة السودانية: اولها، معاداة الثورة صراحة، وهؤلاء يمثلهم كل من قامت الثورة ضده او من وفر عوامل قيامها ابتداءً. وبطبيعة الحال العلاقة بين الثورة وهؤلاء علاقة وجود وفناء او علاقة صفرية، تحكمها موازين القوة. ومن سمات هذه العلاقة انها تفتقد البعد السياسي والبراغماتي، او يحكمها التطرف لانها رهينة النفي والنفي المضاد. وفي حالتنا الراهنة يمثل النظام بكل مكوناته وامتدادته وبما فيها للاسف المجلس العسكري، الخصم الاول والاساس للثورة. والحال هذه، يصبح انقلاب المجلس العسكري علي البشير هو مجرد مناورة او خدعة لتمرير اجندة بقاء النظام بمكونات وآليات اخري. لذا اقصي ما يقدمه العسكر من تنازلات، لن تمس سوي السطح مع بقاء علاقات ومصالح المنظومة كما هي. وهذا ما جعل حركة المجلس تتميز بالمماطلة والبطء الشديد فيما يخص القضايا الجوهرية، والاستجابة المحدودة للضغوط فيما يلي المطالب الهامشية، حتي يتمكن من الاستفراد بالسلطة، سواء من خلال فض الاعتصام اذا ما واتته الفرصة باقل كلفة، او بتشكيل حكومة امر واقع من جانبه (همبول) تسمح له بتنفيذ مخططه بكل اريحية، عبر بيع الوهم والوعود الجوفاء للداخل والخارج. واذا صح هذا تصبح هذه الوضعية هي الاكثر مثار للسخرية، اي بدلا ان تحمل الثورة بوادر فناء النظام، تتحول الي القبلة التي تمنحه الحياة! وذلك بالطبع بناء علي الخدمات التي يجدها المجلس العسكري ومن ضمنها اخطاء قوي الثورة. ثانيها، موقف القوي المحافظة، وهؤلاء بطبعهم لا يرتاحون لفعل الثورة وما تحمله من وعود (مخاطر) تهدد مصالحهم (غالبا ما تتعارض مع اقتسام الفرص)! ورغم استنكارهم لممارسات الانقاذ المتطرفة في انحيازاتها وفسادها واحتكارها، إلا انهم يفضلون استمرار العسكر في الحكم، لبقاء اوضاعهم/مصالحهم علي حالها، ولكن باسلوب اقل فساد واحتكار ومضايقة لهم، وهؤلاء تحديدا تطربهم شعارات العسكر ووعودهم الجوفاء، وهم اكثر من يبشر بها ويذيعها بين الناس. وكذلك هم يصدقون باريحية وهم المستبد العادل، وهو في الحقيقة يلبي قابليتهم للعيش في كنف القهر، لان ما يهمهم فقط هو البقاء في وضع افضل، غض النظر عن كلفته سواء علي مستوي الكرامة او الحرية. واهم ما يسم هؤلاء هو المزيد من البراغماتية والقليل من السياسة. وهذه الشريحة قد تكون غير انقاذية الا انها تمتعت بمزايا مادية واجتماعية في ظل الانقاذ. ثالثها، وهذه الفئة من الذين يرغبون بصدق العيش في ظل دولة الديمقراطية والكرامة، كما انهم يتمتعون بالكفاءة اللازمة للاستفادة من اجواء التنافس الحر. وهم بطبعهم معارضون لاوضاع الاستبداد ويتضررون من احتكارها للفضاء العام، وغالبا يدفعون ثمن معارضتهم غاليا، ولكن موقفهم من الثورة يتسم بوضع المكاسب المتوقعة في كفة والمخاطر المحدقة في الكفة الاخري. ولذا فهم يميلون للوصول لنوع من التسويات المقبولة مع المجلس العسكري، علي ان لا يمنع ذلك الوصول لاهداف الثورة ولكن بالتدريج ومع اتخاذ تدابير مقنعة للاحتراز من غدر العسكر. وهذه المعادلة تتسم بكثير من السياسة وقليل من البراغماتية. وعموما هذه الفئة تضم شرائح متعددة، ولا يخفي ان بعضها مشارك في تحالف قوي الحرية والتغيير. رابعا، وهؤلاء ممن يرغبون في انجاز كل اهداف الثورة باقصر الطرق واقل زمن، ولا يقبلون بانصاف الحلول، والتي تعتبر في عرفهم تنازل يفتح الباب للاطاحة بكل مكاسب الثورة. كما انهم يعلمون ان هكذا فرصة ثورية يصعب تكرارها في المدي المنظور. خاصة وان استمرار العسكر بذات السطوة والنفوذ، وما يمكن ان يتاح لهم من فرص المتاجرة بعواطف البسطاء من خلال تقديم بعض الحوافز الاقتصادية المؤقتة (ذات طابع استهاكي وعاجل) او محاكمات صورية لبعض رموز النظام ممن احترقت اوراقهم داخليا وخارجيا كالبشير (وغالبا ذات طابع غير علني لتورط كل الاطراف معه). المهم، استمرار هكذا ممارسات يحدث ارباك في مشهد المستقبل السياسي، ويعقد من امكانيات التغيير الجذري لاوضاع مهترئة لا يزيدها التسويف إلا خبالا. بمعني، اي تنازل عن اهداف الثورة الاساسية، كتفكيك الدولة العميقة بالكامل واسترداد الدولة بمواردها المادية والمعنوية للشعب والانحياز لقيم الديمقراية والحرية وتحقيق السلام والتنمية المتوازنة في كل ربوع الوطن، هو بمثابة طعنة لدماء الشهداء وآلام الجرحي ومستقبل البلاد وحظوظها في الانعتاق من ربقة الاستبداد، ليس علي مستوي الاجراءات ولكن كروح وثقافة ديمقراطية متجذِّرة في الدولة والامة. واهم ما يسم هذا التيار غير تجسيده لروح الثورة وتجلياتها الحدية (مصطلح الحدود)، انه ايضا تنعدم فيه البرغماتية وخفوت صوت السياسة ونزوعه للتطرف، لان ما يحركه هي اهداف ثورية يراد تحقيقها، وهي بطبعها لا تقبل التسويات (السياسة) وانصاف الحلول (البرغماتية). اي اما ثورة كاملة او لا ثورة. اي ما يفرق بين الثورة والانتفاضة او الاحتجاجات، ان الثورة فعل مخاطرة مفتوح علي كل الاحتمالات وبما فيها الخسارة ولكن ما عدا الاستسلام. ويقف علي راس هؤلاء شباب الثورة وتجمع المهنيين والحزب الشيوعي وبعض الحركات المسلحة. وعموما، هذا التيار بكل مكوناته يمثل نفس موقف المجلس العسكري ولكن في الاتجاه المعاكس، اي اذا كان المجلس العسكري يدافع عن بقاء الاوضاع كما هي، فان هذا التيار يسعي حثيثا لتغيير ذات هذه الاوضاع كليا، كمبرر للثورة عليها. وهذا بدوره ما جعل انعدام الثقة والتركيز علي نقاط الخلاف هو سيد الموقف بينهما، قبل ان يئد مساعي الوساطة في مهدها. بمعني، الصراع بينهما ليس علي ترتيب الفترة القادمة او حجم النسب كما يشاع، ولكنه بالاحري علي كسب الثوار بصفة خاصة والمجتمع من خلفهم بصفة عامة، لاحراز الضربة القاضية علي الخصم. خامسا، وهنالك جماعة (شعب) كل حكومة، وديدن هذه الجماعة الصمت او الكلام الحذر وانتظار جلاء غبار المعركة لتعلن عن انحيازها التام للمنتصر، غض النظر عن من هو! وتشكل هذه الجماعة المورد الحصري، لممارسات الارتزاف والتملق والانتهاز، وهي كعادتها جاهزة لعرض خدماتها القذرة لكل طاغية او صاحب سلطة او حتي مجرد نفوذ. وعموما وجود هذه الشريحة وحجمها، يشير الي وجود خلل بنيوي يخترق المجتمع، و هي غالبا احد اعراض الحكم الطغياني المستطيل وآثاره المستطيرة! ولو لم يكن للطغاة سوي هذه الخيبة الممضة، لاباح ذلك التخلص منهم بكل الوسائل. واخيرا وكنموذج بسيط، من يستمع للاستاذ الرشيد سعيد من جانب، وصراخ الكباشي وغيره من خطرفات اعضاء المجلس العسكري (اعضاء الخلية الامنية المكلفة بحماية البشير سابقا) من جانب آخر، لا اظن تعوزه الحكمة او البصارة لتحديد الفارق بين الدولة المدنية في طبعتها الراقية، والدولة العسكرية في نسختها الوصائية او المتلطخة بمكياج الدولة المدنية المزيفة! والذي مجرد حادث بسيط كاف لهتك حجب واصباغ الزيف، لتُظهر عن وجهها القمعي الكالح. وعموما المتغطي بالمجلس العسكري يبدو ان عورته مكشوفة للفضاء المفتوح. ودمتم في رعاية الله