jameil m [[email protected]] خلفيات المشهد الانتخابي القادم قد لا تبشر بالكثير من مما يحسبه الناس انفراجا حيال وقائع تشهد احتقانا شديدا بين القوى السياسية المختلفة . فما يجري من تسخين لهذه الانتخابات بين مختلف تلك القوى لا يندرج في سوية سياسية يمكن الظن فيها بنهايات متوقعة ، إن لجهة المران الديمقراطي ، أو لبداية عهد جديد . ففي تينك الحالتين تنتج الانتخابات وقائع جديدة لصالح التحول الديمقراطي ضمن أفق وطني ناجز . بيد أن ما يجري على هامش ذلك التسخين والتحولات التي أدت إليه ، والتراكمات الكثيفة لحقبة ملتبسة لعبت فاعليات كثيرة على تعويمها بذلك الشكل البائس ، سواء في ما خص الشراكة التي تمت ضمن شروط نيفاشا بين شريكي الحكم وهي شراكة تمت بقوة الأمر الواقع أو لجهة تغييرات إقليمية ودولية كبرى لعبت دورا في إعادة موضعة نظام الإنقاذ على ذلك النحو من الالتباس ، أو لغيرها من الأسباب بدا معها ان ماهو قادم في الأفق السياسي للبلد أخطر بكثير من مجرد تحول ديمقراطي طبيعي . وبما أن أغلب القوى السياسية المنخرطة في هذا السباق ترهن التحولات القادمة بمصائر كيانية / وجودية للبلد ، وتنذر بوعود قيامية في حال فشل القوى السياسية عن انجاز تسوية تاريخية للمأزق الوطني ؛ فإن ما يستدعي التأمل حقا هو التحديق في ذلك التناقض القائم في صلب الدعاوى العريضة لتلك القوى ، وكأن ما سيلوح في الأفق هو بمثابة حل سحري للانسداد الذي أصاب هذا البلد . إن حالة التسخين و الفرز الايدلوجي ، تنتج لدى كافة تلك القوى أوهام سياسوية لا يمكن صرفها إلا في لعبة الدعاية الانتخابية فحسب ، بينما واقع الاستجابة لتحديات الفعل السياسي بالمعنى المعرفي هو واقع رخو ولا يكاد ينطوي على بنية صالحة لذلك العمل ؛ بل هو في مكان آخر تماما . فالانسدادات التي تبدو على أكثر من صعيد بين أطراف القوى السياسية ، الكبرى تتمثل أولا في ذلك الاستعصاء النظري حيال سؤال السياسة من حيث هي سياسة أي إدارة للشأن العام بأدوات سلمية ضمن كيانية وطنية ناجزة . وإذ تعمل تلك القوى في فضاء آيدلوجي لا يمكن أن تسنده عناصر الواقع الموضوعي للسياسة؛ سنجد أنفسنا إزاء حالة يحل فيها الوهم مقام الوعي ، والتأويل مقام المعرفة ؛ وهي في معنى ما تدل بوضوح على فكرة الشلل الإرادي حيال الاستجابة الجادة من كافة تلك القوى لخطورة أزمة وطنية مستفحلة ، وحالة من العجز في القدرة على الإمساك بالمصير السياسي لهذا البلد . وبالرغم من أن السياسة تحتاج إلى الكثير من القطعيات الوطنية الموضوعية كمحور تنطلق منه القوى السياسية ضمن مفاهيم تضمن نجاعة العمل السياسي المباشر ، إلا أن ما نراه في برامج الأحزاب هو بالتحديد ما يجعل من تلك القطعيات خارج دائرة التفكير السياسي المباشر، بمعنى أن برامج تلك الأحزاب تبدو في العادة أشبه ببرامج مصممة لإعادة تأسيس متوهم لوطن غامض كل ضمن تأويله الآيدلوجي من المشروع الحضاري إلى السودان الجديد ...ألخ. والحال أن ما يجري في الواقع هو المزيد من التطييف والتفتيت للشعب بصورة يوشك أن تنتفي فيها كلمة شعب كدلالة سياسية لمعناه ، وهو بالطبع تفتيت لا يعين على رؤية الواقع السياسي كما هو . وضمن هذا السباق يتحدث الجميع ؛ من المؤتمر الوطني إلى الحركة الشعبية إلى الأحزاب التقليدية الأخرى و جميع الذين يشتغلون في قضايا العمل العام ؛ يتحدث الجميع عن شبح التفكك والتقسيم ؛ كل بحسب تأويله ، فيما يغيب سؤال بسيط بخصوص هذا الحديث العريض عن التفكيك والتجزئة لمستقبل السودان وهو : كيف يمكن للذين أجمعوا على هذه الحقيقة أن يقاربوا تداعيتها ببرامج سياسوية وطروحات آيدلوجية فقيرة وحلول ابعد ما تكون عن الحل الذي تستدعيه السياسة؟ والأمر فيما يبدو هو أقرب إلى الأزمة الوطنية منها إلى الأزمة السياسية ، وإلى المأزق التاريخي منه إلى المأزق السياسي . ففي الأزمات السياسية يكون الخلاص رهين بتغيير سياسات تكتيكية لحكومات تعمل ضمن كيانية وطنية واضحة المعالم ومفعلة بحيثيات الدستور وشروط المواطنة ، ولا يكون هناك حديث أصلا عن أزمات وطنية ونقاشات عن قضايا مصيرية بخصوص الوجود والعدم لذات الكيان الوطني في برامج القوى السياسية ضمن انتخابات عامة ! والأمر برمته يحيل على الحيرة والتساؤل ؛ فإذا كانت القوى السياسية غير مدركة للحدود الفاصلة بين المأزق الوطني والأزمة السياسية وما يترتب عن ذلك من نتائج مختلفة اختلافا جذريا وهو ما يبدو واضحا فإن كل تلك الشعارات التي تضخها في إدعاء العمل الوطني في الأجندة الانتخابية لا تعدو أن تكون تسخينا مجانيا للعواطف الوطنية المخدوعة . ذلك أن ما نشهده في هذه السوق الانتخابية هو إعادة اصطفاف وفرز لخيارات آيدلوجية لا يمكن أن تصرف في أمر السياسة وإدارة الشأن العام ، وليس ذلك لأن السياسة في هذا البلد متعذرة ، بل لأن الطريق إليها عبر الآيدلوجيا والاستقطاب هي تماما كطريق (من يقصد البحر وهو يستدبره) بحسب مقولة شهيرة لأبي حامد الغزالي . قد تصلح الآيدلوجيا لتكوين يتعلق بصناعة الهوية والوطنية عبر تأسيس متخيل جماعي مشترك ينطلق من مكونات وحقائق تاريخية للامة السودانية مثلا ، عند ذلك ستلعب الآيدلوجيا دورا كبيرا في توجيه الاحساس الوطني كطابع كلي وعام لجميع أفراد الأمة . أما حين تكون الآيدلوجيا هي الأداة السائلة لتعويم الأفكار الحزبية حيال أزمة وطنية مركبة ، وبرامج سياسوية في انتخابات عامة ، فلا شك أن النتائج ستكون المزيد من الانسدادات في الواقع السياسي . [email protected] نقلا عن صحيفة الأخبار السودانية 23/2/2010م