المراقب للمشهد الفكري في السودان يلاحظ أن ساحة الفكر رخوة لدرجة تشعرك بالحرج. أيام قمة روح الحشود التي أنتجتها الصحوة و أفكارها نجد أن السودان قد أصبح أول ضحية في محرقة المقدس بنجاح انقلاب الحركة الاسلامية و استيلاءها على الحكم في عام 1989 و كما يقول برنرد لويس فقد أستطاعت عربة الشرق العتيقة التي تقودها آلهة مجنونة من أن تنزل الخراب على كل الاصعدة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية. و بالتالي لم ينزلق بلد من بلدان العالم العربي و الاسلامي عبر أبواب الجحيم كانزلاق الشعب السوداني عندما فتح على نفسه أبواب الجحيم بسبب سيطرة الحركة الاسلامية السودانية على مقاليد الحكم طيلة ثلاثة عقود. اتضح في هذه الحقبة ضعف الفكر سواء كان فكر الحركة الاسلامية السودانية أو فكر من يعارضها لذلك كانت النتيجة كارثية لم يخرج السودان الا عندما تقدم الشعب ليعلن عن سقوط النخب في ثورة ديسمبر التي قد أطاحت بأحلام الحركة الاسلامية السودانية و الى الأبد. اليوم نجد ان الشيخ عائض القرني يعتذر عن حقبة الصحوة و قوة الحشود و ما أفرزته من محن و احن قد آلمت المجمتعات أفراد و جماعات. يعتذر و يتراجع عن مسيرته الطويلة التي امتدت لأربعة عقود و عكسه نجد النور حمد في مقاله الأخير يقول أن الحركات الاسلامية ذات ثقل و يجب أخذها الى المستقبل و هنا يكمن ضعف الفكر و المفكرين في السودان ضعف في التحليل و ضعف في القدرة على التنبؤ كما رأينا تنبؤ النور و الصاوي و السر سيد احمد و اصرارهم على منازلة الانقاذ في الانتخابات و الصبر على الديمقراطية بتحليل هم أنفسهم قد اعترفوا على مضض على انه تحليل ضعيف كما رأينا في مقال الصاوي من جزئيين. عائض القرني يعتذر عن فكره الذي قد جسدته حشود الصحوة الكاذبة و كان السودان أول من دفع ثمنها باندفاعه كقطيع الخنازير باتجاه الهاوية. القطيع الذي تحدث عنه السيد المسيح و كانت الهاوية هي نجاح انقلاب الحركة الاسلامية السودانية و ثمرتها المرة حكومة الانقاذ. و بالمناسبة أول من انتبه لهذه الحشود الضالة المضلة هو الطيب صالح بعبقريته الفذة و تصوره في حديثه عن من اين جاء هؤلاء فهو تصور و ليس سؤال أما الحمقاء مازالوا يبحثون له عن أجابة كسؤال و هو في حقيقة الامر تصور مثل تصور هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شئ مذكورا. الطيب صالح ذكر أن الخرطوم ليس لها زخم القاهرة و لا بغداد و لا دمشق فيما يتعلق بتاريخ الخلافة فعلامة العجلة التي تفضي الى الندامة في فتح أبواب الجحيم التي ينغلق خلفها تاريخ الاسلام في قطيعته مع تراثه و أدبياته الانسانية و قطيعته مع الحداثة و لكن تصوره أنقلب الى سؤال مازال الاغبياء من مفكري السودان يجتهدون في الاجابة عليه و هيهات. بالمناسبة الطيب صالح في منظومة الفكر في السودان قمة ظهرت بسبب عبقريته و تتشابه مع سلسلة جبال في مصر بثلاث قمم فيها قمة أحمد لطفي السيد و تلميذه طه حسين و أقل قمة فيهم كان نجيب محفوظ الذي تقابله قمة الطيب صالح لذلك قمة الطيب صالح أمامها قمم غائبة أي ليس لدينا من يقابل قمة طه حسين و قمة أستاذه أحمد لطفي السيد في مسألة طرح أفكار قد ساعدت مصر في أن تتجنب حكم الاخوان المسلمين و لكن بعد مجئ السيسي فقد أعاد تاريخ مصر و المصريين الى حقبة المماليك فمصر الآن في زمن السيسي لا تشبهها الا مصر في حقب المماليك. ولكن مسألتها مسألة وقت. أما السودان و مفكريه فنجدهم مازالوا غارقين في حقبة سنار المهدية الانقاذ اذا قارناهم بحالة مصر السيسي التي تشبه حقبة مصر المماليك. قبل أن يعلن عبدالحي يوسف عن مسيرته المليونية و قبل أن تلغى. قبلها باسابيع كانت المظاهرات في أوجها عندما ظهر مقال لعبد الله علي ابراهيم يمتدح فيه عبد الحي يوسف بأنه و أنه و قد ندم عليه أشد الندم بل كتب عكس مدحه لعبد الحي بعد أعلانه عن مسيرته لمناصرة الشريعة و مشكلة عبدالله و النور حمد مازالا في ظلال سنار المهدية الانقاذ لذلك تجدهم خطوة للأمام و خطوة الى الخلف في الوقت الذي قد وضحت فيه الرؤية بأن العهد الجديد في السودان لا يحتاج لكاهن كعبد الحي يوسف يجوز اصطحابه مع الثورة كما يتوهم عبد الله علي ابراهيم و لا أن تتاح فرصة للحركات الاسلامية في مقبل الايام كما في خزعبلات النور حمد في مقاله الأخير و هاهي الايام حبلى بأن تصنف أمريكا ترمب حركة الاخوان المسلمين كحركة اسلامية ارهابية لا تختلف عن داعش و حزب الله و الحرس الثوري الايراني. الغريب من يزعمون أنهم مفكرين في ساحتنا السودانية كعبد الله و النور حمد و الصاوي نجدهم أقل مستوى من أي صحفي شاطر دعك من مفكرين فمثلا منذ مدة قد تحدث أمير طاهري عن حال ايران و كان رأيه و قد أختصره في أن التاريخ مقبرة الآمال البائسة و هو المصير الذي ينتظر الثورة الخمينية و عكسه نجد النور حمد الذي يدعو الى أخذ الجماعات الاسلامية معنا و عبد الله ينصح بأخذ الكاهن عبد الحي يوسف. الغريب حالة النور حمد في دعوته لأخذ الجماعات الاسلامية الى بر مستقبل السودان الجديد و كذلك محاولة عبد الله و تلميحه بأن عبد الحي يوسف ككاهن للعهد الجديد توضح لك أن المفكرين السودانيين مازالوا في حقبة سنار المهدية الانقاذ أي مازالوا غارقين في وحل الفكر الديني كحال مصر في فشل ثورتها و رجوعها في عهد السيسي الى حقب المماليك. كان من الأفضل للنور حمد و عبد الله علي ابراهيم أن يستفيدوا من نور عبقرية الطيب صالح أيام مجئ الانقاذ حين قال لماذا أستعجلت الخرطوم بأتجاه زخم تاريخ الخلافة الاسلامية و هي ليست بزخم القاهرة و بغداد و دمشق و اليوم نجد أن دمشق و القاهرة و بغداد قد أنكرت زخم تاريخ الخلافة و قد خرجت باتجاه حداثة تنشد قطيعة مع وهم الماضي الذهبي و عكسه نجد عندنا في السودان النور حمد و عبد الله لا يستعجلا الخروج أي خروج الخرطوم بل ينبغي ان تصطحب معها كاهن في فكرة عبد الله علي ابراهيم و أن تصطحب معها فكر الجماعات كما في مقال النور حمد الأخير فمتى يخرج المفكر السوداني من وحل الفكر الديني؟ وحل الفكر الديني وضح في أننا أول من نجحت الحركات الاسلامية في حكمهم لثلاثة عقود و وضح فشلها و هاهو العالم العربي و الاسلامي يحاول مغادرة وحل الفكر الديني بأقصى سرعة كما رأينا في اعتذار عائض القرني و في مقال أمير طاهري و عكسه نجد تكاسل مفكرينا كعبد الله و النور و كأنهم يجسدون وصف الحصان في أغنية التراث ان وردن بجيك في أول الواردات و مرن مو نشيط ان قبلن شاردات. ها هو العالم العربي و الاسلامي مقبل شارد من وحل الفكر الديني الا حصان الفكر السوداني مرن مو نشيط في فكر عبد الله علي ابراهيم و مقال النور حمد الأخير. فحالة عبد الله علي أبراهيم و النور حمد تجسد صعوبة القطيعة مع التراث و هي لا تأتى الا بفعل الثورات الكبرى التي يسبقها انفجار معرفي كحال الثورة الفرنسية كقطيعة مع تراث و تاريخ فرنسا الوسيط و لكن قد سبقها انفجار معرفي قد قاده كل من صاحب العقد الاجتماعي جان جاك روسو و فولتير فيلسوف الثورة و ثورتنا الراهنة في السودان هي تجسيد لتقدم الشعب و سقوط النخب أي ثورة لن يسبقها انفجار معرفي لذلك نجد اللاحقون للأحداث كحال النور حمد و عبد الله علي ابراهيم لم يدركا أن القطيعة الآن قد حصلت و أن السودان الآن قد خرج من وحل الفكر الديني أي قد خرج من سنار المهدية الانقاذ ثمرة الحركة الاسلامية المرة و أن السودان في انتظار مفكرين قد تجاوز عقلهم أفكار يراها كثر أنها تمثل خطوة متقدمة في الفكر الاسلامي و هي ليست كذلك و أقصد أفكار علي شريعتي و حسن حنفي كما يتوهم كثر. فالساحة الآن تتفتح أفكار و قد تجاوزت حتى أفكار محمد عابد الجابري و تتجه الى تتويج فكر محمد أركون و داريوش شايغان و كثر في مقدمتهم العقلانيين العرب حتى رضوان السيد مقارنة بهم نجده من المراوغين كحال النور حمد و عبد الله علي ابراهيم و ذاك الذي يتحدث عن علي شريعتي و حسن حنفي كلهم من قراء التراث بذاكرة محروسة بالوصاية و الانتماء و ممنوعة من التفكير. حقيقة أن التاريخ مقبرة الآمال البائسة هاهي ايران بعد أربعة عقود تختنق على الدرع كآشور وبسبب أوهام خطابها الديني و محاولة تصدير ثورتها قد أصبحت المنطقة مشتعلة بحروب ايران و تدخلاتها في العراق و اليمن و سوريا و النتيجة اختناق اقتصادي رفع أسه الحصار الاقتصادي عليها و منعها من تصدير نفطها. في الختام ستختنق ايران على درعها كما يقال و ستقتلها الحروب التي قد صنعتها بنفسها و ستكون اختناقاتها الاقتصادية ككعب أخيل الذي أطاح بالحركة الاسلامية السودانية. وحدها السعودية قد فهمت الدرس و قد أبعدت خطابها الديني المتطرف من أن يكون له تأثير على السياسة و الاجتماع و الاقتصاد و أعلنت عن رؤيتها 2030 و قد تحدثت عن فكرة الاقتصاد و المجتمع و هي روح فكر ماكس فيبر فيما يتعلق بفكرة الاقتصاد و المجتمع و الرفاه. فهمت السعودية الدرس بعد أن احترقت أصابعها بشعلة ثقابها الذي أشعلته في منافستها لخطاب ايران الديني حيث كانت السعودية تؤمن بأن ايران لا تستطيع المزايدة على السعودية فيما يتعلق بالخطاب الديني و النتيجة قد أخرجت السعودية أسواء نسخة من سلفيتها و بسببها رجع الارهاب ليضرب السعودية في عقر دارها بعد أن ارتد من الخارج. والآن السعودية في محورها مع الامارات و مصر تحارب التطرف في العالم العربي عكس محور قطرتركيا و هاهو عائض القرني يعتذر عن خطاب الصحوة بعد أن تأكد له أن العالم العربي و الاسلامي قد غرق في دمه و دموعه و عندنا مازال النور حمد و عبد الله علي ابراهيم في محاولتهم البائسة لانقاذ آمال الجماعات الاسلامية في السودان من سقوطها في التاريخ كمقبرة للآمال البائسة و هيهات. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.