الغيبة عن السودان أصبحت تعني الكثير للذين يطول غيابهم، فيعودا كالغرباء، بل أضحت كذك للذين يواظبون على المجئ في اجازاتهم السنوية. طبعا لا أذيع سرا إن قلت ان جميع المفاهيم القديمة قد تغيرت تغيرا ملحوظا، شمل التغيير كافة النواحي والمظاهر حيث تغيرت الجغرافية الطبيعية والبشرية والاقتصادية والمناخية وما اليها، ففي زمان مضى كان الناس يشكون من الأحوال الاقتصادية لربما كان التغيير فيها ظاهر للعيان وملموس لكل الناس. وهذه السطور بمثابة توثيق لهذه الظواهر: المآتم وبيوت العزاء: قلنا ان يد التغيير قد طالت كل مظاهر الحياة في السودان، ونحن لسنا بصدد تقييم تلك التغييرات بقدر ما نسعى لعرضها وتوثيقها والتعريف بها وتسليط الضوء عليها فقط. ومن المعروف في الآونة الأخيرة أن أيام المأتم قد تقلصت من ثلاثة أيام كما عهدنا من قبل الى يوم واحد فقط نظرا لضيق ذات اليد والمتطلبات المالية، وفي كثير من الأحوال اصبحت عبارة (ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن) طابعا مألوفا ولحنا مستساغا للأذن وعبارة صديقة للعديد من الأسر التي أضحت لا تطيق التكاليف الباهظة –التي تقصم الظهر- لمثل تلك المآتم. ففي الاقاليم كانت ولا تزال في بعضها عادة مشاركة آل المتوفى في مصابهم قائمة ومتأصلة ، بحيث يشارك الجيران وأصدقاء الميت في اعداد الطعام وتجهيزه لآل المتوفى طيلة أيام المأتم الثلاثة، وفي نهاية المأتم يساهمون باعداد كشف للمساعدة المالية لأسرة الفقيد. أما في المدن وسيما الخرطوم فالوضع يختلف تماما وانقلبت الأصول والموازين ليصبح كاهل آل المتوفى مثقلا بالاضافة الى أحزانهم على من فقدوه بالمسئولية والهم المترتب على تحمل أعباء ثقيلة تتعلق باعداد الطعام والشراب لجمهور المعزين المقيمين والوافدين من اقاليم السودان المختلفة. واذا كان الوضع على ما كان عليه فلا حرج ولكن للأسف فقد تعدى الأمر بلوغ الكفاية وتجاوزها الى حدود البذخ والاسراف والمتعة، فأصبحت تذبح الخراف وتمتلئ الموائد بما لذ وطاب من اصناف الطعام والحلو و (التحلية)، حتي اختلط الأمر على الناس أهو بيت عزاء وبكاء أم هو بيت عرس وفرح!!!!!!!!! أما عن المعزين فحدث ولاحرج فقد فاض الصيوان (الخيمة) وامتلأ بهم وتعالت ضحكاتهم وقهقهاتهم وحلق دخان سجائرهم فوق العمائم وتجمهروا في جماعات يسمرون يقصون الحكاوي والنكات وكأنهم في (..........) لا في بيت عزاء، وذلك دون أدني مراعاة لحرمة المناسبة التي تقتضي التأدب والحزن ومواساة أهل الفقيد والتخفيف عن احزانهم وتسليتهم بما يخفف عنهم من كلام طيب مثل الترحم على روح الميت والدعاء له بالمغفرة وأضعف الايمان التزام الصمت واظهار سمات الحزن والأسف على الفقد أو افتعالها من باب المجاملة والمشاركة الوجدانية. في واقع الأمر ينقلب المأتم الى منتدى كبير يضم في جنباته منبر سياسي وآخر فني تلوك فيه الألسن أعراض الناس الى جانب العديد من المنابر حسب أهواء الناس. كل ذلك يتم دون مراعاة لمشاعر أهل الفقيد الذين يحول حياءهم دون زجر جموع المعزين الذين انخرطوا في تلك المنابر، مخالفين الوظيفة والدور الأساسي والغرض النبيل لبيت العزاء الذي تستحب فيه أعمال الذكر وتلاوة القرآن، وقليل من يعمل بذلك. فمن ياتري يغير تلك العادة الدخيلة على مجتمعنا والتي اخذت تتفشى في أوساط مجتمعاتنا العريقة ذات التاريخ الناصع والسمعة الطيبة. بيوت الأفراح والأعراس أما في بيوت الافراح فقد انفرط العقد وبدأت عاداتنا وتقاليدنا العريقة السمحة تندثر شيئا فشيئا أما أعيننا ولا أحد يحرك ساكنا. فبدل أن يتم تبسيط الأمور ظهرت سلسلة من العادات التي تقتضي تطويل أيام العرس وبالتالي تنطوي عليها الكثير من الترتيبات التي تتطلب جهدا ماليا وبدنيا اضافيا من أهل الطرفين العريس والعروس، الأمر الذي جعل الشباب يحجمون عن طرق باب الزواج ويفضلون العزوبية على الخوض في غمار بحر هائج مائج ومضطرب، وهناك عادة وسلوك غاية في السوء بدأ الظهور وسط جميع قطاعات مجتمعنا وهو بلاشك يؤثر على جميع قيمنا الاجتماعية. وهو (التطاول والصرف ببذخ في الأعراس). الذي أصبح يهدد كيان المجتمع. من المعروف أن الله خلق العباد متفاوتين في الرزق فمنهم الفقير الذي منحه الله البنين ومنهم الغني الذي أعطي المال الوفير ولكنه حرم من الولد والذرية ومنهم من بسط الله له في الصحة وآخر مبتلي بالعديد من الأمراض ومنهم ...... ومنهم، ولو شاء الله لساوى بين الناس وخلقه أو ساوى بين الأخوة الأشقاء، ولكن لحكمة لا يعلمها الا الواحد القهار أوجد هذا التفاوت، ولكن بالرغم من ذلك هناك من يحاولون كسر هذا التفاوت فيسعى بشتى الوسائل – غير المشروعة- للتساوى مع من فضل عليه في الرزق وإن كان ذلك على حساب اخلاقه باللجوء الى أساليب تقتضي ممارسة الفساد الاداري (الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ) أو على حساب حالته المادية عن طريق الاقتراض والتقسيط المدمر الذي يؤدي في نهاية المطاف الى زنزانة السجن وغيرها من الوسائل غير المشروعة أو الطرق الملتوية. وهذا كله جريا وراء المظاهر الخداعة والسراب التي لاتؤدي الا لعواقب وخيمة. وفي أمثالنا الشعبية ما يحضنا على التصرف بحكمة ومسئولية حتي نسلم من تلك العواقب (مدد رجيلك قدر لحافك)، فليكن تصرفنا وأعمالنا منسجمة مع امكانياتنا المادية بحيث لا نتصرف الا وفق حدودها ولا نتعدى الخطوط الحمراء التي وراءها الهلاك والدمار، وحتى لا نعض اصابع الندم حيث لا ينفع الندم. وليكن من سبقنا من العقلاء الحكماء قدوة لنا نتقفى آثاره ونقلد سلوكه حتي نسهل لشبابنا أعباء الزواج ونيسر الامور ونزيل كل العقبات التي تعترض سبيلهم في اكمال نصف دينهم. وليكن هذا ديدن المقتدرين أيضا رفقا بغيرهم من المعوزين متوسطي الحال الذين قدر لهم محدودية الرزق والدخل. ان خطورة الموقف تكمن في تبني ذاك الأسلوب في جميع مناحي حياتنا، ليس فقط في أمور الزواج والخوف من أن تجد تلك الجرثومة مجالا خصبا في جميع سلوكياتنا وتفسد علينا بالتالي حياتنا وتخرب وتدمر مستقبل عاداتنا وتقاليدنا السمحة التي يشيد بها الاعداء قبل الأصدقاء. [email protected] بقلم: الرشيد حميدة الظهران/السعودية