مدينة أيوا-الولاياتالمتحدةالأمريكية شاهد العالم كله على الفضائيات أداء رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني الفريق أول عبد الفتاح برهان التحية العسكرية للرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي مرَتان: مرة عند وصوله ومرة عند مغادرته. صُعِقت، كما أتوقع أن يكون سودانيون كُثر غيري قد صُعِقوا، لهذا السلوك المُشين. وذلك لسببين: أولهما: أنني كسوداني شعرت بالإهانة لأن من يشغل منصب رئيس دولتي مؤقتاَ تعامل مع الرئيس المصري ليس بصفته رئيس دولة زائر يقابل رئيس دولة مضيفة، بل كضابط يقابل ضابطاَ أعلى منه رتبة في القوات المسلحة لدولته الوطنية. ففي تقمصه لمهنته العسكرية ورتبته نسي رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني منصبه السياسي كرئيس لدولة ذات سيادة يزور رئيس دولة أجنبي، وحيّا الرئيس المصري بصفته العسكرية كضابط منضبط يحيّي ضابطاَ آخر برتبة أعلى: فهو فريق أول لذلك يجب عليه أداء التحية العسكرية للمشير الذي هو أعلى منه رتبة، بصرف النظر عن الانتماء الوطني لهذا المشير. وهنا تكمن المصيبة. يمكننا أن نستخلص لهذا السلوك المعيب معنيين: الأول، وله دلالاته الهامة بعلاقة العسكر بالسياسة، هو أن سعادة الفريق أول برهان يعتبر أن انتماءه لمهنته العسكرية ورتبته أهم وأقوى من منصبه السياسي الرفيع الذي ارتضاه طواعية وهو رئيس مؤقت لدولة ذات سيادة. فهو يفهم علاقته مع الرئيس المصري كعلاقة الضابط ذي الرتبة الأدنى بالضابط ذي الرتبة الأعلى بالتراتبية العسكرية المعروفة، وليس كرئيس دولة برئيس دولة أجنبية تحتل جزءَ من أراضي وطنه بقوة السلاح، وضابط عظيم منوط به حماية أرض وطنه من الاعتداء الأجنبي قبل أن يصبح رئيساَ مؤقتاَ لذلك الوطن. المعنى الثاني العميق، والأدهى والأمر والأخطر، هو تقديم فروض الولاء والطاعة للرئيس المصري بأداء التحية له من ضابط في الجيش لرئيس دولته الوطنية، تماماَ كما كان يؤدي الفريق أول برهان في السودان التحية للرئيس المخلوع المشيرعمر البشير كضابط في الجيش لرئيس دولته الوطنية. كلا المعنيان أحلاهما مر، وفيه إهانة وإساءة لجميع الشعب السوداني كشعب، وللدولة السودانية التي يتمشدق أعضاء المجلس العسكري الانتقالي بهيبتها، ويمرّغون بها التراب بسلوكهم. وإذا كان هناك ثمّة تفسير ثالث أكثر براءة، فقد غاب عني. من الواضح أن الفريق أول برهان لا يدرك أبعاد منصبه السياسي كقائم بأعمال رئيس الدولة السودانية ولا يستوعبها. وإذا كان ذلك كذلك، لما تصرف كعسكري عند لقائه الرئيس المصري ونسي منصبه السياسي الرفيع كرأس دولة، ولم يتصرف بموجبه وبما يقتضيه ذلك المنصب من متطلبات سلوكية في الفضاء الدولي والاقلبمي. هذه الحادثة دليل قاطع على عدم استيعاب العسكر لشؤون السياسة، إذ لا ينبغي لهم لأن مهمتهم، بحكم مهنتهم، هي الدفاع عن الوطن وحمايته من المعتدين الأجانب وصون أراضيه، وحماية الشعب من المعتدي، وليس حكم الوطن والشعب. فهذه المهمة، مهمة حكم الوطن وإدارة شؤون الناس، هي مهمة المدنيين. وبالواضح، فإن السياسة ليست من اختصاص العسكر. وفي الدول الصناعية المتقدمة سياسياَ وتنموياَ يأتمر العسكر وكل القوات النظامية بأمر السلطة المدنية. وما يحدث الآن من حشد للترسانة الحربية الأمريكية في مضيق هرمز، مثلاً، يحدث بأمر من رئيس مدني منتخب وليس بأمر من رئيس عسكري استلم السلطة بانقلاب عسكري. وهذا من أبجديات تأسيس الدولة الحديثة ومتطلباتها. لذلك يجب تسليم السلطة للمدنيين لإدارة شؤون البلاد في هذه الفترة الحرجة والمفصلية في تاريخ سوداننا المعاصر. ولا يمكن بعد كل التضحيات الجسام التي قدمها الشعب السوداني باستشهاد مئات الآلاف في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق بالابادة الجماعية والتطهير العرقي، ولجوء الملايين منهم ونزوحهم، واستشهاد المئات في الانتفاضات السابقة وفي ثورتنا الجبارة الحالية، وبعد الاطاحة برأس نظام الإخوان المسلمين الدكتاتوري العسكري، النظام الدموي الارهابي، نظام القتل والابادة الجماعية والقهر والفساد الذي سامنا الذل والهوان كما لم يسمنا المستعمر، أن نقبل بحكم عسكري جديد يستنسخ ذلك العهد. لهذا ننادي بضرورة تسليم السلطة للمدنيين لكي نبدأ ترميم ما تبقى من وطننا، وندشن عهد استقلال حقيقي، ونؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تتوقف فيها النزاعات المسلحة ويعم السلام، وتدور عجلة التنمية المتوقفة لعقود، ويتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات دون تفرقة من أي نوع. في هذه الدولة يقوم العسكر، كبقية أفراد الشعب، بدورهم الذي تدربوا عليه، ويؤدون مهنتهم المنوطة بهم، والتي أدوا القسم من أجلها، وهي حماية الوطن والمواطن من الأعداء والحفاظ على ترابه، وينأون عن السياسة ويتركوها للمدنيين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ////////////////