دعونا نسميها ثورة الإلهام .. وهي حقا كذلك .. فقد كان التوجس هو سيد الموقف في تلك الليلة التي سبقت صباح الثلاثين من يونيو .. كانت هناك محاذير الخروج أمام نظام إستعد بكل قوته لردع من يخرج على قانونه .. فيما كانت مجزرة القيادة والعنف الوحشي عالقة في الأذهان وحاضرة أمام الناس ... صحيح أنه كانت هناك تحذيرات من الغرب بعدم المس بهذه التظاهرات .. لكن من قال أن للضبع آمان .. جاء الصباح وبدأت حالة الترقب .. بدأ المشهد في الصباح وكأن هناك عصيانا مدنيا .. فالشوارع خالية والمحلات مغلقة .. وبدأ وكأن الثورة تدخل في إمتحان حقيقي لإسترداد روحها .. ثم ما أن إنتصف النهار حتى بدأت المواكب تترى في الشوارع .. في الخرطوم .. أمدرمان .. بحري ودخلت الأقاليم في الخط لتكمل اللوحة .. مع كل هذا المواكب لم تكن الرؤية قد إتضحت.. لكن مع تقدم النهار كانت الحشود البشرية قد فاض بها المكان .. إنها ساعة الإلهام .. الساعة التي أدرك فيها الشعب أن عليه أن يسترد روح ثورته التي أراد لها الأخرون أن تموت .. كان أعضاء المجلس العسكري وقتها لا يزالون منتشين بإنتصارهم المؤقت ومطمئنين بأن الأمور قد آلت لهم .. وأن فض الإعتصام قد كتب نهاية الثورة .. وما دروا أن الثورة في الوجدان وليست في المكان .. إستخف المجلس العسكري وحلفائه بقدرات الشعب مرة أخرى مثلما إستخف بها سلفهم ولم يستفيدوا من الدرس السابق .. لكن من شابه أباه فما ظلم ! تقدمت الجموع الحاشدة في مشهد خرافي عظيم وتحولت الشوارع إلى لوحة رائعة .. فكأنما أبيات نزار قد إنطبقت عليهم : مهما تأخروا فإنهم يأتون .. من حزننا الجميل ينبتون .. أشجار كبرياء .. ومن شقوق الصخر يولدون .. كان المشهد ملهما ورائعا .. وربما كان أصدق تعبير لردة الفعل عند الأخرين .. هو صوت تلك الفتاة التي كانت تصور تلك الحشود ولم تحتمل فإنتابتها حالة هستيرية .. كانت تصرخ وتصرخ ثم تزعرد ثم تعاود .. لم تستطع أن تعبر عن مكنوناتها إلا على ذلك النحو .. كان الأمر مفاجئا للجميع .. حتى (قحت) نفسها إضطرت في ظل تدفق الموجات البشرية المتلاطمة من أن تغير من خط مساراتها .. من منازل الشهداء إلى القصر .. كانت عواطف الجماهير عنيفة وجياشة .. فالجماهير لم يهن عليها أرواح الشهداء الذي قتلوا غيلة وغدرا .. الذين رميت إجسادهم في النيل.. ودماء الشباب التي سالت في الساحات وتعرض النساء لما لا يمكن أن يقدم عليه رجل سوي ! إذن عادت روح الثورة بقوة .. إستعاد الشعب ثقته بنفسه وبثورته .. ظلت الجماهير حتى الساعات الأخيرة بالليل تهتف بسقوط الطغمة الباقية ومدنية السلطة .. كان من أقوى المشاهد هو بلوغ الثوار إلى موقف شروني حيث كانت أقرب النقاط الى الوصول الى القصر .. أصرّت الجماهير على بلوغ مرادها وقاومت بقوة بطش القوى الأمنية .. ومع أن الترسانة الأمنية لم تمكنهم من الوصول إلا أنهم أسمعوا صوتهم لصاحب القصر .. فتذكرت وقتها أبيات (محجوب) رحمه الله : نغرد في زنازينك .. عصافيرا مجرحة بي سكاكينك .. نغني ونحن في أسرك .. وترجف وإنت في قصرك .. عندها بهت أعضاء المجلس الإنتقامي وأسقط في يدهم وبدأوا في الإتصالات لتغيير وجهة المظاهرات .. آآلآن ! لم تكتمل لوحة ذلك اليوم إلا بالحضور الطاغي لسودانيي الخارج الذي أبدعوا في تظاهراتهم وتجمعاتهم وتفاعلوا مع الداخل بشكل مذهل .. فكانت ردة الفعل في مواقع التواصل الإجتماعي على أبهى ما يكون .. وفاضت بتعليقات الثناء على الشعب السودانية وقدراته الإستثنائية في الصمود والتحدي ..أهدى مغني أمريكي أغنية للسودان حيّا فيها كوش العظيمة .. فيما أنشد فتيان عرب نشيد السلام الوطني السوداني في لفتة بارعة .. وكان هناك الكثير والكثير .. كان يوم السودان بحق .. إذن لم تضع تضحيات الشعب السوداني سدى فقد أصبح الآن السودان في عين الحدث .. يتابع العالم ثورته بإعجاب ويساندها بكل ما أوتي من قوة .. ما هو أهم الآن هو أن نجني ثمار هذا المد الجماهيري الرائع .. فقد آن الآوان لأن نتولى أمرنا بيدنا .. وكفي تسامحا مع هؤلاء فأمامهم خيارين لا ثالث لهما : إما أن يسلموا أو يسلموا فلا مجال بعد الآن للمناورة أو المساومة أو المماطلة .. الرسالة واضحة : سلموا السلطة إلى صنّاع الثورة وإختفوا عن المشهد تلاحقكم لعنة الجماهير .. عاش الشعب السوداني المعلم .. ملح الأرض وروحها . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.