ظل الفكر الاسلامي في العصر الحديث يبحث عن اجابة لاسئلة النهضة والتحديث والحداثة والمعاصرة. ووجد نفسه في موقع ردود الفعل والمفعول به وليس الفاعل، فالآخر هو من يحدد له كيف يكون ؟ لأن المسلمين رأوا انفسهم في مرآة الآخر حين استعمرهم فقاموا بمقارنة احوالهم مع أحوال الغرب والنصارى الذين تفوقوا على مسلمين عرف تاريخهم القديم المجد والريادة. لذلك تساءل بعضهم في هلع: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ؟ (الامير شكيب ارسلان) وتساءل آخرون في شفقة: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ابوالحسن علي الحسني الندوي) وغيرها من التساؤلات غير المباشرة. ومنذ ذلك الحين انطلقت حركات البحث الاسلامي عن مخرج وتعددت الافكار والمفاهيم التي تصف محاولات تجاوز التخلف واللحاق بالغرب والتفوق عليه، خاصة وان الاسلام عقيدة استعلاء – كما يقول سيد قطب. فهي عقيدة حسب قوله "أنها تشعر المسلمين بالتبعة الانسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة في هذه الارض للقطعان الفعالة، وهدايتها الى الدين القيم والطريق السوي واخراجها من الظلمات الى النور" (مقدمة كتاب الندوي، ص5). وجدت هذه الأمة العظيمة: كنتم خير أمة أخرجت للناس...، نفسها في مؤخرة سلم التقدم بين الأمم. ومن هنا اندفع المفكرون المسلمون والحركات السياسية الاسلامية في البحث عن سبيل للتقدم والنهضة من جديد. ومن نهاية القرن التاسع عشر امتلأت الساحة بنظريات وشعارات عن: الاصلاح، التجديد، الصحوة وأخيراً جاءت الوسطية والتي أصبحت فكرة الخلاص للكثيرين من المفكرين والكتاب والناشطين الاسلاميين. وامتلأت المكتبات بعناوين تؤكد الوسطية في كل ماهو اسلامي، بل هناك (الوسطية) (قناة اسلامية بغير مذهبية) سوف تنطلق قريباً (الاهرام 23/1/2009). وكان لابد ان تتعدد مدارس وتيارات (الوسطية) نفسها خاصة وان المفهوم لم يتم تحديده بدقة. ويمكن اعتبار الشيخ يوسف القرضاوي هو أول من طرح الفكرة بعمومية في كتابه (الصحوة الاسلامية بين الجمود والتطرف) (1982) وكتاب (الحلال والحرام) وراقت فكرة الوسطية للكثيرين فسعوا الى مأسسة المفهوم. يقول القرضاوي: (لهذا كان لزاماً على ورثة الانبياء من العلماء الذين يحملون علم النبوة، وميراث الرسالة، ينفون عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين: ان يتبنوا منهج الوسطية، ويبينوه للناس، ويدافعوا عنه، ويجلوا مزاياه، وهو ما تبناه (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) فقد وزعت على اعضائه: المعالم العشرين، التي كنت كتبتها للدلالة على منهج الوسطية في انعقاد الجمعية العامة الأولى التي عقدت في لندن في صيف 2004. (القرضاوي: كلمات في الوسطية الاسلامية ومعالمها، القاهرة، دار الشروق، 2008، ص7-38). وطلب منه في المكتب التنفيذي للاتحاد كتابه (الميثاق الاسلامي) للاتحاد، ورأى القرضاوي ان يكون مجسراً للفكر الوسطي والمنهج الوسطي الذي يدعو اليه. وتم اقرار ميثاق القرضاوي من المجلس التنفيذي ومجلس الأمناء. ويقول (وأمست فكرة الوسطية العادلة المتوازنة من المبادئ المتبناة من قبل علماء الأمة) (نفس المرجع السابق، ص38). لم تكن الساحة خالية للقرضاوي واتحاد علماء المسلمين، فقد دعا الرئيس الباكستاني برويز مشرف في مؤتمر القمة الاسلامية في ماليزيا عام 2004 الى ما أسماها (وسطية مستنيرة) هدفها: تجنب استخدام سياسة المواجهة او الاستسلام في التعامل مع الغرب، وتركز على سياسة التحديث والتعاون في تبادل المنافع من خلال الحوار وبناء على دعوته ودعوة الرئيس الايراني خاتمي الى (حوار الحضارات) فقد تم تشكيل لجنة من شخصيات إسلامية بارزة لاعداد استراتيجية وخطة عمل لتمكين الأمة الاسلامية في مواجهة التحديات التي تواجهها في القرن الحادي والعشرين) وفي إطار ما اطلعت عليه القمة والوسطية المستنيرة، تم اعلان ذلك في مؤتمر القمة الاستثنائي في مكةالمكرمة أواخر 2005. يرى أحد الباحثين ان الوسطية لغوياً هي وسط بين أمرين، وهي لم تغادر كثيراً فضاء الدلالة اللغوية، لذلك حدد كل شخص مسافة وسطه حسب مقاييسه الخاصة واسقط عليها مفهومه عن المصطلح. كانت النتيجة انقسام الوسطية الى وسطيات، مثل وسطية مستنيرة (وأخرى بضرورة التلازم او المفهوم – بحسب مصطلح أصول الفقه) (وسطية مظلمة) وثالثة ربما تكون (وسطية علمانية!) (عبدالرحمن الحاج، صحيفة الحياة، سبتمبر 2007). وفي السودان خضعت الوسطية لمثل هذه التجاذبات على الأقل على المستوى العملي، لو قصر الجانب النظري. فقد قام الشيخ يوسف الكودة بتأسيس حزب الوسط الاسلامي. وحين سئل: ما معنى حزب وسطي ؟ كان رده (الوسطية كما يقول ابن كثير هي الخيار والأجود، وقريش أوسط العرب، اي أفضلهم نسباً، والرسول (ص) وسط في قومه اي أشرفهم. ومن ذلك الصلاة الوسطى أفضل الصلوات ونحن وسط في المنهج، وسط في القول، وسط في الفعل (صحيفة السوداني، 6 ديسمبر 2006) ومن ناحية أخرى، يرى بعض المشائخ في تجربة الانقاذ الحالية نجاحاً للوسط الاسلامي المعتدل. يقول الشيخ سليمان عثمان محمد رئيس جامعة القرآن الكريم: (نجح الوسط الاسلامي المعتدل في تقديم قيادات وقدرات بشرية أنموذج، والذين يشهدون بانصاف يشهدون بنماذج متعددة، انا لا أريد ان أسمي مسميات لكن معرفتي الشخصية بمثل الدكتور عوض الجاز تجعلني أقدمه أنموذج للعالم الاسلامي قاطبة دلالة على نجاح التجربة الاسلامية في السودان في بناء قدرات بشرية وفكرية ومهنية (صحيفة الحياة السودانية، 21 يونيو 2004). يقدم السيد الصادق المهدي نفسه كداعية وزعيم للوسطية في السودان. وفي خطابه الأخير امام مؤتمر حزب الأمة السابع، يبشر بتعديل الدستور في عدد من الوجوه أهمها: (تحرير النصوص الاسلامية من اجتهاد المؤتمر الوطني الى اجتهاد الوسطية الاسلامية) (26 يناير 2009). والمهدي من الحضور الدائمين لمؤتمرات ولقاءات الوسطية الاسلامية. وفي 3 ديسمبر 2008 نظمت هيئة شئون الانصار حلقة نقاش حول الوسطية ودورها في نهضة الأمة. وكان حضور الحلقة وفد المنتدى العالمي للوسطية الزائر ولفيف من المفكرين والعلماء والاكاديميين. وطرح المهدي بعض النقاط التي تشكل في رأي – فهمه للوسطية الاسلامية – أولها ان شعار الاسلام قد عبأ الساحة العربية والاسلامية وغلب الشعارات الوضعية لاسباب منها: العناية الإلهية – التشوق للماضي المجيد – اخفاق البدائل الوضعية، وكملجأ ضد الظلم. ولكنه يرى ان الشعار الاسلامي لم يعد كافياً في حد ذاته. النقطة الثانية الموقف ضد الارهاب، وأخيراً نقص الديمقراطية (صحيفة أجراس الحرية 19 ديسمبر 2008). يصب هذا الموقف الجديد للمهدي يصب في خانة قلقه المعرفي. فقد لاحظت في كتابه: مستقبل الاسلام في السودان (اكتوبر 1983) انه لم يرد اي ذكر للوسطية الاسلامية. ولكنه في عام 2001 تحدث عن منهج وسط ولكنه استشهد بخيرالدين التونسي والطهطاوي، حيث دعوا للتوفيق بين التقدم الخلقي والروحي الاسلامي والتقدم المادي الاوروبي. واعتبر هذا التطلع العام جسده نهج الامام عبدالرحمن الصادق في السودان (راجع خطبة الجزيرة أبا، عيد الاضحى، مارس 2001). ورغم ان القلق المعرفي ضروري لتطور العقل والمعرفة، ولكن لابد ان يصل القلق الى موقف او (يقين) وقد يتجاوزه بعد مدة كافية للتأمل مجدداً وقد تظهر (حقيقة) جديدة. ولكن قلق السيد المهدي المعرفي والسياسي يكاد يكون مستداماً ومستمراً. ففي خطابه الأخير يظهر القلق السياسي والمعرفي جيداً في برنامجه الموعود بأنه: لن يعدم المرتد، ولن تقطع يد السارق ومحاربة الختان، والنقاب إهانة للمرأة.. الخ هذه ليست وسطية ولا أشواق السودانيين بعد عقود من الشمولية والتخلف بكل اشكاله والفقر والمهانة المتعددة الوجوه. هذه الآراء مجرد مباراة مع المتعصبين والظلاميين ببرنامج أقل ظلامية. أظن طموحات سودان القرن الحادي والعشرين أكبر من هذا بكثير والا فليبشر مربع التخلف والقهر بطول سلامه.