راجت على شكل واسع فى حوالي 2003 اخبارا تفيد بان النظام الحاكم فى السودان آنذاك قد قام بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم إبادة جماعية وجرائم حرب ابان النزاع المسلح فى إقليم دارفور ، وبمان أصابع الاتهام كانت تشير بحسب منظمات حقوقية الى توط قيادات عليا فى الدولة فى تلك الجرائم ، قامت تلك المنظمات مع جماعات ضغط أخرى بالدفع فى اتجاه تدويل تلك القضية حتى نجحت فى دفع مجلس حقوق الإنسان بتبنى قرارا بتكوين لجنة تقصى حقائق دولية والتى قامت بالفعل بزيارة اقليم دارفور وخلصت فى تقريرها الذى قدمته الى مجلس الأمن الدولى الى ان هنالك جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب قد تم ارتكابها فى الاقليم ، وبهذا فقد تمت اولى الخطوات على طريق تقرير مجلس الامن الدولى بان الحالة فى دارفور تمثل تهديدا للأمن والسلم الدوليين ومن ثم تم اتخاذ القرار رقم 1593 والذى تم بموجبه إحالة الوضع فى دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية تحت المادة 13 \ب من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية ومن بعدها شرعت المحكمة فى اجراءتها القانونية والتى أفضت فى نهاية الأمر الى صدور مذكرات توقيف فى حق الرئيس السودانى المعزول وعدد من كبار قادة الجيش وبعض قواد المليشيات التى تسمى بالجنجويد . لا شك ان طريقة اتخاذ القرارات داخل مجلس الامن الدولى من ناحية ووجود نص المادة 13\ب من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية من ناحية أخرى يقدح والى حد كبير فى مصداقية قرار الإحالة الذى صدر بموجب القرار 1593 وذلك ان طريقة التصويت لاتخاذ مثل تلك القرارات تعتمد الى حد كبير علي تغليب مصالح الدول الدائمة العضوية فى مجلس الامن وليس على إرساء مبادئ العدالة الجنائية الدولية . ولا شك فى ان النظام السابق لم يكن متابعا لمجريات الأحداث التى كانت تدور داخل أروقة منظمة حقوق الإنسان ومن بعدها مجلس الأمن الدولى ، حيث ان تلك الإحداث كان يقوم بصناعتها اناس يعتمدون على إرادة الدول الخمس الكبرى فى تمرير القرار بالاحالة داخل مجلس الامن الدولى ولو كان واحدا فقط من الاعضاء الدائمين فى مجلس الامن على قناعة سياسية من عدم جدوى إحالة النزاع لما تمت تلك الاحالة والقناعة السياسية هذه يصنعها النظام فى السودان على مستوى التحالفات الإقليمية والدولية ، كما تصنعها لغة تبادل المصالح . مع كل هذا فان الوضع قد استقر تماما على ان الرئيس السودانى ومن معه قد تم وضعهم كمتهمين امام المحكمة وصدرت فى حقهم مذكرات توقيف لا سبيل الى الغاءها ابدا الا بامتثال اولائك المتهمون الى القضاء للقيام بالمحاكمة العادلة لهم. دار نقاش كثيف حول مدى إمكانية تسليم الرئيس المعزول عمر البشير للمحكمة الجنائية الجنائية الدولية فى ظل عدم توقيع السودان على النظام ميثاق روما المنشئ للمحكمة ، ومدى امكانية محاكمته أمام القضاء السوداني حول الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التى تم ارتكابها فى اقليم دارفور .
من المعلوم ان الاتفاقيات الدولية جميعا لا تسرى الا فى مواجهة الإطراف الموقعين عليها شأنها فى ذلك شأن كافة العقود الأخرى سواء على المستوى الوطنى او المستوى الدولى ، وانطلاقا من هذا المفهوم فان السودان لا تسرى فى حقه اتفاقية روما لسنة 1998م التى تم بموجبها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وبالتالي فانه لا اختصاص لتلك المحكمة فى محاكمة الأفراد السودانيين . ولكن وكما ذكرنا آنفا فان الوضع فى دارفور قد صدر بشأنه قرارا من مجلس الأمن الدولى بالرقم 1593م وهو القرار الذى قرران الوضع فى دارفور يمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين وبالتالي تمت إحالته الى المحكمة الجنائية الدولية ، عليه فان قبول المحكمة الجنائية الدولية للدعوى فى مواجهة النظام فى السودان لم يستند على عضوية السودان فى المحكمة الجنائية الدولية وإنما استند على نظام الإحالة من مجلس الأمن الى المحكمة بموجب نص المادة 13\ب وعليه أيضا تكون المحكمة الجنائية الدولية ذات اختصاص اصيل بنظر الدعوى فى مواجهة الرئيس المعزول وبقية المتهمين وليس لهم بعد ذلك الا القيام بتنفيذ أوامر التوقيف والمثول أمام المحكمة للدفاع عن أنفسهم فى مواجهة تلك الاتهامات. ولا أساس من القانون للذين يقولون بعدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الرئيس المعزول ، ولا أساس من القانون للذين يقولون بان المحكمة الجنائية الدولية هى آداة سياسية او انها انها تلفظ أنفاسها الأخيرة فى إشارة الى انسحاب بعض الدول منها .فالمحكمة الجنائية الدولية ما زالت قائمة قانونا ، وما زالت تلاحق الكثير من القضايا التى تختص بنظرها . فيما يتعلق بمدى إمكانية محاكمة الرئيس المعزول امام القضاء الوطني فى السودان عن الجرائم التى تم ارتكابها فى دارفور فى الأعوام من 2003 الى 2005م فانه من الضروري الإشارة الى ان اختصاص المحكمة الجنائية الدولية هو اختصاص تكاملى مع القضاء الوطني ، اى ان المحكمة الجنائية الدولية لا يبدأ اختصاصها الى من حيث ينتهى اختصاص القضاء الوطن دون محاكمة سواء عن عدم قدرة او عدم رغبة ولهذا فان الأصل هو ان يقوم القضاء الوطنى فى السودان بمحاكمة الرئيس المعزول ومن معه عن الجرائم التى تم ارتكابها فى دارفور اذا ما وجهت له اتهامات رسمية بذلك ، وبما ان النظام فى السودان آنذاك تجاهل هذا الأمر او انه لم يتخذ الخطوات اللازمة فى سبيل فتح تحقيق جنائي وإحالة المتهمين الى القضاء ، إضافة ان تلك الجرائم لم تتدخل فى القانون الجنائي السوداني فى الا فى عام 2007م وبما ان هنالك قاعدة قانونية تنص على عدم رجعية النصوص الجنائية الا ما كان منها أصلح للمتهم فان القضاء السوداني لم يستطع محاكمة المتهمين بارتكاب تلك الجرائم . اذن فما هو السبيل للخروج من تلك المعضلة اذا لم يرغب النظام الحالى فى تسليم الرئيس المعزول الى المحكمة الجنائية الدولية من جهة ، ولا يستطيع القضاء السودانى محاكمته على الجرائم المرتكبة فى دارفور لعدم رجعية النصوص الجنائية من جهة اخرى.. كان على مر التاريخ اناس يقومون بانتهاك قواعد القانون الدولى الانسانى اثناء الحروب والنزاعات المسلحة وكان فقهاء القانون ىالدولى يقومون بملاحقة هؤلاء الناس عبر العديد من الآليات القضائية كما حدث إنشاء فى المحاكم الجنائية الدولية الخاصة مثل نورمبيرغ وطوكيو ورواندا ويوغسلافيا السابقة ، وكما حدث أيضا فى تكوين المحاكم المختلطة كما حدث فى سيراليون وتيمور الشرقية ، بالنظر الى ان سبب وضع ملف دارفور امام المحكمة الجنائية الدولية هو مجلس الأمن الدولى وبما ان هذا المجلس له من الصلاحيات ما يمكنه من إنشاء محكمة دولية خاصة او محكمة مختلطة تتكون من عنصر دولى واخر محلى فانه من الممكن الحديث عن إجراء نقاشات تفضى الى ان يقوم مجلس الأمن بإلغاء قرار الإحالة رقم 1593 واستبداله بقرار أخر يتم بموجبه إنشاء محكمة جنائية مختلطة تتكون من عنصر محلى وأخر دولى وتعمل داخل منظومة القضاء الوطنى مع إجراء التعديلات اللازمة والتي تمكن المحكمة من محاكمة المتهمين بالجرائم الواردة فى لائحة اتهام المحكمة الجنائية الدولية . . على كل فان المحكمة الجنائية الدولية والى هذه اللحظة قائمة ومختصة قانونا بمحاكمة الرئيس المعزول وبقية المتهمين . كما انه ليس من الممكن محاكمة الرئيس المعزول أمام القضاء السوداني نسبة لان النصوص الموجودة فى القانون الجنائي والتى تجرم الأفعال المكونة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية قد تم إدخالها فى القانون الجنائي بعد تاريخ ارتكاب تلك الجرائم . فهل يقوم النظام الحالى بتسليم الرئيس المعزول عمر البشير الى محكمة الجنايات الدولية لمواجهة لائحة الاتهامات المنسوبة اليهم ؟ ام انها ستقوم بفتح تحقيق امام القضاء الوطني فى السودان بشأن تلك الاتهمات ؟ ام انها ستقوم بإجراء تفاهمات مع المجتمع الدولى فى سبيل إنشاء محكمة مختلطة لتفادى تسليم البشير من ناحية ، وإرضاء المجتمع الدولى من ناحية اخرى .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.