عندَ إنشاء المحكمة الجنائيّة الدوليّة عام 1998م في المؤتمر الدولي في روما، كان هناك إقرارا صريحا بعدم الإفلات من العقاب في الجرائم الأكثر خطورة المُرتكبة في العالم- ألا وهي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة. ولسد أي مبررات أمام من يتمسكون بالسيادة الوطنية، فإن ميثاق (روما) جاء بفكرة التكامل -أي أن المحكمة الجنائية الدولية هي مكملة للمحاكم الوطنية لكن بشروط معينة. المادة (1) تنشأ بهذا محكمة جنائية دولية (" المحكمة ")، وتكون المحكمة هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي، وذلك على النحو المشار إليه في هذا النظام الأساسي، وتكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية، ويخضع اختصاص المحكمة وأسلوب عملها لأحكام هذا النظام الأساسي. ويُعزَى اعتمادُ النظام المُكمّل هذا إلى أربعة أسباب على الأقل، فهو: 1/ يحمي المتّهم في حال تمت مقاضاته في المحاكم الوطنيّة. 2/ ويحترم السيادة الوطنيّة لجهة مُمارسة الاختصاص القضائيّ الجنائيّ الوطنيّ. 3/ وقد يؤدّي إلى تحقيق فعاليّة أفضلَ وأحسن، إذ لا يسعُ المحكمة الجنائيّة الدوليّة أن تنظرَ في قضايا الجرائم الخطيرة كافة. 4/ ويضعُ العبء على عاتق الدّول كي تقومَ بواجبها تحت ظلّ القوانين الوطنيّة والدوليّة على حدّ سواء فتُجري التحقيقات اللازمة وتبتّ في الجرائم الخطيرة المزعومة (وبالتالي، لا يتعلّق النظام المُكمّل بمسألة الفعاليّة وحسب، بل بكلٍّ من القانون والسياسة والأخلاقيات العامّة أيضاً). إذن كما هو موضح أعلاه، فإن ميثاق روما قد أعطى المحاكم الوطنية الحق في محاكمة الجناة المرتكبين للجرائم الخطرة التي أنشئت المحكمة الجنائية الدولية من أجلها، إعمالاً بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، فعليه ليس هناك أي مبرر للتناقضات التي تعيشها الحكومة الإنتقالية في السودان حول محاكمة الرئيس المعزول عمر البشير في محاكمها أو إحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية. قبل التوقيع على ميثاقيّ -الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية. سئل رئيس المجلس العسكري الإنتقالي الحاكم آنذاك الفريق عبدالفتاح البرهان عما إذا كان مجلسه سيسلم المخلوع عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، فأجاب قائلاً: إن هذا الأمر متروك للحكومة المدنية الإنتقالية القادمة. وبعد تشكيل الحكومة المدنية العسكرية الإنتقالية، سئل رئيس الوزراء السيد عبدالله حمدوك ذات السؤال أعلاه، ما إذا ستسلم حكومته الرئيس المخلوع عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، فأعطى السيد حمدوك إجابة لم تقنع الشارع الثائر، خاصةً أهالي ضحايا المخلوع. وفي الحوارات والنقاشات التلفزيونية والصحفية مع قوى إعلان الحرية والتغيير الممثلة للثورة السودانية، دائماً ما كان ممثلوها يعطون إجابات واضحة حول ضرورة تسليم عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكنهم لم يطلبوا من حكومتهم مباشرة إجراءات تسليم المخلوع للجنائية. لكن الإجابة الأكثر غرابة جاءت من رئيسة القضاء السوداني، نعمات عبد الله محمد خير، التي اعتبرت، أن إحالة الرئيس المعزول عمر البشير، إلى المحكمة الجنائية الدولية، "ليس من اختصاص السلطة القضائية" في البلاد. جاء ذلك في ردّها على تساؤل السفير البريطاني لدى السودان، عرفان صديق، خلال لقاء جمعهما بمقر السلطة القضائية بالخرطوم، وفق وكالة أنباء السودان الرسمية.. إذ ينصّ نظام روما الأساسي في مادّته الأولى على أنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة مكمّلة للاختصاصات القضائية الجنائيّة الوطنية. وقالت نعمات عبد الله محمد خير، إن القرار من اختصاص سلطات أخرى (لم تحددها)، وإن السلطة القضائية بالسودان جاهزة للفصل في الدعاوى التي تحال إليها وفق البينِّات. وأوضحت أن القضاء السوداني قادر على الفصل في كل الدعاوى، ويضم كوادر مؤهلة، ودرجات التقاضي تكفل لكل متقاضِ حقه. إجابة غريبة ومتناقضة في ذات الوقت. أما غرابتها، فكوّن هذا الكلام يصدر من رئيسة القضاء التي تم تعيينها لكفاءتها وقدرتها على التعامل مع مثل هذه القضايا بشفافية ومسؤولية. أما التناقض، ففي قولها أن القضاء السوداني قادر على الفصل في كل الدعاوى، ويضم كوادر مؤهلة، ودرجات التقاضي تكفل لكل متقاضِ حقه، بينما في وقتٍ سابق قالت إن قرار إحالة البشير إلى الجنائية الدولية ليس من اختصاص القضاء السوداني! إذن يبدو من السرد أعلاه أن الجميع في السودان يتهرب من المسؤولية، ليس فقط من موضوع إحالة وتسليم المخلوع عمر البشير للجنائية الدولية، إنما من ملفات كثيرة جدا هامة.. فهل هذا هو التغيير الذي طالب به السودانيين ودفعوا ثمنا باهظا؟ إذا لم يعد بمقدور الحكومة الإنتقالية محاكمة المخلوع في محاكمها الوطنية على التهم الموجهة إليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، عليها أن تقرَّ وتعترف بالفشل في هذا الملف، وتعلن على الملأ للشعوب السودانية أسباب هذا الفشل لأن الشفافية مطلوبة في زمن الثورة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.