هذه المجموعة للحكايات الشعبية وراءها حكاية أخرى تؤكد استمرارية الحكاية الشعبية كجنس فولكلوري وتؤكد كذلك الشغف بالحكاية الشعبية، ذلك مما أثار لدى الكثير من الأسئلة بالنسبة لي كشخص يعمل في الحقل الأكاديمي وتخصص في توظيف الفولكلور بمختلف أجناسه في الإبداع المكتوب، وأطرف ما في الأمر أن عدة أجيال عملت على رواية وجمع هذه الحكايات، بدءاً برأس الرمح في المشروع كله وهو الابن عادل سيد أحمد الذي لا يزال في شرخ الشباب، حفظه الله ورعاه، ثُم محمد سيد أحمد وهو والد عادل وكذلك عمات عادل، وأشار عادل إلى أن هذه الحكايات هي أصلاً جمعت من جدتهم التي توفاها الله قبل سنوات خلت وهي الحاجة (بت نعمي)، ثم يأتي دور الفُولكلوري واللغوي عباس الحاج الذي اطلع على المجموعة ودقَّق وحرَّر اللغة فيها، وعبر عباس الحاج وصلتني هذه المجموعة إذ قام مشكوراً بتعريف الكاتب عادل سيد أحمد على شخصي، ومن ثم قدر لي أن ألعب دوراً كم سررت به وأعتز به كثيراً في إعداد هذه المجموعة. ولا بد من الإشارة إلى أن أسرة عادل سيد أحمد بأطرافها المختلفة تحمل جينات الولع والشغف بالحكاية الشعبية، إذ حظيت قبل سنوات خلت بالتعرف على الراوية الأساسية (بت نُعمي) عبر ابنها الفولكلوري من منازلهم محجوب كرار (رحمهما الله)، وتوفر لي من خلال علاقتي بهذا الفولكلوري العتيد مجموعة طيبة من أحاجي الشايقية، توفر على جمعها كرار بدأبه ومثابرته في جمع التراث خاصة وقد حظي براوية من الطراز الأول هي والدته بت نِعمي. وكنا قبل سنوات خلت مع الأخوانشاموق والأستاذة سعاد أرملة الراحل مع آخرين عملنا على جمع تراث الراحل بغرض طباعته، وحرصت كثيراً على طباعة مجموعة الأحاجي، لكن من أسف لم نوفق وما زال الأمل كبيراً في طباعة هذه المجموعة وفاء واحتفاء بذكرى هذا الفولكلوري الكبير، ونأمل أن نوفق في ذلك. وقد أعجبتُ أيما إعجاب بدأبِ الأبن عادل سيد أحمد في جمع هذه الحكايات وحرصه على إعدادها للطباعة، ولاحظت انتباهه لضرورة توثيق هذه الحكايات بالصورة التي رويت بها من قبل الرواة وهم عماته ووالده -حسب ما ذكر لي- هذه لمحة لا تخلو من الذكاء والفطنة، فالحرص على اللغة التي تروى بها الحكاية هو حرص على العامية كما يستخدمها الناس في السودان بمختلف إثنياتهم وأعراقهم، ولا نحتاج للإشارة للتنوع والتعدد الثر الذي تتصف به العامية السودانية أو بالأحرى العاميات السودانية، الأمر الذي وثقه بعمق اللغوي النحرير عون الشريف قاسم في مؤلفه الموسوعي قاموس اللهجة العامية في السودان الذي صدر في أكثر من طبعة، وتأتي عامية الشايقية بعذوبتها التي تميزها على رأس هذه العاميات، أضف لهذا أن لغة الراوي تعكس لنا ثقافته وتجربته، الأمر الذي يبدو واضحاً في لغة أو قل أسلوب الرواة الذين سردوا هذه الحكايات ولغة أو أسلوب الأجيال السابقة خاصة جيل (بت نعمي)، ويبدو هذا واضحاً في استخدام الجيل الشاب من الرواة الكثير من المصطلحات العصرية، وهذا باب لدراسة شيقة حول لغة الحكاية الشعبية، وقد انتبه الابن عادل لعراقة الحكاية الشعبية وحيويتها وهذا ما أشار إليه في مقدمته قائلاً "كتبت أول ما كتبت في هذه المجموعة أحجية (أم كيشونة) على سبيل تقديم شيء جديد بطرق باب قديم أكلته الأرضة... وسرعان ما وجدت مبادرتي في توثيق هذه الأحجية الشائقة استحسان الأصدقاء بعد أن أتحتها لهم في الوسائط الحديثة من فيسبوك وواتساب". في واقع الأمر أنه ليس باب قديم أكلته الأرضة ولكنه باب سنط على درجة من القوة والمتانة. إن هذه المجموعة ستكون إضافة بلا شك للمجموعات السابقة للحكايات الشعبية والتي بادر بها الرواد من لدن عبدالله الطيب الذي جمع العديد من الحكايات من جدته، وحرص على نثرها لتلاميذ المدارس بغرض شحذ أذهانهم وتوسيع مداركهم، على حد قوله. وظلت هذه المجموعة تصدر من حين لآخر تحت عنوان الأحاجي السودانية وكان أخرها الطبعة الصادرة عام 2008م، نشير كذلك إلى دراسة الأكاديمي سيد حامد حريز الذي أعد أطروحة حول القصص الشعبي عند الجعليين صدرت فيما بعد في كتاب اشتمل على الكثير من الحكايات. ونشير كذلك إلى المجموعة التي أعدها الفولكلوري أحمد المعتصم التي صدرت تحت عنوان أحاجي الرباطاب، وأخر المجموعات الصادرة هي مجموعة أحمد الشاهي ومور والتي جمعها من طلاب قسم الأنثروبولوجيا في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم في نهاية ستينات القرن الماضي، وقد صدرت هذه المجموعة عن مركز عبدالكريم ميرغني تحت عنوان "حكمة من النيل". إن تجربة الابن عادل سيد أحمد بما فيها من جرأة وذكاء سيكون لها أثرها في دراسات الفولكلور السوداني، فعلى عكس ما كان مفهوماً وشائعاً من قبل لقد أكدت تجربة الابن عادل سيد أحمد وخلفه أسرته الكريمة إن الحكاية الشعبية جنس فولكلوري لن يموت، إذ ظن الكثيرون خطأ إن الفولكلور خاصة الحكاية الشعبية ستموت وتتلاشى أمام جحافل التقدم، خاصة الثورة الرقمية وأجهزتها الجبارة، ستظل الحكاية الشعبية تحتفظ بكل سحرها وألقها وعذوبتها مهما تقادم الزمن، ومن ينكر هذا الأمر عليه التأمل في تجربة توثيق وجمع هذه المجموعة التي بادر بها ابننا عادل سيد أحمد ثم تضافر معه آخرون، وكانت حصيلة كل ذلك مجموعة ثرةً توفر للدارس والباحث في الفولكلور والأدب واللغة مادة على درجة من الخصوبة. ولا ننسى في ختام هذه الكلمة أن نشير إلى الفائدة الجمة لهذه المجموعة عندما تصل أيدي: الأمهات والأباء والمدرسينويقرؤونهاللأطفال والتلاميذ بكل المتعة والإثارة ويتعلمون من هذه الحكايات الكثير. الخرطوم 10 أكتوبر 2017م. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.