كانت خيراتَ الغابةِ العَمِيمة، في أزمانٍ غابرةٍ يحنُّ إليها المُسنين، قبل أن يصيب قوامَها الأذي، ويُمسِكُ بتَلابيبِها المَحَل، الذي أحالَ سعدَها نحساً، كانت تلك الخيرات مثارُ إعجابٍ وإلهامٍ وغيرةٍ لمواطني الغابات المُجاورة أو القريبة، العَدُو منها والصَّلِيح، وكانت النباتاتُ فيها تزهرُ وتفيضُ ندىً، وتطرح ثِمَار، يوميّا، وعلى مدار العام. وكان كبيرُ النَّحلِ وزيراً لشُئُون الصناعةِ في الغابة، وممثلاً، عن جدارة، لوزارتِهِ في مجلس شئون الإنتاج والتوزيع التابع للعرين... ولم تكن همته العالية ونشاطه الدؤوب هما فقط ما أهلاهُ لهذا الدور المفصلي والمنصب الرفيع، وإنما ثنَّتهُ أمانته أيضاً، رغم إنَّ الأمانة في غابة السَّعد لم تكن ميزة تُذكر حتى ذلك الوقت، لإتِّصَاف أغلب فصائل الحيوانات بها، والتحلِّي بقيمٍ أخلاقيّةٍ راقية أخري كانت أسمى وأرفع. وضرب (كبيرُ النَّحلِ) مثلاً بتوظفه لإنجازاتِ بني جلدته، فأنشأء مصنعاً للعسل الصَّافي، وسط مزارع البرسيم،وحدائق الزهور المونعة المنتشرة في المنطقة الشرقيّة من الغابة. وألهم نجاح مصنع العسل الأبقار وعجولها، فأنشأت هي الأخرى وبالعون الذاتي، مصانعاً صغيرةً للأجبان والزبادي ومنتجات أخرى من الألبان، كان من ضمنها السمن البلدي عالي النقاء، الذي إقتات عليه مؤخراً الأسدُ المَمْكُون، قبل التحولات النباتية التي طرأت على عاداته الغذائيّة، وحرمته مما كان يحب ويشتهي. والحالُ كهذا، فقد قامت مصانعٌ أخرى تحدُوها وتصنع نجاحها، روحُ المنافسة العالية، والشريفة بين عددٍ لا يُستهان به من الفصائل المنتجة من حيوانات الغابة، ورَكَّزَت تلك المصانع الفتيَّة بشكلٍ رئيسي على النشاط التحويلي للمُنتجات الزراعية. ونجحت تلك المصانع، فعلاً، في أنتاج الزيوت وتعليب الفواكة والخضروات، ودخلت مجالات تصدير الأسماك، والجُلُود لغاباتِ الأقليم والغاباتِ المُجَاورة. وفاقت القرود المنهمكة في أعمال الزراعة، فصائل الحيوانات المنتجة الأخرى، فزرعت المُوز، والذُرة والسمسم، وأصناف أخرى عديدة من الخضروات، واشتركت مع آخرين وساهمت بجهدٍ مقدَّر في حصادِ ثمار باسقات الأشجار من مانجو، وزونيا، وثمار البساتين. وافتتحت في غابة السعد مصانع أخري، منها معامل انتاج الأسمنت في سفوح الجبال، على الحدود الشمالية والغربية للغابة، وأبلت التيران والجاموس والأحصنة بلاءً حسناً وتفانت في جعل كل ذلك ممكناً. كما زرعت القرود والزرازير، بموجب شراكات ذكيّة، زرعت القطن والفول والبصل، وبعض الخضروات، وبكميات ولأغراض تجارية، في حوّاشات ذات مساحات صغيرة ومتوسطة، شكلت كلها مجتمعة، وبنت المشرُوع الزراعي المقام على حافة المستنقعات، والمستفيد، عن طريق الري الإنسيابي، مِن المياه الجارية لأسفل من ترع البُحيرة المشادة عند منبع النهر. وأسمت الحيوانات فيما بينها ذلك المشروع الكبير ب(مشروع دلتا الغابة)، على سبيل التبرُّك التفاؤل بالخيرٍ الذي وجدته. وسادت روحٌ من الحرصِ والعزمِ على أن تكُون الحيواناتُ أسرةً منتجةً واحدة، وأن يتم توزيع تلك الخيرات على الجميع وعلى أساس تعاونِي... وحرصوا كلهم على ابعادِ القطط السمينة، والكلاب عن هذا النشاط الجماعي الخيري. وقد أوكلت أغلب المهام لفصائل من الطيور قبل هجرتها. ولكن رغماً عن ذلك الحرص على ابعاد كلاب العرين، وبإنتقال سلس لفساد اللبؤة ومساعديها، نحو القواعد، هابطاً لأسفل بوريقاتٍ كانت تحمل بصمة الأسد تارةً وتوقيع اللبؤة تارات، أو بالعدم يمهرها القط الدهين، أوكلاب العرين. وكانت تلك الهبات تحابي هذا الحيوان أوذاك متجاوزةً الأطر التضامنية لمؤسسات التعاون، وانهارت القيم وغابت الضوابط التي تحرس تلك المؤسسات، وتضمن استمرارها. ولما تأكدت الحيوانات من خراب تعاونياتها، وتمكُّن سوس القذارة والمحسوبيّة من أوصال الجمعيات الخيرية، شلَّعتها غير نادمة، وشالت جميها من بقاياها شليّة، وهكذا، تفرَّق دمُ النشاط الحيواني الخيري والتعاوني بين أفعايل الفصائل. وأدرك كبيرُ النملِ وزملائه موات هذا النشاط الجميل الخيِّر، فبكى حتَّى ابتلت قُرُُون استشعاره، ودعا من توسم فيهم خيرا لمناقشة إمكانات بعث التعاون في القاءات الصباحيّة بساحة العرين... ولكن خذلته الحيوانات التي أبدت استعداداً للمناقشة والنقد، حسبما وعدته في الأمس، خذلته بالصمت ودفن الرؤوس حين جدَّ الجِدُّ وآنَ أوانُ الكَلام. ومن يومِها، عقدَ النملُ العزمَ على العمل مع مُنفرداً مع أبناء فصيلته، إينما وجدت، والبناء بصمتٍ دُونَ بهرجٍ أو شَوْشَرة بعيداً عن الأضواء... وثابرَ على عزمه بجدٍ أكيدٍ، وعزيمةٍ لا تلين. وكانت أبرز المهن التي امتهنها الشغيلة من أبناء الفصيلة المتفانية، هي مهنة الكلّات في موانئ المستنقعات الكائنة في مداخل ومخارج البُحيرة، أو في صوامِع الغلال، أو في مَصانع الحُبوب الزيتية، ومنتجاتها العديدة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.