عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الاقتصاد ولارتباطه المباشر باساسيات حياة المواطن، اصبح وكانه جوهر ازمة البلاد والصخرة التي تتكسر عندها كل الحلول المطروحة. وهو ما يطرح عدة اسئلة، هل مشكلة الاقتصاد السوداني ليس لها حل؟ ام لها حل ولكن لا يوجد من يستوعبها ويضع لها المعالجات الجذرية (خبراء اقتصاد وطنيون)؟ ام الخبراء وكذلك الحلول موجودة ولكن لا توجد ارادة سياسية، وبالاصح قدرة علي تنفيذ الحلول الجذرية؟ وذلك قد يكون لاسباب موضوعية، تتعلق من جانب بهشاشة الاوضاع الاقتصادية التي يرزح تحتها المواطنون، مثال لذلك رفع الدعم هو قرار اقتصادي صحيح بامتياز، ولكنه كعملية جراحية قاسية عاقبته كارثية علي احوال المواطنين الفقراء وهم الغالبية. وما زاد الطين بلة ان الحكومة المفترض عليها اتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة، هي حكومة ثورة (عاطفة عاصفة) من طابعها رفع سقف الطموحات لحدود غير واقعية. ومن جانب آخر تتعلق بالتسوية السياسية الحاكمة للفترة الانتقالية، التي منحت المكون العسكري مساحة واسعة للسيطرة المالية، سواء بالانفاق البذخي علي مكوناته او من خلال سيطرته علي كثير من الاذرع الاقتصادية، وكذلك حمايته لحواضن اقتصادية اسلاموية! تعمل جميعها علي تجنيب الاموال، كتشوه اقتصادي يقذف بكل المعالجات، بل حتي المنح والقروض المتوقعة الي بئر الفساد! اي بروز طبقية اسلاموعسكوجودية بواجهات مخادعة. بمعني، الخطر الحقيقي الذي يجب علي الدولة بكل مواردها وسياساتها مواجهته، هو غول الفقر والمرض والجهل. وتاليا ليس هنالك خطر خارجي يبرر كل هذا الصرف علي المكونات العسكرية! بل الخطر ان وجد فهو طابور الاسلامويين المتغلغل داخل اجهزة الجيش والامن والشرطة بل وحتي الدعم السريع! وكذلك اطماع المكون العسكري في السيطرة علي السلطة، وهذا غير سيطرة الراسمالية الاسلاموية علي الاقتصاد ككل. والسؤال الذي يفرض نفسه والحال هذه، كيف لدولة اقتصادها منهار، ان تقوي علي مواجهة اعداء خارجيين؟ ولماذا يحاربها الاعداء اصلا وهي علي هذه الحالة التي يرثي لها، وفي امكانهم تحقيق اغراضهم باقل كلفة؟ لكل ذلك تصبح اول خطوة لتقوية الجبهة الداخلية، هي توفير اسباب النهضة الاقتصادية، وهو طريق لا يمر إلا عبر كبح جماح الشهية العسكرية والزامها بادوارها الدفاعية. والخلاصة، نحن امام وزارة مالية ليس لها سيطرة علي الاموال فقط، ولكنها كثيرا ما تلجأ لاستجدائها من مكونات الدولة الغنية/القوية، او بالاستجابة لابتزازات الراسمالية الاسلاموية الطفيلية المتحكمة في الاقتصاد، سواء كرموز ومؤسسات او الية عمل وممارسات (تجارة العملة والتهريب والاحتكار نموذجا). ولكن ما يضئ هذا المشهد القاتم، ان هنالك دائما فرصة للحول. واولها، ضغوطات المشكلة الاقتصادية هي نفسها اكبر محفز علي معالجتها. وثانيا، تنظيم التفكير في المشلكة (دراسات وحلول علمية) عبر التنسيق ما بين وزارة المالية وجموع الخبراء الاقتصاديين. وهم غير انهم كثر، إلا ان لديهم رغبة اكيدة في الخروج بالبلاد من هذا النفق المظلم. ولكن هذا لا يمنع الاستعانة بخبرات من كل مكان وتجارب دول مشابهة لاوضاع راهننا الانتقالي. ثالثا، توافر الموارد الاقتصادية وتعدد انشطتها. رابعا، هنالك بعد يتعلق بمدي استعداد الحكومة لمكاشفة الراي العام بحقيقة الاوضاع الاقتصادية الكارثية، والتضحيات المطلوبة، حتي يتم الوصول لبر الامان. واقصر طريق لكسب ثقة الجمهور المتراجعة بحكومة الثورة، هو الصراحة والوضوح والتقشف من جانب المسؤولين (مسؤولية من غير امتيازات لا اقتصادية ولا اجتماعية كاقل ما يقدم امام تضحيات الثوار، يعني لا سفريات فخمة ولا تشريفات وبروتكولات في الفارغة والمليانة، وهي من بدع الكيزان التي يجب لفظها). خامسا، صحيح ان معالجة وضعية المكون العسكري بحالته الرهنة معقدة، ولكن يمكن بدل الصرف عليه من دون عائد (عطالة مسلحة)، توظيفه في مشاريع التنمية والبني التحتية، وتسخير امكاناته الصناعية لانتاج الالات الزراعية وسلاح نقله لنقل المنتجات والبضائع وحصته من الوقود للمركبات العامة. لان هكذا عمل يقربهم من الحياة المدنية، ومن ثم يسمح بدمج الكثير منهم لاحقا فيها، مما يسهل هيكلة هذه المؤسسات العسكرية من دون كلفة عالية، علي ان تكون نفس هذه القوات كاحتياطات تستدعي عند الحاجة. سادسا، موارد الكيزان في الداخل ليست بالساهل، وكل ما تحتاجه الضغط عليهم ومحاصرتهم قانونيا لاستخلاصها منهم وارجاعها لخزينة الدولة، وهذا يشمل ضمن ما يشمل ما يسمي شركات حكومية. لانه ببساطة هل يعقل ان فرد كمامون حميدة يمتلك كل هذه الامبراطورية المالية في هذه الفترة الوجيزة، وهي نفس الفترة التي تقلد فيها وزارة ولائية، بل وذات صلة لصيقة باستثماراته؟! وعموما، بنظرة سريعة علي عينة الراسمالية التي صعدت في فترة الانقاذ، ومن دون مردود اقتصادي حقيقي، تتكشف المسألة. سابعا، تفعيل قوانين اقتصادية حقيقية وفرص استثمار واقعية، هي نفسها كفيلة بمحاربة الانشطة الطفيلية التي تسيطر علي اقتصاد الدولة الآن. سابعا، علي الدولة ان تسيطر علي الاقتصاد في هذه الفترة حتي تعالج فوضي سياسية التحرير الاقتصادي الانقاذية، مع منح الاستثمارات الخاصة الجادة (المنتجة) مساحة من حرية الحركة. والسؤال هل الفترة الانتقالية هي فترة معالجة اسعافية للاقتصاد، وتاليا محكومة بسقوفات زمنية واحتياجات ومهام مؤقتة. ام ضمن اختصاصاتها وضع بنيات اقتصادية راسخة للنهوض بهذه البلاد مستقبلا. واذا صحت هذه الاخيرة، فهذه بدورها تقودنا للوراء قليلا. وكما هو معلوم فان جزء اساس من ازمتنا التاريخية الملازمة كظلنا منذ الاستقلال، هي طغيان الشاغل السياسي، والاسوأ اختصاره في طلب السلطة حصريا. وهذا ما جعل طابع السلطة هو التسلط، بعد فتح المجال امام العسكر للاخذ باسباب السياسية لتدبير شؤونهم ومصالحهم الخاصة عبر شوكة السلطة. وكان من افرازات هذا الواقع فساد السياسة والعسكرية والسلطة معا. وهي ورطة ما زالت مفاعيلها مستمرة وقاتلة، بل وتدرَعت اخيرا بقوي المليشيات، مما يجعل مستقبل الدولة نفسه رهن كف عفريت. وكأن لعنة السلطة اصابت الدولة السودانية بفيروس نقص المناعة الوطنية، وتاليا قابليتها للتضعضع والفشل علي الدوام. والحال كذلك، لم يتم حدوث اختراق في جدلية السياسة/السلطة او الثورة/الانقلاب، طوال مسيرتنا التاريخية. واحتمال اقرب مقاربة لحدوث هذا الاختراق تتعلق بالشأن الاقتصادي. بمعني، ما نحتاجه في الحقيقة يتعدي البرنامج الاقتصادي، لاجتراح فلسفة اقتصادية. وهذه الفلسفة منوط بها رفد السياسة بالبرامج والدولة بالهياكل والمجتمع بمشروع تنمية شامل. اي فلسفة الاقتصاد هي القاطرة القائدة للدولة، سواء في التنافس بين الاحزاب علي تنزيلها علي ارض الواقع، او تحديد مهام ووظائف اجهزة الدولة ومؤسساتها، فمثلا بناء مناهج التعليم الجامعي لتخدم هذه الفلسفة، وكذلك الخدمات الصحية يجب ربطها بهذه الفلسفة (دون نسيان البعد الانساني، وعموما ليس هنالك انسانية اكثر من وقاية المواطنين سلفا من الامراض/تخليصهم من الضغوطات الاقتصادية والخدمية والاجتماعية والنفسية/ ليكونوا منتجين وفاعلين في الحياة) وغيره مما ينسحب علي جميع انشطة الدولة. المهم، التوافر علي هكذا فلسفة، يعالج اكبر فراغ عاشته الدولة السودانية منذ استقلالها، وهو مشروع التنمية بمعناها الشامل. خصوصا وان هذا الفراغ هو السبب الاساس لدفع السياسة للانغماس في شؤون السلطة كغاية، والسلطة للحرص علي البقاء، بعد ان فقدت وظائفها ومسؤولياتها بوقوعها في براثن الاستبداد. والحال ان الاستبداد في واحدة من تجلياته هو سلطة غير مسؤولة، فوق انها سلطة مفتونة بذاتها. وهذه النرجسية تحجب عنها رؤية الشعب، ناهيك ان تعلم شيئا عن عذاباته وطموحاته! بل الراجح انها تنظر اليه وتتعامل معه من خلال مصالحها هي، وهو ما يدفعها لاستغلاله وتسخيره وصولا لتحويله الي وقود لتحقيق متطلبات جنون عظمتها وطموحاتها الشاطحة. اي كفاءة السلطة المستبدة تتمظهر في احتكارها وتوظيفها لكل موارد الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية..الخ وبما فيها مورد المواطنين (باخذ اقصي ما عندهم واعطاءهم اقل ما عندها)، لترسيخ سلطتها. وبكلمة محددة الاستبداد والعسكري منه بصفة خاصة، هو وصفة للفقر بمعناه الواسع، ولذا من اوجب واجبات الثورة هي تحطيم دائرة الفقر هذه بكل ابعادها، بالانفتاح علي الحريات والانتاج والعطاء العام، اي صناعة الحضارة او عمارة الارض. المهم، اقرب مؤشر لاستيلاد هكذا فلسفة هي التحول من مربع الاستهلاك لمربع الانتاج او الاستهلاك المرتبط بالانتاج، وهو ما يعني استصحابها لمعيقات الانتاج سواء كانت موضوعية (بيئة غير محفزة علي الانتاج من قوانين طفيلية وقلة التدريب وندرة المهارات والتكنولوجيا..الخ) او ذاتية (ثقافة كره العمل وحب الركلسة). وهذه الجزئية الاخيرة تقودنا ايضا لجزئية ذات بعد ثقاريخي (ثقافي تاريخي). وهي وبما ان الاقتصاد كعلم يختص بجانب مهم يتعلق بالندرة وايجاد البدائل. يبدو انه وجد ممانعة في بلاد حباها الله بكثير من الموارد وعديد من البدائل. وهذا بدوره قلل من التحدي الوجودي امام السكان الذي يخرج اقصي ما لديهم. فطالما الاراضي واسعة والمياه وافرة والمراعي كثيرة والاعداد نسبيا قليلة، فما هي الدوافع للكد والتعب والعمل الشاق. وهذا ما كرس من ناحية لطرائق الانتاج والاستهلاك التقليدية التي تعول علي الاكتفاء الذاتي والتفاخري في حالة وجود فوائض، ومن ناحية مقابلة لثقافة الكسل والاتكال او ممانعة الانتاج الراسي واستثمار الفوائض. وهذا الواقع لم يختص بالجانب الاقتصادي فقط، ولكنه ترك انطباع في كل المجالات ومن ضمنها السياسة التي تحولت لثرثرة غير منتجة لبرامج تنموية. والابداع الذي انحصر في الجانب الوجداني (شعر غناء) علي حساب الابداع العقلاني (انتاج فكر يقطع مع التراث ويوطن لمنجز الحداثة) والتقني (علي مستوي الابتكار والتمكين للتكنولوجيا في استخدامات الحياة) والمؤسسي (منظومة عمل قائمة تحديد المهام والاختصاصات وطريقة عملها). وهو ايضا ما انعكس علي التعليم الذي يهتم بالمظاهر/التنظير علي حساب المخرجات/التطبيقات علي ارض الواقع، ليصبح مجرد جزر فقيرة ومعزولة في بحر هائج من التخبط والاخطاء. ولذلك عندما ظهرت التحديات الحقيقية الراهنة، التي لا تجدي معها القرارات الفطيرة والخيارات السهلة، وجدنا انفسنا امام تراث من العجز وتراكم من الاخطاء يبدو انه محتاج لمعجزة اسطورية لتخطيه، او اقلاه لقيادات خلاقة وشعب مستنير للخروج من هذا المازق الوجودي. ودمتم في رعاية الله.