وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    قرارات اجتماع اللجنة التنسيقية برئاسة أسامة عطا المنان    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    مناوي : حين يستباح الوطن يصبح الصمت خيانة ويغدو الوقوف دفاعآ عن النفس موقف شرف    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب الدكتور موسى الباشا : "الدولة الدينية الإسلاميّة في النظرية والتطبيق" .. بقلم: هاشم الإمام محيي الدين
نشر في سودانيل يوم 04 - 03 - 2009

كتاب الدكتور موسى الباشا : "الدولة الدينية الإسلاميّة في النظرية والتطبيق"
رؤية نقدية ( 1 )
هاشم الإمام محيي الدين
فرجينيا / الولايات المتحدة
[email protected]
من أكثر سمات الخطاب العلماني المعاصر شيوعاً، وأعظمها ذيوعاً ، نقل المصطلحات من بيئتها التي نبتت فيها ، بكل إفرازاتها وملابساتها، وغرسها في البيئة الإسلامية ،وهو أمر جدُّ خطير؛ ذلك أنّ كل مصطلح يتأثر بمعطيات البيئة الفكرية والحضارية التي نشأ فيها ، ويحمل في طياته المدلولات الفكرية ، والاتجاهات العقلية لإنسان هذه البيئة ، فنقله من بيئته إلى بيئة أخرى ضرب من ضروب التجاوز في دلالة الألفاظ ، ونوع من أنواع التهاون بمدلولات الألفاظ الثقافية .
ومن سمات هذا الخطاب سوق المسائل الخلافية سوق المسلمات التي فُرغ من دراستها وتمحيصها . كذلك سلب الخصوم أسماءهم التي عُرفوا بها في مجتمعاتهم ، ونحلهم أسماء جديدة تحمل ظلالاً سلبية من المعاني ، والطرق على هذه الأسماء الجديدة حتى تجد طريقها إلى ذاكرة القرّاء وتستقر في وجدانهم .
ومن هذه السمات أيضاَ ، نزع القدسية عن النصوص ،و ترك الأخبار الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول ، وإيراد الروايات الشاذة التي تشكك في ثوابت الأمة ، وتنال من رموزها الدينية والتاريخية ، وغير ذلك .
ولعل كتاب الدكتور موسى الباشا الذي نحن بصدد دراسته ونقده يمثل بعضاَ ممّا ذكرت من أنواع هذا الخطاب ، وقد بدت سمات هذا الخطاب من عنوان الكتاب إذ سمّاه "الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق " وكأن نعت الدولة الإسلامية بأنها دولة دينية من الحقائق المسلّم بها ، أو من بدهيات العقول ، فالدولة الدينية مصطلح غربي يطلق في الفكر السياسي الغربي على الدولة الثيوقراطية التي تحكم بالحق الإلهي ، وقد نقله الباحث من بيئته التي نبت فيها بكل ما علق به من إفرازات ، واكتنفه من ملابسات عبر الحقب التاريخية المختلفة ليسم به الدولة الإسلامية ، ويحاكمها في ضوئه ، مع أن الدولة الإسلامية لم تعرف هذا النوع من الحكم لا في تاريخها ولا في مرجعياتها .
إنّ من أهم الأسباب في اضطراب صورة الدولة الإسلامية في الأذهان هو أن خصومها والداعين إليها على السواء يستعملون المصطلحات السياسية الغربية للتعبير عن أفكار قد لا تكون هذه المصطلحات تعبّر عنها بدقة .
كذلك سلب المؤلف – عفا الله عنه – الحركات الإسلامية أو الجماعات الإسلامية أسماءها التي اشتهرت بها في المجتمعات التي ظهرت فيها ، وسمّاها بما حلا في مذاقه دون حاجة إلى ذلك ، مع أنّ الناس في أشد الحاجة إلى ضبط المصطلحات ، وتضييق دلالات الألفاظ حتى لاتنبهم المعاني .
سمّى المؤلف الجماعات الإسلامية ب (الانبثاقيين ) ، وزعم أنه إنّما فعل ذلك لأنهم يقولون بانبثاق السياسة عن الدين الإسلامي ، ومن ثمّ لا يفصلون بين الدين والسياسة ، والذي أعلمه أن المعنى اللغوي لمادة ( بثق ) ومشتقاتها أقرب إلى معنى الانفصال لا عكسه ، تقول : بثق النهر أي كسر شطّه لينبثق الماء ، وانبثق الفجر أي طلع ، وانبثق عند المسيحيين : صدر ، والانبثاق هو انبثاق الروح القدس من الأب والابن ، وهذه الجماعات لا تقول بانبثاق السياسة عن الدين بل تقول إنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين ، ولا ينفك عنه ، فالدين الحق عندهم لا يمكن أن يكون ابتداءً عقيدة مفصولة عن الشريعة ، والشريعة في دين الله الحق هو مقتضى العقيدة نفسها ، مقتضى شهادة (لا إله إلاّ الله ) ، وشهادة ( لا إله إلاّ الله ) لا تكون صحيحة وقائمة إن لم تؤدّ عن صاحبها هذا المعنى ، وهو الالتزام بما جاء من عند الله ، والتحاكم إلى شريعته ؛ لذلك فإنّ هذا المصطلح لا يؤدي المعنى الذي أراده الباحث ، بل يعبّر عن نقيضه ، والمعنى الاصطلاحي تربطه بالمعنى اللغوي وشيجة قربى .
ومن غريب استخدامات المؤلف للمصطلحات أنه يعمد إلى ما شاع منها ، واستخدمه علماء الأمة عبر القرون ، ويستبدل به ألفاظاً هي إلى الشرح أقرب منها إلى المصطلح الجديد ، فهو يترك مصطلح ( الصحابة ) ليقول : رفاق النبي ، ومعاصرو الرسول الخاتم ، ويترك مصطلح ( السنة ) ليقول : الموروث الرسولي للنبي الخاتم ،مع أنّ مصطلحي( الصحابة ) و ( السنة ) أخصر ، وأبلغ دلالة ، وأعرف عند القراء الذين يخاطبهم ، ولا أدري أطرح المؤلف هذه المصطلحات جانباً لما تحمله من دلالات يريد أن يهدمها أم هي الرغبة في الجديد وحسب ؟!
كذلك يستخدم الباحث كثيراً من الألفاظ الشائعة في الديانة المسيحية كالانبثاق ، والناسوت ، والرعوية ....الخ دون حاجة إليها ، فما أكثر الألفاظ الإسلامية ، وما أغناها ، وما أشد نفور المسلمين من مصطلحات أهل الكتاب ؛ لأنّ أكثرها يحمل مفاهيم تتناقض مع عقيدة التوحيد ! وإذا كان الباحث يهدف إلى إقناع المسلمين بترك معتقدهم بأن الإسلام عقيدة وشريعة، والاعتقاد بأنه عقيدة فقط لا شأن له بالسياسة والحكم ، فما كان أجدره أن يتلطف في دعوته ويخاطبهم بلغة تقرّبهم إليه ، و لا تصدهم عنه وتشككهم في غرضه من أوّل وهلة !
وممّا يحمد للمؤلف أنه حاول الحجاج لأفكاره من داخل النصوص الشرعية ، ممّا يعني أننا نتحاكم إلى مرجعية واحدة ، وهي الكتاب والسنة ، وهذا ممّا يسهّل مجادلته ، وتناول أفكاره ، والانتهاء بمحاورته إلى غاية ، فالخصمان لا بدّ أن تكون لهما مرجعية عليا يتحاكمان إليها عند النزاع ، فإذا كان أحدهما قد عقد خصومة مع الأصول والمحكمات ، أو أعلن ابتداءً كفره بها ، فلا معنى للجدال في الفروع والمتشابهات.
هذا وسيجد القارئ في تضاعيف هذه القراءة تفصيل ما أجملته من أفكار في أوّل هذا الحديث وتوضيحاً لها .
ما المراد بالدولة الدينية ؟
الدولة الدينية أو ( الثيوقراطية ) جاءت من الكلمة اليونانية Theokratia التي تعني" حكم الله" ، ثمّ شاع المصطلح وأُريد به الدولة التي يحكمها رجال الدّين ، والتي تزعم أنها تحكم باسم الله ، وأنّ حكّامها هم وكلاء الله في أرضه ، فلا يجوز مراجعتهم أو محاسبتهم ، دعك عن إقالتهم ، فالثيوقراطية " هي ذلك النظام من الحكم الذي يجعل من الدين والتفويض الإلهي مصدراً للسلطة السياسية ، ويدعي القائمون عليها أنهم مفوضون من الله ، وأنهم ناطقون باسم السماء ، ويجب الإذعان لجميع قراراتهم ، والرضا بها دون مراجعة أو اعتراض ؛ لانّ الاعتراض عليها يكون اعتراضاً على الله الذي يتحدثون باسمه ، وهم وكلاؤه على الناس ......" (1)
والدولة الثيوقراطية دولة قائمة على نظرية الحق الإلهي ، يُقدس فيها الملوك والحكام باعتبارهم نواباً عن الله وممثلين له في الأرض، فآراؤهم مقدسة ، وأقوالهم وأفعالهم معصومة ، وقد عرفت أوروبا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطى بناء على ما يدّعون أنه مأثور عن السيد المسيح –عليه السلام – ( ما تحلونه في الأرض يكون محلولاً في السماء ، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطاً في السماء ) فمارس الحكام الاستبداد ، والقهر على شعوبهم باسم الدين، واحتكرت الكنيسة المعرفة .ولا شك أنّ الدولة بهذا المعنى نوع من أنواع الوثنية ، وأثر من آثار التخلف والانحطاط، والقائمون عليها طواغيت يدعون الربوبية على الناس ، ومن أطاعهم على ذلك فقد عبدهم من دون الله .
لقد شنع القرآن الكريم على أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ،قال تعالى :" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً " (التوبة: 31)و لمّا استنكر عدي بن حاتم الطائي عبودية النصارى للأحبار والرهبان ، قال له ،صلّى الله عليه وسلّم :" ألم يكونوا يحلون لكم الحرام ، ويحرمون عليكم الحلال فتتبعوهم ، فتلك عبادتكم إيّاهم".
وممّا يحتج به خصوم الدولة الإسلامية، أن فكرة ( الحاكمية ) التي ترد كثيراً في أدبيات الحركة الإسلامية المعاصرة ، وفي مؤلفات مفكريها كالأستاذ سيد قطب ، والأستاذ أبي الأعلى المودودي ، تعني أن الحكم لا يكون إلاّ لله ، ولا يمارس إلاّ باسمه وحده ، ممّا يعني قيام دولة دينية تمارس البغي والطغيان والوصاية الكهنوتية باسم الدين . و" لعل منشأ هذه الشبهة هو الخلط بين مصدر السلطة السياسية وبين مصدر النظام القانوني ، فالسلطة في الاسلام مصدرها الأمة ، والنظام القانوني مصدره الشارع . وهذا المصدر الرباني للنظام القانوني لا يضفي أي قداسة على النظام السياسي ، ولا يعني بالضرورة أن السلطة السياسية تستمد شرعيتها من الحق الإلهي ، بل على النقيض من ذلك ، فإنّه يمثل ضمانة تحول دون طغيان السلطة السياسية ؛ لأنّ هذا النظام القانوني يخاطب الحاكم كما يخاطب المحكومين ، ويخضع له الجميع حكاماً ورعية على السواء ، ولا سبيل إلى تغييره أو العبث به باصطناع أغلبية مأجورة تتبنى أهواء الحاكم داخل المجالس التشريعية ، كما هو الحال في كثير من الأنظمة الوضعية "(2)
إنّ تاريخ الدولة الإسلامية يشهد بأنها لم تكن دولة ثيوقراطية دينية بالمعنى الذي عرفته أوروبا ، وهو حكم رجال الدين وسلطتهم المطلقة في الأمور المدنية والدينية ، فالدين الإسلامي ليس فيه كهنوت ، ولا رجال دين ، وإنّما فيه علماء ، وهؤلاء العلماء ليسوا أوصياء من الله على خلقه ، كما لم يكن هناك احتكار للمعرفة ، ولكن هذا لاينفي أنّ الدولة في الإسلام تقوم على حراسة الدين ، وتصطبغ بهويته ، وتعمل على إقامة أحكامه، والدعوة إليه .
إنّ استخدام مصطلح الدولة الدينية بمفهومه الأوروبي تزييف وتضليل للقاريء ، ومن يبحث في تاريخ الدولة الإسلامية فليستخدم مصطلحات مؤرخي الإسلام ، ومن أراد أن يحاكمها فليحاكمها في سياقها الزمني و بمقتضى العدل .
وإذا كانت الدولة الإسلامية ليست دولة دينية ثيوقراطية ، فما طبيعتها ؟
يعدّ مصطلح الدولة المدنية مقابلاً لمصطلح الدولة الدينية ، وقد عرفه الغرب في إطار معركة شعوبه مع الكنيسة ، والسعي لإنهاء سيطرتها على شؤون الحكم ، وهو يعني أن تستقل الدولة بشؤونها عن هيمنة الكنيسة وتدخلها ، ولا يعرف هذا المصطلح عند علماء المسلمين ؛ لأنّ التناقض بين ما هو مدني وما هو ديني والفصل بينهما ليس من طبيعة ديننا ، فليس في الإسلام رجال دين بالمعنى الكنسي الذي يضفي عليهم القداسة ، ويميزهم في لباسهم وأعمالهم . وممّا هو جدير بالتأمل أن كلمتي (دينية ) و (مدنية ) عند كثير من علماء اللغة مشتقتان من الجذر (د يَ ن ) وأن العرب كانت تطلق كلمة( مدينة ) على التجمع السكاني الذي تحكمه نظم وقوانين ؛ لذلك سُمّيت (يثرب ) بالمدينة بعد أن أصبح فيها سلطان ، وصارت العلاقات بين سكّانها ينظمها قانون .
وفقهاء السياسة الشرعية يجعلون مهمة الحاكم في الإسلام مهمة تنفيذية ، وسلطاته محدودة بحدود شرعية لا يجوز له أن يتجاوزها ، ومّما ذكره الماوردي –رحمه الله - في كتابه " الأحكام السلطانيّة " عن واجبات الخليفة أنّه يقوم نيابة عن الأمة بحماية العقيدة ،وحراسة الدين ، والدفاع عن البلاد، وإقامة الأحكام ، والفصل في المنازعات ، وجباية الأموال وتوزيعها ، واختيار الولاة وتكليفهم بمهماتهم .
وطاعة الإمام مشروطة بطاعة الله فإن عدل عن طاعة الله، أو أمر بمنكر فلا طاعة له على الناس قال الماوردي في شروط الإمامة :" والشرط الخامس العدالة وهي معتبرة في كلّ ولاية ، والعدالة أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة ،عفيفاً عن المحارم ، متوقياً المآثم ، بعيداً عن الريب ، مأموناً في الرضا والغضب ، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه ، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته ، وتصح معها ولايته ، وإن انخرم منها وصف منع من الشهادة والولاية، فلم يسمع له قول ، ولم ينفذ له حكم..."(3)
والعلماء مجمعون على وجوب خلع الخليفة إذا لم يلتزم بتنفيذ أحكام الشريعة ، قال الغزالي رحمه الله –" إنّ السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته ، وهو إمّا معزول أو واجب العزل، وهو على التحقيق ليس بسلطان " (4)
ومن هذا يتضح أن الحاكم في دولة الإسلام لا يحكم بتفويض من الله بل خاضع كسائر الرعية لشرع الله ، والدولة في الإسلام دولة مدنية وإن اختلفت آراء علماء الإسلام المحدثين في استخدام هذا المصطلح مصطلح الدولة المدنية ، فمنهم من رفضه تماماً حذراً من الالتباس ؛ لأنه في معناه الأصلي يعني عزل الدين تماماً عن الدولة ، وعن السياسة ، والمناداة بعلمانية ( لا دينية ) الدولة ، ومنهم من قبل بعض مفردات هذا اللفظ ، وأعرض عن بعضها ، متغافلاً عن القول بفصل الدين عن السياسة ، وإبعاده عن المرجعية في إدارة مؤسسات الدولة ، وأكثر مفكري الجماعات الإسلامية المعاصرة يؤمنون بأن الدولة المدنية هي جوهر الإسلام وحقيقته . فقد ذكر الشيخ القرضاوي أنّ " الدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام ، وكما عرفها تاريخ المسلمين ، دولة مدنية تقوم السلطة فيها على البيعة والاختيار والشورى ، والحاكم فيها وكيل عن الأمة وأجير لها ، ومن حق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد أن تحاسبه ، وتراقبه وتأمره وتنهاه وتقوّمه إن اعوجّ والاّ عزلته ، ومن حق كل مسلم بل كل مواطن أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكراً أو ضيّع معروفاً ، بل على الشعب أن يعلن الثورة عليه إذا رأى كفراً مباحاً "(5)
وجاء في رسائل البنا، رحمه الله ،"فالحاكم مسؤول بين يدي الله، وهو أجير لهم ،وعامل لديهم "(6) وقال أيضاً : "ومن حق الأمة أن تراقب الحاكم أدق مراقبة ، وأن تشيرعليه بما ترى فيه الخير وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها ......:(7)
وممّا جاء في المشروع الحضاري الإسلامي للإخوان المسلمين في سوريا ( الحكومة المسلمة مجموعة من الموظفين يتعاقد معهم أهل الحل والعقد ، على رياسة الأمة ، وتسيير أمورها حسب صيغة متفق عليها بين الطرفين المتعاقدين ، وأهل الحل والعقد ، يراقبون الحكومة التي تعاقدوا معها في أعمالها ، ويسددونها وينصحونها ، وفقاً للوائح العقد وشروطه ، وإذا خالفت شروط العقد يعزلونها . أو كما نقول اليوم ( يسقطونها ) ؛ لأنها حكومة مدنية ، وموظفوها أناس عاديون ليست لهم صفة القداسة ، ولا أي صفة تميزهم عن سائر المواطنين ..."(8)
ومن الشواهد التاريخية التي تؤكد أن الدولة المسلمة دولة مدنية ، يخضع الحاكم فيها للشرع كما يخضع المواطن العادي ، ولا يتميز عنه بشئ :
في غزوة بدر كان النبي ، صلّى الله عليه وسلّم ، يعدل صفوف أصحابه ، وفي يده قدح (سهم ) يعدل به القوم ، فمرّ بسواد بن غزيّة وكان خارج الصف ، فطعنه في بطنه بالقدح ، وقال استو يا سواد ، فقال يا رسول الله أوجعتني ، وقد بعثك الله بالحق والعدل ، قال : فأقدني ( أي أقتص منك ) فكشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه ، وقال استقد ، فاعتنقه فقبّل بطنه .
و جاء في البيان الأوّل للخليفة الأوَل أبي بكرالصديق( أيّها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني....أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ).
وكرّر عمر البيان نفسه عندما بويع أميراً على المسلمين ، فوقف أحد المسلمين مستلا سيفه وقال له : والله لو رأينا فيك اعوجاجاَ لقوّمناه بسيوفنا، فيقول عمر : الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوّم اعوجاجه بسيفه .
3-قال العتبي : بعث إلى عمر بحلل فقسّمها فأصاب كل رجل ثوب ، فصعد عمر المنبر وعليه حلّة ، والحلة ثوبان ، فقال أيها الناس ألا تسمعون ؟ فقال سلمان : لا نسمع . قال عمر : ولِم يا أباعبدالله ؟ قال ؛ لأنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة . قال عمر : لا تعجل ياأبا عبد الله . ثمّ نادى : يا عبد الله ، فلم يجبه أحد ، فقال يا عبد الله بن عمر ، قال : لبيك أمير المؤمنين . قال عمر : نشدتك الله ، الثوب الذي اتزرت به هو ثوبك ؟قال: اللهم نعم . فقال سلمان رضي الله عنه : أما الآن فقل نسمع .
4-ذكر ابن الجوزي أن عمرو بن العاص قال لرجل من المسلمين كان معه بمصر : يا منافق ، فشكاه إلى عمر بن الخطّاب ، فكتب أمير المؤمنين إلى والي مصر يقول له : أما بعد فإنّ فلاناً ذكر أنك نفّقته ، وإني أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين ، فقام الرجل فقال : أنشد الله رجلاً سمع عمراً نفّقني إلا قام ، فقام عامة أهل المسجد ، فقال له حشم عمرو : أتريد أن تضرب الأمير ؟ قال وعرض عليه الأرش(فدية مال ) فأبى ،فقال عمرو أتركوه وأمكنه من السوط ، وجلس بين يديه، فقال الرجل : أتقدر أن تمنع مني لسلطانك ؟ قال عمرو : لا ، فقال الرجل : فامض لما أمرت به فإني أدعك لله .
5-حجّ أبو جعفر المنصور ، فطلب سفيان الثوري فجاءه ، فقال سفيان : كم أنفقت في سفرك ؟ قال :لا أدري ، لي أمناء ووكلاء ، فقال سفيان : فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي الله تعالى ، فسألك عن ذلك ؟ لكن عمر بن الخطاب ، لما رجع قال لغلامه : كم أنفقت في سفرنا هذا ؟ قال : ثمانية عشر ديناراً ، فقال عمر : ويحك !! أجحفنا بيت مال المسلمين ، وعن ابن مسعود أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، قال :ربّ متخوص في مال الله فيما شاءت نفسه ، له النار غداً. فيقول أحد متزلفي الحاشية : أمير المؤمنين يستقبل بهذا، فأجابه سفيان :اسكت ، إنّما أهلك فرعونَ هامانُ .
والأمثلة التي تبين مدى خضوع الحاكم المسلم للنصيحة ، والرجوع عن رأيه كثيرة ، وفي كتاب الشيخ عبد العزيز البدري (العلماء والحكام ) أيّما غناء لمن أراد المزيد من الأمثلة .
وصفوة القول أنّ مصطلح الدولة المدنية إذا كان يعني فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها ، وقصر دوره على الصلاة في المساجد ،وتنظيم العلاقات الأسرية ( قانون الأحوال الشخصية ) فليس مصطلحاً إسلامياَ ، ولا يعبر عن مضمون إسلامي . أمّا إذا كانت الدولة المدنية تعني بسط الحريات ، وتبادل السلطة ، وأن مؤسسات الدولة يتولّى إدارتها الأكفاء من أهل العلم ، وأن الشرعية الإسلامية هي المرجعية التي تدار بها مؤسسات الدولة ،فهو اصطلاح مقبول يعبر عن جوهر الإسلام وحقيقته .
وإذا كان العلمانيون ينادون بفصل الدين عن الدولة ، ويعترف بعضهم بأن في دين الإسلام نظاماً للحكم ، فإنّ خطورة كتاب الدكتور الباشا ، أنه يسلب الدين إحدى خصائصه وينكرها رغم أنه ليس عنده عداء للدين ، وهو في خاصة نفسه متدين ليس من أهل الهوى، وقد حجّ بيت الله الحرام في هذا العام ، وإنما أوتي من قبل منهجه في فهم الدين ، أو من قبل إعجابه بأفكار الشيخ /علي عبد الرازق . أسأل الله تعالى أن يريني وإياه الحق ويرزقنا اتّباعه .
وللحديث صلة ......
المراجع :
1-د. صلاح الصاوي: المحاورة.
2-المرجع نفسه .
3-الماوردي :الأحكام السلطانية.
4-الغزالي أبوحامد: إحياء علوم الدين
5-موقع الحماعة الإسلامية / مقال:الإسلام والدولة المدنية للدكتور أسامة حافظ .
http://egyig.com/Public/articles/recent_issues/6/02550777.shtml
6-و7-حسن البنا: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا .
8-كاتب سوري في المنفى: رابطة أدباء الشام .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.