(قلت مرة إن الشيوعيين كفوا مؤخرا عن التحليل الطبقي للمجتمع سوى من قولهم "الرأسمالية الطفيلية". وهي عندي "شتيمة" لا أداة تحليل لأنها تطلق هكذا على عواهنها بلا حيثيات ولا تثبت. ثم سمعت الأستاذ الخطيب مؤخراً يطلق على جماعة من قوى قحت "البرجوازية الصغيرة" مروراً أيضاً. وبدا لي من ذكر الخطيب العابر والنادر للمصطلح أنه أدخل في التبخيس لهذه الجماعة الموصوفة لا التحليل. من عاش فترة انقلاب 25 مايو 1969 عرف مركزية هذا المصطلح في النقاش الكبير الذي اجتاح الحزب الشيوعي حول تقييم ذلك "الانقلاب" وانتهى بانقسامه البليغ إلى جناح لأستاذنا عبد الخالق محجوب وآخر لمعاوية إبراهيم ضم مثل أحمد سليمان وعمر مصطفى المكي. ودار النقاش آنذاك حول هل ما وقع صبيحة 25 مايو "ثورة" أم "انقلاب". وكانت عقيدتنا في جناح أستاذنا أنه انقلاب قامت به الشريحة العسكرية في البرجوازية الصغيرة. ولم يسعدنا لأنه خرق أخرق لما تواضعنا عليه في الحزب وهو التكتيك: البروليتاري" (العمالي). وهو تكتيك يلزمنا الصبر على مكاره نكسة ثورة أكتوبر، التي غبنت القوى الحديثة، لنستنهض الجماهير لاستكمال مهام الثورة بعمل صبور دؤوب (وهذا هي العبارة بالتحديد). ولكن سبقتنا البرجوازية الصغيرة العجولة إلى السلطة بل و"قمحتنا" في نصف أعضاء لجنة الحزب المركزية ناهيك من رفاق قادة المناطق والقواعد ممن هجرونا إلى وكر طبقتهم الانقلابي. ثم كف الحزب منذ مأساة 22 يوليو 1971 عن أي ذكر للبرجوازية الصغيرة في تحليله لسياسة المجتمع. وانتهز هنا فرصة ذكر الخطيب للطبقة مؤخراً لأعيد نشر كلمة لي عن منزلة هذه الطبقة في مجتمعنا). فإلى الجزء الثاني منها: وسنجدد معرفتنا بهذه البرجوازية الصغيرة المدينية متى وقفنا نتفحص خصائصها السودانية بصورة عميقة. فقد سبق لنا تعريفها على ضوء ما بلغنا عنها في الغرب الرأسمالي. فقلنا عنها إنها طبقة بينية، بين بين، في المجتمعات التي تهيمن على اقتصادها وسياستها طبقة البرجوازية. فهي بين طبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وبين الطبقة العاملة التي تبيع قوة عملها للبرجوازيين. وهي طبقة تعبر عن وعيها بذاتها بلغة مأخوذة من مصطلح الطبقة البرجوازية، أي أنها تقبل النظام الرأسمالي ومنطقة لا تريد لسنته تبديلا. بل لا يطمع الواحد منهم في تحسن فرصه ومعاشه بغير أن يصبح مالكاً كالبرجوازيين. ومتي استقر المجتمع الرأسمالي على وتيرته تميزت البرجوازية الصغيرة بثقافة خاصة بها وعوالم من خيال وحقائق. وبالطبع فإن لهذه الفئة الاجتماعية خصائص سودانية مع احتفاظها بما يجمعها بهذه الطبقة في مجتمعات أخرى. فقد تَخَلَّقت في بلادنا في ظل الاستعمار. فهي لم تخرج من معطف برجوازية وطنية أكملت الثورة الليبرالية بإزاحة الإقطاع من سدة الوجاهة السياسية والاجتماعية، ولملمة شعث الأمة في سوق وطني عظيم. فهي لم تنشأ هذه الفئة عندنا لتخدم مثل هذه البرجوازية الغراء التقدمية ببيع قوة عملها الذهني (في السلك الكتابي والترجمة والهندسة وغيرها). خلافاً لذلك فقد ولدت هذه الطبقة الأفندية البرجوازية لتخدم طبقة أجنبية مستعمرة في الوظائف الدنيا التي تعفف الاستعمار من أن يأتي ببني جنسه لملأها. وعلّمها المستعمرون علماً سماه "التجهيزي". ومعنى ذلك أنه اقتصر (ولربما لا يزال) على تزويد التلاميذ بمعرفة هي عبارة عن حرف ومهارات يؤدي بها الموظف المهمة المخصوصة فقط لا غير. وقد كان بعض احتجاج طلاب غردون منذ العشرينات أن الإنجليز حرموهم من المعرفة التي هي أوسع من الحرفة. وقد وجدت السيد رالف نادر، المثقف الأمريكي بأصوله العربية المعروف، يفرق بين "التربية" (education) و"التلقين" (instruction). وكان نصيب طلبة غردون من العلم هو التلقين في حرف لا يتعدونها إلى سقف الثقافة الأرحب. وخير من عبر عن شكوى الغردونيين من تعليم التلقين هو معاوية نور في مقالات غاية من السداد تجدها في كتب منشورة. جاء ميلاد هذه الطبقة الأفندية الجديدة بينياً (بين بين) بصورة مركبة. فهي بين جمهرة الناس من الأهالي من جنسها وبين والاستعمار الذي أنشأها أول مرة. وهو استعمار هجين: إنجليزي مهيمن حتى على المصريين الذين شاركوه حكم "السودان الإنجليزي المصري". وله ثقافة مختلفة عن الأفندية في دينها وتراثها الآخر. وشاركت مصر في استعمارنا كما هو معروف وكانت الطرف الضعيف. ولكن حقها الدستوري على السودان جعلها مما تتطلع له افئدة الأفندية في طلبهم للاستقلال. كما نذكر عرضاً أن الأفندية احتجوا دائماً على سيطرة الجاليات الأجنبية (الملحقة بالاستعمار) على السوق: "طغى ابن اثينا واستكبر الأرمني" كما قال التيجاني يوسف بشير. وهناك منشأ آخر للتعقيد. فهذه الطبقة البرجوازية الصغيرة المدينية وجدت أن من فوقها طبقة سادة طوائف لهم زمام الأمر بين الناس. وتداخلت بهذه الطبقة، التي توارثت السيادة، برجوازية تجارية رهنت مصيرها السياسي بهؤلاء السادة إلى حد كبير. وتخلقت من هذه الحلف الطائفي التجاري الصميم طبقة قابضة لم يستحسنها الأفندية وإن اضطرهم ضعفهم وحاجات ثانية للتمسح بأذيالها لأزمان طويلة. ووصف الدكتور محمد هاشم هذه الطبقة القابضة التي سدت أفق الأفندية ب "البلوتكرسي" في كتابه عن الحكم واستغلال النفوذ الذي نشره في آخر الستينات وأسدل عليه الهرج، الذي بدأ في 1969، ستار النسيان. وفي حديث قادم نقف على ضواغط هذا الوضع المعقد للبرجوازية المدينية في دورة الإنتاج. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.