تؤمن النظم الديمقراطية مبدأ الفصل بين السلطات بتوزيع الوظائف والصلاحيات بين أجهزة الحكم المختلفة حيث يقوم الجهاز التشريعي بسن القوانين والجهاز التنفيذي باتخاذ القرارات ورصد المبالغ المالية لكي تقوم الدواوين الإدارية بتنفيذ متطلبات القوانين، بينما يقوم الجهاز القضائي بفض النزاعات التي قد تنشأ بسبب عدم وضوح بعض فقرات القانون وتقديم التفسير القضائي السليم لحسم الخلاف(95). وأدركت بعض الدول الديمقراطية مثل السويد أهمية الفصل بين السلطة الإدارية والسلطة التنفيذية لكيلا تؤثر الأخيرة على نزاهة وحياد بعض المؤسسات الحكومية أثناء أداء وظائفها. فتمتعت مؤسسة البريد مثلاً باستقلال إداري واسع طبقاً للقانون، وتقوم مثل هذه المؤسسات في السويد "بتنفيذ مسئولياتها عن طريق مجالس قضائية للنظر في الشكاوى المقدمة ضد الأعمال الإدارية للمؤسسة وتسهيل ذلك بالسماح للجمهور بالإطلاع على كل الوثائق المتعلقة بالشكوى قيد النظر"(96). وساهم هذا النموذج السويدي في ظهور اللجان أو الإدارات المستقلة في العديد من الدول الديمقراطية لحماية حقوق المواطنين ضد التغول الحكومي ولكي تقوم بأداء وظائفها وتوزيع العمل بين أعضائها بمنأى عن ضغوط السلطة التنفيذية. فحددت لجنة التجارة ما بين الولايات Interstate commerce commission في الولاياتالمتحدة مثلاً إجراءات معينة لتنظيم ممارسة مهامها التنفيذية والتشريعية والقضائية "فيقوم أحد أعضاء المفوضية أو اللجنة بإتخاذ القرارات الإدارية وثلاثة من أعضائها باتخاذ القرارات شبه القضائية كما يشارك كل أعضاء اللجنة في إصدار القرارات شبه التشريعية"(97). تمّ الإتفاق فى بروتوكول اقتسام السلطة على إنشاء مؤسسات أو مفوضيات مستقلة وهي لجنة الانتخابات، مفوضية حقوق الإنسان, مفوضية الجهاز القضائي القومي، مفوضية الخدمة المدنية القومية، لجنة استفتاء تقرير المصير ولجنة رصد المخصصات المالية السنوية(98). وسيتم تحديد وظائف وصلاحيات هذه اللجان في الدستور القادم الذي من المتوقع أن يؤكد على استقلال هذه المؤسسات وتوفير الأرصدة المالية اللازمة لإدارتها وتأمين مناصب أعضائها لفترة زمنية محددة حتى لا يخضعون لتأثير السلطات التنفيذية والتشريعية وتتحقق بذلك نزاهة العملية الديمقراطية. فتحتاج لجنة الانتخابات مثلاً إلى منحها قدر واسع من الاستقلال الإداري وسلطات قضائية لضمان نزاهة سير الانتخابات التي تعتبر من أهمّ عناصر العملية الديمقراطية. ويمكن الاقتداء بتجربة كوستاريكا في هذا المجال حيث تعرف لجنة الانتخابات باسم المحكمة الانتخابية العليا Supreme Electoral Tribunal ويكون أعضائها من القضاة ولهم سلطة التحقيق في تهم التحيز السياسي الموجه ضد موظفي الانتخابات وتوجيه الإتهام ضد أي شخص يقوم بخرق قانون الانتخابات وصلاحية السيطرة والإشراف على الشرطة وقوات الأمن أثناء تأدية واجبهم في فترة الانتخابات(99). ومن المؤسسات التي لم يرد لها ذكر في بروتوكول اقتسام السلطة ونرى ضرورة إدراجها في الدستور القادم هيئة المحقق في الشكاوى ضد موظفي الدولة Ombudsman التي ظهرت لأول مرة في الدول الإسكندنافية للسيطرة على دواوين الدولة البيروقراطية التي توسع نفوذها والقضاء على التسيب والإهمال الإداري لحماية المواطنين من الضرر الذي يقع عليهم نتيجة لذلك. وتأثرت بريطانيا بالتقاليد الإسكندنافية في هذا المضمار عندما أجاز البرلمان في عام 1967م قانون ينص على خلق منصب المفوض البرلماني للإدارة Parliamentary Commissioner of Administration الذي يقوم بالتحقيق في شكاوى المواطنين ضد السلطات الإدارية التي لم تنفذ القانون أو تلتزم بالإجراءات واللوائح عند النظر في قضاياهم (100). ونقترح تبني تجربة السويد عند النظر في إنشاء مؤسسة أو لجنة المحقق في شؤون الإدارة Ombudsman لأنها تمنحها وغيرها من المؤسسات المستقلة شبه سلطات قضائية واستقلال نسبي عن السلطات التنفيذية والتشريعية وذلك لتمييزها بين المهام التي تخص السلطة التنفيذية والوظائف والمهام الإدارية البحتة. ونعتقد أيضاً ضرورة التفكير في تأسيس هيئة مستقلة للشرطة National Police Service Commission وإدراجها في الدستور القادم تكون لها صلاحية الإشراف على ضباط وجنود الشرطة لضبط أدائهم وذلك لإرتباط أعمالهم بمصالح الجمهور والتأكد من حيادهم عند قيامهم بأعمالهم أثناء فترة الانتخابات وعدم خضوعهم للضغوط الحزبية أو التمييز بين المواطنين حين أداء أعمالهم. كما نقترح إنشاء جهاز المساءلة العامة General Office of Accountability طبقاً للنموذج الأمريكي لكي تتم متابعة تنفيذ برامج الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة وتحديد المسئولية في حالات التقصير أو التراخي في تحقيقها حسب الخطة المرسومة. ومن أهمّ وظائف هذه الهيئة المستقلة في نظام الحكم الأمريكي "التأكد من تحقيق سياسات وبرامج الحكومة للأهداف التي وضعت من أجلها وتلبية حاجات المجتمع ... كما يلتزم جهاز المسئولية بدافع حرصه على الصدق والشفافية في أداء وعمليات الحكومة بالتأكد من عدم حدوث فشل أو تقصير في المسئولية في القطاع الحكومي كما حدث في شركة إينرون وشركة ويرلد كوم"(101). ونصّ الدستور الانتقالي واتفاقية اقتسام السلطة على تأسيس لجنة تحديد ومراقبة المخصصات المالية والتي من المتوقع ألا تتعارض أعمالها مع الحق الدستوري للسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في جمع الإيرادات العامة للدولة وإعداد الميزانية وتحديد أوجه المصروفات السنوية للدولة. وتختص هذه اللجنة بتوزيع عائدات الدخل القومي وتحديد المبالغ التي سترصد للولايات من الدخل العام للدولة. ونعتقد أنه من الأفضل تحديد المباديء والمعايير التي تحكم توزيع المخصصات المالية التي تحتاجها الولايات من الميزانية العامة للدولة. ونقترح أن يتم تحديد نسبة 55% من الإيرادات السنوية العامة للدولة لاحتياجات الحكومة الفدرالية و34% للولايات و7% للحكومات المحلية و4% لصندوق احتياطي خاص. وليس هنالك ضرورة بأن تطالب الولايات بنصيبها من ثرواتها المحلية مثل القطن والصمغ العربي والثروة الحيوانية وذلك لأن عائدات تصدير النفط تشكل الجزء الأكبر من الدخل السنوي للدولة مما يعني أن المبالغ التي ستنالها كل ولاية من النسبة المخصصة للولايات من الإيرادات العامة للدولة (34%) ستكون أكثر من مايؤول إليها من العائدات المشتقة من ثرواتها المحلية الرئيسة. يوجد هنالك احتمال قوي بأن يؤدي إدخال النظام الرئاسي الذي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات في مؤسسات الحكم الديمقراطي المرتقب إلى زيادة فرص نجاح التجربة الرابعة للحكم الديمقراطي في السودان خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار رسوخ جذور تقاليد وقيّم الديمقراطية في الثقافة السياسية للسودانيين(102). ولكن يجب أن نتذكر دائماً بأن النظام الديمقراطي يتميز بسهولة تعرضه للهزات وعانى من الفشل والانهيار حتى في الدول الصناعية المتقدمة مثل فرنسا وإيطاليا وجمهورية فيمار في ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. فكما قال الفيلسوف جان جاك روسو "لا توجد هناك حكومة أكثر تعرضاً للحروب الأهلية والقلاقل الداخلية مثلما هو موجود في الحكومة الديمقراطية لأنه لا توجد حكومة مثلها تتميز بنزعة قوية ومستمرة نحو التغيير إلى شكل آخر من أشكال الحكم أو تتطلب قدراً عالياً من اليقظة والشجاعة للحفاظ عليها"(103). لذلك، يجب على الحكومة والقوى السياسية التصدي للتحديات التي تواجه الحكم الديمقراطي في فترة ما بعد السلام حتى يتم ضمان استمراره لأطول فترة ممكنة. ويعتبر التدهور الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد من أهمّ هذه التحديات، إذ أوضح تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأممالمتحدة في عام 2003م إلى أن متوسط دخل الفرد من اجمالي الدخل القومي (GNI) في السودان هو 350 دولار أمريكي في السنة(104). وأثبت بروفسور آدم برزوسكي وبروفسور فرناردو ليمونجي في دراسة إحصائية شملت كل دول العالم في الفترة ما بين 1950 – 1990م بأن متوسط عمر النظام الديمقراطي في الأقطار التي يبلغ فيها دخل الفرد القومي السنوي أقل من 1500 دولار أمريكي هي 8 سنوات فقط، بينما يزيد متوسط عمر النظام ليصل 18 عاماً في الأقطار التي يتراوح دخل الفرد القومي السنوي فيها ما بين 1500 أو 3000 دولار أمريكي(105). ولهذا سيكون من أهمّ واجبات الحكومة في مرحلة التحول الديمقراطي التعاون مع المجتمع الدولي لإسقاط الديون الخارجية التي يفوق حجمها الناتج القومي الاجمالي للبلاد ووضع خطة استراتيجية للاقتصاد الوطني تهدف إلى تحقيق التنمية الشاملة حتى يمكن الانتقال بالسودان من قائمة الدول الأقل نمواً لكي يتم ضمان بقاء النظام الديمقراطي واستمراره. وينبغي على الأحزاب السياسية إعادة هيكلة أطرها التنظيمية والإجرائية على النهج الديمقراطي والتخلي عن الخصومات العنيفة داخل الأحزاب أو بين الأحزاب المختلفة أو بين الأحزاب المؤتلفة في الحكم من أجل المصالح الضيقة والتي تؤدي إلى خلق الأزمات المستمرة وتهيئة المناخ للمعارضة التي تتظاهر بالالتزام المبدئي بالديمقراطية لاختراق القوات المسلحة والإطاحة بالديمقراطية لكي تستولى على الحكم بالقوة. كما يجب على الأحزاب الاهتمام ببناء الثقة والتسامح في التعامل فيما بينها وقبول الهزيمة بصدر رحب، إذ إنّ إحدى الخصائص الفريدة التي تتسم بها الديمقراطية في أداء أعمالها كما قال الفيلسوف الأمريكي شارلز فرانكل "أن يتوقع من الذين يتولون مقاليد الحكم حماية حقوق الذين يرغبون في انتزاع الحكم منهم، كما يتوقع من الذين يرغبون في طرد الأوغاد من الحكم، احترام وقبول سلطة هؤلاء الأوغاد حتى يتمكنوا من إزاحتهم عنها (بالوسائل الديمقراطية)" (106). تميزت عهود النظم العسكرية التي تعاقبت على حكم السودان بممارسة البطش وانتهاكات حقوق الإنسان وسلب الحريات مما أدى إلى قناعة الشعب السوداني بقيمة الديمقراطية كأفضل النظم السياسية لحل مشكلة الوصول إلى السلطة بدون اللجوء إلى العنف. وليس هناك أدنى شك في أنّ تصميم وعزيمة الشعب السوداني لحماية حقوقه الأساسية ستزداد قوة في الحقبة الرابعة للحكم الديمقراطي وأنهم سيضعون في أذهانهم على الدوام ما قاله والت ويتمان للشعب الأمريكي: "لا يمر أسبوع أو يوم أو ساعة بدون أن يهدد فيه الطغيان بالدخول إلى هذا الوطن وسينجح في تحقيق هدفه إذا ما فقد الشعب ثقته العليا في أنفسهم وضاعت منهم روح التحدي والخشونة، إذ لا توجد تعويذة سحرية أو حاجز يحول دون دخوله، فالحاجز الوحيد ضد الطغيان هو عدد هائل من الرجال الأشداء"(107). د.امين حامد زين العابدين محاضر سابق بجامعة الخرطوم كلية الاداب . يمكن الاطلاع علي هوامش واحالات هذه السلسلة من المقالات في الفصل التاسع من كتابي اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري، الطبعة الثانية 2017 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.