نُذر الحرب الأهلية الشاملة في السودان تلوح في الافق .. فهل نشمر عن ساعد الجد ؟ الحرب القادمة ليست بالحرب الاولى فقد سبقتها في التاريخ حروب و حروب انتهت الحرب السابقة بمنتصرين و مهزومين عند المهزومين جاع عوام الناس و جاع عوام الناس ايضا عند المنتصرين * برشت شاعر الماني عجبت لمن لا يملك قوت يومه ، كيف لا يخرج الى الناس حاملا سيفه ** الخليفة عمر بن الخطاب في يناير 2009 قادتني الظروف إلى السوق الشعبي امدرمان و بالتحديد إلى ملجة الخضار هناك، و بما ان الهدف كان شراء بالجملة لمناسبة اجتماعية فقد استوجب الامر تأجير ترتارة (عربة يدفعها شخص) كي تسهل عملة التحميل. يحي صاحب العربة كان مميزا فقد صعب علي تحديد عمره و ان كنت ارجح نهاية الثلاثينيات و بداية الاربعينيات ذو جسد نحيل و ملامح حادة و نظرة شخص مغلوب على أمره، يتحدث بلهجة عاصمية جيدة لكن بمخارج غير واضحة للحروف... سوداني صعب علي معرفة من أية مكان من هذا السودان اتي كي يمارس هذه المهنة في هذه المرحلة العمرية و معظم زملائه فيها من اليافعين... الذي عرفته منه ان الترتارة ثمنها جديدة حوالي80 جنيها (اربعون دولارا) و لها رقم متسلسل و تتبع في ملكيتها لجهة نافذة في ملجة الخضار و اشار بيده الى زريبة مسورة بها عدة عربات كهذه، ايجار العربة من الجهة المعينة يبلغ 8 الف جنيه في اليوم و لا يمكنه ان يتجول في السوق بعربة خاصة به لان ذلك ممنوع و يعرضه لعقوبة مالية ضخمة، بالطبع و بحساب بسيط فان الرجل يدفع ثمن العربة كاملا كل عشرة ايام عمل و هذا الايجار يكون ثلث دخله اليومي من عمله ذاك، و دون اية امكانية لتملك وسيلة انتاجه حتى يخرج من حلقة الفقر المحكمة التي تحيط به من كل جانب. حالة يحي اعلاه هي حالة مئات الالاف إن لم يكن الملايين من المواطنين السودانيين الذين يقيمون في عاصمة البلاد تقتلعهم الحروب وسوء التخطيط الاقتصادي من اماكن سكناهم لتدفع بهم الى اتون العاصمة الذي لا يرحم، في بداية فبراير الماضي ذكر تقرير من جريدة الصحافة ان العاصمة تستقبل يوميا 150 اسرة نازحة من الاقاليم، و تشير التوقعات ان العدد قد يزداد خاصة مع انهيار القطاع الزراعي المخدم الاكبر للمواطنين في البلاد حيث يهدد انخفاض انتاجية مشروع الجزيرة و فشله الاداري في تشريد اعداد ضخمة من عمالته، ايضا قد يسبب انهيار تجارة الصمغ العربي في تشريد بضعة ملايين من العاملين و المستفيدين من هذه السلعة. السؤال الذي يطرح نفسه ما هي سياسات الدولة السودانية للتعامل مع هذا الوضع الشائك، افترعت الدولة مشروع النفرة الخضراء و ضخت فيه مليارات من الجنيهات (القديمة)، لكنها كانت غير واضحة المعالم و غامضة الاهداف و تفتقر الى التخطيط و المتابعة، فلم تؤدي الى نتائج ملموسة و تبخرت اموالها في البرامج الدعائية لها دون اية نتائج او احصائيات عن نجاحات تذكر، بعد فشل النفرة الخضراء الذريع ابتدعت السلطة برنامجا آخرا اسمته النهضة الخضراء لاحداث تحولات حقيقية في المجال الزراعي، و لان الضوابط و السياسات و انعدام الشفافية في الممارسة كان لا يزال موجودا فقد لحقت النهضة بزميلتها النفرة في الفشل الذريع مبتلعة معها كما الثقوب السوداء مليارات اخرى. بالطبع الفشل في المجال الزراعي الذي اوردت بعض من ملامحه اعلاه صاحبه تدهور مريع في التعليم و الصحة في اقاليم السودان المختلفة و جعل القليل البائس منها يتركز في عاصمة البلاد مما حدا بالجميع للتوجه اليها، و ما يحدث اليوم من هجرة جماعية هو نتيجة لضعف السياسات الاقتصادية الممارسة منذ الاستقلال الى اليوم و قد تزايدت وتائر هذه الهجرة بصورة عنيفة في العقدين الماضيين، و قد استبشر الكثيرين خيرا بعد تفجر البترول و ارتفاع نسب تصديره خلال الخمسة سنوات الماضية حتى وصل إلى اكثر من 500 الف برميل سنويا، لكن المتابع لاولويات الدولة في التخطيط الاقتصادي لا يرى اية أولويات لرفع المعاناة عن كاهل مواطنيها، و اتت ميزانية العام الحالي التي اجيزت بليل و دون الشريك الاخر في الحكم لتزيد الطين بلة. يستعرض الاستاذ علي محمود حسنين ملامح من ميزانية العام 2010 في ندوته في يناير 2010 في لاهاي كلاتي 77% لمقابلة الأمن والدفاع والمؤسسات السيادية. 23% لبقية مواطني السودان البالغ عددهم حاليا 39 مليون مواطن الارقام ادناها بالجنيه القديم ميزانية وزارة الصحه 122 مليار ميزانية وزارة التربية والتعليم 31 مليار ميزانية القصر الجمهورى 235 مليار جنيه. من ناحية اخرى ميزانية مشروع توطين العلاج بالداخل 4 مليار ميزانية مجمع الفقه الأسلامى 1,288 مليار و لنتأمل دعم العلاج بالمستشفيات. 18 مليار ميزانية دعم العلاج بالحوادث 19مليار ميزانية الرعاية والتنمية الأجتماعية 6 مليار ميزانية تأهيل مبانى وزارة الدفاع 121 مليار و لنتعجب سوياً ميزانية بنك الدم 18 مليون جنيه مصلحة الملاحه النهريه 632 مليون جنيه. جملة مشروعات المياه القوميه 2,5 مليار تنمية الملاحة النهريه 8 مليار ميزانية رئاسة مجلس الوزراء 24 مليار من الارقام اعلاها نستبين اولويات الدولة التي اجازت هذه الميزانية و للتذكير فإن ميزانية 2010 اجازها المؤتمر الوطني منفردا دون شريكته في الحكم الحركة الشعبية التي كانت في نزاع معه آنذاك و غاب نوابها عن جلسات البرلمان التي اجازت هذه الميزانية. لذلك فهي تعبير حقيقي عن عقلية المؤتمر الوطني في الحكم و تجسيد نقي لاولياته في حكم البلاد. الدولة تصرف 75 % (ثلاثة ارباع) دخلها على الامن و ذلك كان طيلة السنوات الماضية من عمر الانقاذ، و على الرغم من هذا البذخ الامني فقد اقتحم خليل ابراهيم العاصمة ممتطيا عدة لاندكروزرات، و لم تفلح الدولة في كبح العنف الذي تفجر ابان مقتل الدكتور جون قرنق بعد توقيع اتفاقية السلام. مما يعني ان المسئولية التي اولتها الدولة 75% من طاقتها لم تنجز بصورة جيدة الا اذا كان الانجاز يقاس بتأمين منازل المتنفذين من قادة المؤتمر الوطني و تهريب اسرهم الى المهاجر التركية أو الماليزية عندما تقرع الوطن الخطوب. انخفض الانتاج في القطاع الزراعي انخفاضا مهولا فبعد ان كان يشكل اكثر من نصف صادرات البلاد حتى العام 1989 صار اقرب الى 5 % من الصادرات حاليا، هذا الانخفاض الحاد في قطاع يعمل فيه حوالي 90% من السودانيين سيضاعف من وتائر الهجرة من الريف الى المدن الامر الذي اشرت اليه في صدر هذا المقال، في نهاية العام 2009 صنفت مؤسسة الشفافية العالمية السودان بأنه من يتذيل قائمة من 180 دولة في مجال الفساد و الفشل الاقتصادي جنبا لجنب مع دول تكاد تنعدم فيها مؤسسة الدولة مثل افغانستان و الصومال. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن ان يحدث كل هذا الفشل في التخطيط و لا تكون له تبعات؟ المتابع للازمة الاقتصادية العالمية الحالية قد يستشف الاجابة على هذا السؤال بالقياس، فقد ادت سياسات الاستدانة الغير مسئولة للمؤسسات المالية الامريكية في اسواق العقار خلال العقود السابقة الى كارثة و تسونامي اقتصادي اكتسح اقتصادات العالم من نيويورك الى طوكيو، مخلفا اثارا مدمرة في الاستدانة من النظام المصرفي بتريليونات الدولارات ستقوم اجيال قادمة في دول العالم المتقدمة بدفع فاتورتها مستقبلا. و بالقياس فإن سياسات الدولة السودانية الفاشلة في العقود الماضية ادت الى تكدس ملايين السودانيين من امثال اخونا يحي بترتارته المؤجرة، في بقعة واحدة يعاني معظمهم من قبضة فقر مدقع دون تصور من دولتهم لحل اشكالاتهم الحياتية المعقدة، هؤلاء تمخر سيارات الدفع الرباعي امام خراباتهم و خيامهم يوميا دون امل حقيقي في تغيير ظروف حيواتهم تلك، انها مسألة وقت ليس إلا حتى ينتفض هؤلاء في هياج غير منتظم يحرق الاخضر و اليابس. فهل نمنح السلطة الحالية اربعة سنوات اخرى كي تواصل هذه الفوضى ؟ أمجد إبراهيم سلمان 25 مارس 2010