كانت أول اختباراتي لعالم الرجولة، جسدها البَضْ ذي التفاصيل الدقيقة، والعينين السوداوين الواسعتين، ما تركتْ مكاناً لامرأةٍ من بعدها، توسّدتُ ساعدها ويدي تجوس خلال شعرها، قالت هل تستطيع التحديق في عينيّ؟ إنْ استطعت فافعل. حدّقت فيهما، رجلٌ يحمل كل تفاصيلي بيده، نصل يرعف دماً طازجاً أطلَّ عليّ من داخل سواد العين. إسْتَيْر ضمّتني لصدرها الفوّار النزق، أخرجتْ من بين نهديها تميمةً من الصدف الأحمر وقالت: احفظ هذه، يوم تفقدها أنت قاتلٌ أو مقتول. وافترقنا. تقولُ عنّي: كانت تجربتي معه إيفاءً لنذرٍ في لالبيلا(1)، إنْ وطئت قدماي مقرن النيلين سالمة لأمنحن مائة رجل ما يُنسيهم أبواب جهنم، كان هو آخرهم، من بعده لم يمسسني رجل، طعمُ فحولته لم يتركُ لرجل من بعده موقعاً، أعطيته التميمة التي أعطانيها الكاهن حين نقدته قربان النذر، لا زلتُ أبحث عن وجهه بين العابرين والمتسكعين. زهور بتْ غناوة، أقول عنها: نُسميّهم الحَلَبْ، يأتون من أين لا أحد يدري، يُعسكرون في الساحة التي تتوسّط المدينة، دائماً يجيئون مع نهايات الشتاء، يتهامس الرجال: نهايات الشتاء موسم للخمرِ وبنات الحَلَبْ. تتهامس النساء: نهايات الشتاء موسم للبخور والتعاويذ، موسم تفقدُ فيه العذرية معناها. جاءت مع أهلها ، تجوسُ خلال بيوت المدينة تبيع أشياء صغيرة وتقرأ الطالع، دخلت دارنا بلا استئذانٍ، فليس لدارنا أبواب، أهلي ذهبوا لمناسبة في مدينةٍ ما وتركوني وحيداً، أحرسُ الدار و أرعى ما فيها. حين ولجت عريشة القصب التي تتوسّط الأكواخ، ألقتْ بالتحية، وقبل أن أُجيب التقت عيوننا الأربعة على حين غِرَّة. مستلقٍ على سرير، نصف عار، وهي تتقدّم في خطى غير واثقة، نصف كاسية، تحملُ أشياء لا رابط بينها، ربما ألجمتها المفاجأة إذْ كانت تنتظر أنْ تجد أسرة، وحدتي هجّستها، حين دعوتها للاقتراب تلعثمت وهي تقول: أبيع المانكير ومناديلُ الورق وأحمرُ الشفاه وأقرأ الحظ. تخابثتُ وقلتُ : أنتِ حظّي الليلة. قالت: لمْ أفهم. قلتُ : لغة الجسد لم يفهمها أحد. قالت : لم أُغادر محطة البراءة. قلتُ : قطار المتعة لا ينتظر. كنتُ أول من وقّع على دفتر براءتها، تزداد ظمأ كلما كرعت في اللذة، حين فاجأتنا الشمس المتلصصة من خلال القصب، تصنّعت الذُعر وقالت سأُغادر، ربما خرج أهلي يبحثون عني. عند الرحيل أخرجت من بين نهديها تميمة من الزجاج الأزرق، قالت: يوم تفقدها، أنت قاتلٌ أو مقتول. حدّقت في عينيها السوداوين، كان ثمة رجل يحملُ كل تفاصيلي، يُحدِّق في وجهي، بيده نصلٌ يرعف دماً طازجاً، وافترقنا. تقول عني: أخبرتني العرّافة في سوق الدامر أنّ من يفضُّ بكارتي سيكون قاتلاً أو مقتولاً، وأعطتني التعويذة وأوصتني أنْ يعتني بحفظها، رغم أنَّ عاداتنا لا تُبيح فضَّ البكارة إلا لأحدِ أفراد العشيرة إلا أنّي قد ضننتُ بهم على الموت، احتفظتُ بالتعويذة لمن يجرؤ على التحرُّش بي، إنْ فقد التعويذة فقد ارتاد المهالك، طعمُ فحولته ما ترك صورةً لرجلٍ من بعده. التومة بت أم الكرام، أقول عنها: جاء رجلٌ غريبٌ من بلد بعيدٍ يحمل وصايا ورسائل من زوجها المغترب، حتى اللحظة لا أدري لماذا اختارني من بين طلاب المدرسة الثانوية ليسألني عن بيتها، رافقته في الطرقات التي تتلوى كالأفاعي. الزوج، ابتلعه غول الاغتراب منذ عقدين. يؤوبُ كل عامين أو ثلاثة، وحين يُكمل معاودة المرضى ومواساة المحزونين وإكمال الإجراءات في جهاز المغتربين لا يبقى له من الوقت ما يروي ظمأها المعتّق. طرقتُ الباب مطأطئ الرأس، جاءني صوتها ندياً طروباً مغنياً: أدخل، دخلنا. سلّمناها الوصايا والرسائل، ونحن نخطو نحو باب الدار مودّعين، ضغطت علي يديّ وهي تهمس: انقضى عبط الانتظار، الليلةُ يلتئم شقا البدر المتخاصمين فوق مثلث برمودا، كل ما تحلم به لك الليلة، فلا تجعل بينك والخلود مسافة. وأنا أودّع الغريب عند مفترق الطرق أمسك بيدي وحدَّق في وجهي، حين رفعت عينيّ لأرى وجهه كانت عيناه تضجّان بالأسى، ومنهما يطل رجل يحمل كل تفاصيلي بيمناه نصلٌ يرعفُ دماً نحيراً، الغريب أخرج من جيب جلبابه تميمةً من العاج و قال: يوم تفقدها أنت قاتلٌ أو مقتول. عدتُ لموعد اكتمال البدر، شربنا حتى الثُمالة وما ارتوينا، أصبحت اللقيا كما الأنفاس . تقول عني : ما عرفتُ الرجال إلا يوم زفافي، العريس سافر وأنا في مفترق الطرق بين اللذة والبراءة، يعود مرة كل عامين، وحين تتفتّح مسام العروق بنبض اللقيا يُغادر كما الطيف، في ليالي اكتمال البدر استلقي، أناجي البدر الضحوك، أرسم وجهه في وجه القمر، وينوب الأصبع الوسطى عنه في استحلاب اللذة، حتى كان يوم كان وجهاً غريباً يملأ وجه البدر وهو يناجيني أن افتحي مسامك لدفق الحياة من شراييني، افتحي الباب حين يعود طلاّب المدرسة عند الزوال. استجبتُ لنداء الوجه الغريب الذي ملأ وجه القمر، البناطيل والقمصان المتشابهة تقول إنهم طلاّب المدرسة، فقدتُ سمعي وبصري وحسي حين اقتحمت نظراته جسدي البض وهي تتخلّل الحرير الذي طرد الهواء بينه والجسد، ليلتها ناب الأصبع الوسطي عن وجه الغريب في استحلاب اللذة. العرَّافة التي تغشى القرية تبيعُ التعاويذ والتمائم ومسحوق الأعشاب الذي يُطيل لحظات الوصال، قالت: اقبضي من أثره حين يذهب وحين يؤوب، وآتيني به في منديلٍ من حرير أحمر وعظم من حوت، يأتيك حين تشائين، وأعطتني تعويذةً وقالت: من يروي عظامك بدفق الحياة وأنت ترغبين المزيد، قاتلٌ أو مقتول، يوم يفقد التعويذة. وقد شئته. * * * هاجس التمائم أخذ بتلابيبي، أخذتها للعرَّافة، قالت لن أقول حتى نتفق، قلت: اتفقنا، قالت: على ماذا، يا ولدي شرطي صعب. قلت :لا يهم. قالت: تواقعني نهار اقتران الزهرة وعُطارد حين تقف في الهجير ولا يبين لك ظل، تفقد ضعف العمر الذي عشته وأكسب كل العمر الذي مضى، يوم تفقد التمائم يقتلك ظلك وأعود لأهلي وليدةً تحملني غمامات الندى. قلتُ اتفقنا. اقتران الزهرة وعطارد، الهجير، الهجير، الهجير، وقفتُ في باحة الدار، لم يكن ثمّة ظل. لا ظل أمامي ولا ظل ورائي ولاظل عن يميني ولا ظل عن يساري ولا ظل تحتي، فقط فوقي شمس الظهيرة. أوفيتُ وعدي، وغادرت دار العرّافة، ومنْ وقتها لم يَعُد لي ظل أبداً. * * * دخلتُ بيت التومة، عطر الصندل المعتّق المخبوء منذ سنين، دخانُ الطلح وظمأ ستْ وثلاثين عاماً فقدتها في رهان العرّافة رويتُ عروقها بمشاش عظمي، مع مطلع الشمس أحسستُ خدراً يدعوني للاسترخاء. صوتُ التومة جاءني مترنحاً من بعيد: انهض، اللص سرق الذهب والثياب وملابسك من طرف السرير ونحن في دنيا الخلود. بين الخدر والنعاس صعقتني كلماتها، حاولتُ النهوض، فعاجلتني بما يستر جسدي المنهوك، تراجعت للوراء وسط السرير وأنا أحدّق تلقاء قميصي الذي رماه السارق بعد أن أفرغ جيوبه، فحصتُ القميص بحثاً عن التمائم، ولكنها كانت مفقودة ، حاولتُ النهوض ووجهي تلقاء باب الغرفة الذي يفتح ناحية الشرق لمحتُ نصلاً ينصلتُ نحوي في إصرار غريب حتى بلغ منتهاه. * * * صراخ التومة المولول جذبَ عدداً من المارة والمتطفلين الذين سارعوا إبلاغ الشرطة والنيابة. حين وصل تيم الشرطة والنيابة وأهلي وأصحابي والمتطفلون والفضوليون، رأوا ظلاً يمتد من السرير الذي استلقى فيه محاصراً بالدم النجيع الى الحائط ليستوي رجلاً يحمل كل تفاصيلي، بيده اليمنى نصلٌ يقطرُ دماً طازجاً. (1) مدينة في شمال اثيوبيا عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. //////////////////