أظن أن الخطوة الأولى لتصحيح مسار الثورة السودانية هي إصلاح ومأسسة قوى الحرية والتغيير لتستعيد زمام المبادرة وتلعب دورها في قيادة عملية التغيير. فقحت، هي الجهة التي توافقت عليها مجاميع الثوار لقيادة الثورة وإدارة فترة الانتقال. نجحت لدرجة كبيرة في مهمتها الأولى بقيادة عملية إسقاط نظام الكيزان، لكنها تتعثر الآن في المهمة الثانية وتتبعثر خطواتها. أسباب النجاح والتعثر مفهومة. فقد كان نظام الكيزان فقد القدرة على البقاء بسبب سياساته الخرقاء على جميع الأصعدة، ولفظه شعب غاضب منتفض ضد الجوع والقهر، وعندما توحدت قوى هذا الشعب السياسية والمهنية وأنجبت قحت، أدارت هذه الأخيرة العملية الثورية بنجاح وأرسلت البشير وكيزانه إلى مكانهم المستحق في التاريخ. كانت الشعارات وقتها واضحة، والقطيعة بين الشعب والنظام وصلت مرحلة متقدمة لا رجعة منها، وراكم الشارع خبرات نضالية في مواجهة حكم الظلم والمسغبة والمهانة، كافية لإزاحته. وكانت قحت في قلب الحراك الثوري، والتنظيمات السياسية والمهنية المكونة لها تقوم بدورها في التعبئة والتنظيم، حتى تمكن السودانيون من تحقيق حلمهم في الانعتاق. أما بعد إسقاط النظام، فقد اختلفت مصالح وتصورات القوى المكونة لقحت حول طرق ومسارات الانتقال. وهذا أمر طبيعي في الثورات. وما فاقم منه في حالتنا أن عملية التغيير الثورية لم تكن سلسة (هل كانت في أي ثورة أخرى؟!)، فقد فرخت الثورة شراكة مدنية عسكرية معقدة نتيجة لتوازن القوى في اللحظة الثورية الفارقة. اختلاف المصالح والتصورات هذا أثر تأثيرا كبيرا على وحدة قحت وتماسكها، وبدأت تفقد بوصلتها في توجيه دفة التغيير. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن انكشف ظهر الحكومة التي شكلتها قحت لتسيير الفترة الانتقالية، وأصبحت هذه الحكومة تعافر وحدها لوضع السياسات الانتقالية الملائمة، ومواجهة التحديات الشرسة ضد أعداء واضحين، ممثلين في بقايا الكيزان والدولة القديمة، وآخرين مستترين، ممثلين في بعض قيادات المؤسسة العسكرية والأمنية، والقوى الاجتماعية التي لا مصلحة لها في أن تحقق الثورة كامل شعاراتها. ونتج عن هذا وضع مختل، حيث اختار عدد كبير من الناس الاكتفاء بنقد الحكومة عوض توجيه النقد لقحت، المرجعية السياسية التي تقف خلف هذه الحكومة. وقد وصلت درجة النقد والعداء للحكومة أن صار البعض ينادي برحيلها، دون حتى التوقف للتفكير عن كيف تسقط الثورة حكومتها، أو ما هي آليات تغيير هذه الحكومة إذا تقاصرت عن قامة الثورة؟ هذا السؤال كان سيذكر هؤلاء الناس أن هذه الحكومة اختارتها قوى الحرية والتغيير بنص الوثيقة الدستورية، وحق تقويمها، إذا قصرت، أو تغييرها ما زال بيد قحت. لذلك أعتقد أن قوى الثورة يجب أن تضغط على مكونات قحت الحزبية والمهنية للعودة إلى منصتها الأولى بالتوافق على برنامج عمل مشترك لإدارة فترة الانتقال، وإصلاح مؤسساتها القيادية للنهوض بهذا الدور، وكنت أتمنى، كما تمنت مبادرة إذاعة صوت الثورة السودانية في ورقتها المنشورة الشهر الماضي (أنظر الرابط أدناه)، أن تتجه مسيرات 30 يونيو التي مضت إلى مقر المجلس المركزي للحرية والتغيير للمطالبة بإصلاح قحت، الذي سينعكس على إصلاح عمل الحكومة وجميع مؤسسات الانتقال. محاولة إصلاح قحت ليست يسيرة، فمصالح وتصورات مكوناتها اختلفت بعد سقوط النظام كما ذكرت، لكنها ليست مستحيلة. وسأضرب مثلا باثنين من أكبر مكونات قحت، وهما حزب الأمة والحزب الشيوعي. فكلنا يعرف أن حزب الأمة جمد عضويته في قحت، والحزب الشيوعي، المتشكك في جذرية مواقف المكونات الأخرى، وقف على الرصيف، وهذان حزبان رئيسيان في التحالف ومؤثران على المشهد العام، كل على طريقته. حزب الأمة يناور ويضغط من أجل الحصول على حصة أكبر من التمثيل في مؤسسات قحت بحجة حجمه التاريخي ودائرته الانتخابية الافتراضية، مهددا بوضع العصي في دواليب مركبة التغيير إذا لم يحقق له مراده، ولا يتورع في سبيل ذلك من التلويح بإمكانية التحالف مع الأعداء، والدعوة لانتخابات مبكرة، ناسفا فكرة الانتقال المهمة. والحزب الشيوعي عصلج عند محطة الوثيقة الدستورية المعيبة التي ولدت طفلا خديجا غير مكتمل النمو حسب رأيه، وراوح في مكانه لا يقدم جوابا ما إذا كان المطلوب أن نحاول إنقاذ هذا الطفل أم ننتظر ولادة جديدة. لكن للحزبين طاقة كامنة يمكن استنهاضها لصالح تغيير موقفهما السلبي الحالي. فالحزبان تضررا ضررا بليغا من شمولية نظام الكيزان الذي قطع عليهما أسباب الحياة الطبيعية، ويحتاجان للديمقراطية والتداول السلمي للسلطة للنمو والازدهار. كما أن قواعدهما كانت أقرب للمشهد الثوري، وشاركت بفاعلية في الحراك الوطني الذي أسقط حكم الكيزان. فدعوتهما لإعلاء صوت العقل لن تقع على آذان صماء. ويصح هذا القول على مكونات قحت الأخرى كما سأحاول تفصيله في كتابة لاحقة. محاولات ومبادرات دفع مكونات قحت للتوحد واستعادة دورها وزخمها يجب ألا تتوقف. وأنوه هنا بالمجهود الكبير المبذول في مبادرتي جامعة الخرطوم وإذاعة صوت الثورة السودانية الرائدتين. لكن يجب أيضا أن يكون هذا واجب جميع قوى الثورة. ولأن الرهان ما زال على قوة وفاعلية الوعي القاعدي للثورة، وأقصد به لجان المقاومة، رفاق ورفيقات وأسر الشهداء والمفقودين، وأصحاب المطالب المشروعة في الحضر والريف من المجموعات السكانية المتضررة من سياسات الكيزان، آمل أن تصر هذه القوى على حث المؤسسة السياسية الشرعية للثورة – قحت على القيام من عثرتها، وعقد مؤتمر عاجل تناقش فيه القضايا الخلافية أمام الملأ بغرض الوصول إلى اتفاق الحد الأدنى، ووضع ومتابعة خطط الانتقال. ويجب التذكير بأنه دون إصلاح قحت ودفعها للاضطلاع بدورها الدستوري يصبح نقد الحكومة والتبرم من أدائها غير ذي معنى. لأنه إذا افترضنا أن هذه الحكومة أقرت بتقصيرها أو قالت إنها مستعدة لتنفيذ خطة أو برنامج غير الذي هي منخرطة فيه، فمن سيحاسبها أو يعرض عليها برنامجا بديلا لتنفيذه في غياب قحت قوية ومتماسكة وفاعلة. وإلى حين إصلاح قحت ومؤسساتها ستظل الحكومة في هذا الوضع المؤسف؛ فهي تتعرض إلى هجوم كاسح من أعدائها وأنصارها، أثناء وقوفها بدون سند سياسي مؤسسي، ومطلوب منها أن تطارد أشباح قحت لتطلب منهم الدعم والمشورة. وسيتفاقم ميل الحال عندما تبدأ بعض مكونات قحت في النفخ في نيران نقد الحكومة بهدف إضعافها اعتقادا بأن هذا قد يعزز مواقعها التفاوضية أو يثبت صحة تصوراتها. كل هذا لا يعني أن الحكومة بلا أخطاء، فهي تخطئ وتصيب مثلها مثل كل حكومات الأرض. لكن حتى وقت تشكيل المجلس التشريعي المرتقب، والمناط به مراقبتها وتوجيهها، ستكون صنيعة قحت ومسؤولة أمامها كما يقول الدستور. هناك رأي آخر عن الحكومة برز مؤخرا، وهو أنها ليست قليلة الحيلة فحسب، بل يقودها ويسيرها متآمرون يلعبون أدوارا مرسومة بعناية وبمشاركة أطراف خارجية. ما كنت سأتعرض لهذا الرأي من فرط مشابهته لخطوط أجهزة الكيزان الإلكترونية وسمومهم المبثوثة، لولا أنه بدأ يتسرب إلى صفحات من أثق في حرصهم على الثورة ومآلاتها، ولأن له صلة بموضوعة قحت هذا رأي، في أحسن أوصافه، كسول. من يقول به يريد أن يهرب من مشهد معقد بتوازن قوى دقيق ليصوره كمواجهة بين ثورة منتصرة ومكتملة وبين مؤامرة كونية ببيادق محلية دون تقديم أدلة تدعم هذا الزعم، وفي نفس الوقت يغفل عن حقيقة أن هذه الحكومة تشكلت أمام أعيننا من تحالف تعصف به مشكلات هيكلية وخلافات عديدة. فبدلا عن أن ندفع قوى الثورة للضغط على قيادتها السياسية لتصلح من حالها لينصلح بذلك حال الحكومة التي شكلتها، يريد لنا هذا الرأي أن نركن إلى أن الأمر خلفه مؤامرة ولا دخل له بقدراتنا أو قدرات قحت. مجمل القول هو أنه إذا أردنا التخلص من حالة السيولة والاختناق السياسي الحالية يجب أن نضغط على مكونات قوى الحرية والتغيير لإصلاح مؤسساتها القيادية والقيام بدورها في إدارة دفة المرحلة الانتقالية، وأن تفعل ذلك في العلن وفي جلسات مفتوحة حتى يعرف الشعب موقف قواه السياسية التي ائتمنها على قيادة ثورته. وأعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على مدنية ثورتنا الباهرة. رابط مبادرة إذاعة صوت الثورة السودانية: https://srv-initiative.com عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.