الخرطوم - 19 يوليو 2020م - في شخصية إبراهيم منعم منصور:"النفس الفاضلة لا تطغى بالفرح، ولا تجزع من الترح، لأنها تنظر في كل شيء كما هو، لا تسلبه ما هو له، ولا تُضيفُ إليه ما ليس منه.." – سقراط. - في رثاء الأستاذ إبراهيم منعم منصور تجدني استعير من المجذوب في قصيدته (وداع): أيها الطامعون ما أنا ساعِ ربض الموت في الخُطى والمساعي لي من يومي الطويلِ سويعاتٌ نهشن البقاء نهش الأفاعي وثوان ذَهلتُ فيهن أقبلن بدهرٍ من القبور مشاعِ آلمني حقاً رحيل رجل الدولة والإداري الفذ الأستاذ إبراهيم منعم منصور، الرجل الموسوعي نهّم الإطلاع، الحريص على الكتابة والتدوين، والقارئ من نوع خاص، إنها الصدفة السعيدة التي جعلتني أقع على مذكرات الرجل بإشارة من صديقي البروفيسور المعتصم أحمد الحاج، والذي مشكوراً منحني نسخة من كتاب ثقيل الوزن، عظيم الفائدة، وحين قرأت هذه المذكرات توقفت كثيراً أمام هذه الذاكرة التي احتفظت بتفاصيل غاية في الدقة لتاريخنا الوطني، فالذي ميّز شغل الرجل خروجه عن نسق المذكرات والسير الذاتية المتعارف عليها، وهي تلك التي تدخل أكثر في الخاص، وتعرضُ للعام في سبيل حفظ موقع الكاتب في بعض الأحداث، لكن الأستاذ منعم أراد أن يؤرخ لحقبة كاملة عاشها وتفاعل معها وأثر فيها، وكان له سهم وافر في كثير منها، بالذات إبان عمله في حكومة مايو وزيراً للمالية. كان الملفت أنني بعد قراءة أكثر من 1750 صفحة من مذكراته ازددت يقيناً بأنني أمام كتابة مختلفة، ولست في موقع يتيح لي تقييم عمل الرجل، لكن هذه المذكرات وعلى شموليتها ووضوح لغتها قد كتبت بلغة مُحفزة على القراءة، بل باحترافية عالية، يكفي أن نقرأ كيف أن المال السياسي القادم من جارة لنا لصالح جماعة سياسية انتهى إلى حناجر، إنها كتابة أقرب للشعر في بعض جوانبها. فمن بين السير والمذكرات التي كتبت بأقلام رجال الحركة الوطنية، منذ أحمد خير في (كفاح جيل)، ومحجوب في (الديموقراطية في الميزان) وأحمد سليمان المحامي وخضر حمد وغيرهم، فإن الأستاذ إبراهيم منعم منصور كان حريصاً على إخفاء أدواره لصالح الصورة الأشمل في تاريخنا السياسي والاجتماعي، حتى أنك لتجد من الرجل انتباهات ذكية لأحداث ظللنا ننظر إليها في جانبها التوثيقي والمدرسي، إلا أن الرجل كان يقلب جوانب في الرواية غابت عنا، أو أننا بسبب من دوافع سياسية كامنة في فهمنا بتنا نرتبها على خطاب من الإدانة أو التأييد، لكن صاحب المذكرات كان يعرف الشفرة الخفية للقارئ النابه، ولذا فإنه يسرد لك أحداثاً معروفة لكنه يعيد بناء خطابها لصالح معرفة أكثر عمقاً، هكذا بدت لي كتابة الأستاذ إبراهيم منعم منصور. كانت الفكرة في تسجيل حلقات معه نتناول فيها بعض جوانب من تاريخنا الاقتصادي وسؤال التنمية في السودان، فذهبت إليه بعد ترتيب بالهاتف رفقة صديقي ياسر فائز، وأول ما استرعى انتباهي في الرجل هذا الصفاء الذي يعيش بين عينيه..صوته الهادي المرتب رغم تقدم السن، وأيضاً حفاوته باستقبال من هم في عمر أبناءه وكأنهم أنداده، جلسنا للرجل وهو مشتمل على حضور طاغي، يرتدي عمامة ملفوفة بطريقة مميزة، وحين بدأنا في الحديث إليه عن رغبتنا في إجراء حوارات تلفزيونية عن الاقتصاد، كان الرجل ينصت إلينا دون تصويب، بل يكتفي بإرسال إيماءة موافقة لنعبر لباقي المحاور، وبعد جلسات عقدنا العزم على تسجيل عدد محدود من الحلقات مع الرجل، لكن بعد تسجيل الحلقة الأولى اكتشفنا أننا أمام ذاكرة لا تخون، وأمام رجل يعرف كيف يوجه حديثه إلى المشاهد، وفي نقاشاتنا قبل الحلقة كان يحرص على تدوين النقاط التي سنتناولها في الحوار، لم يعترض على شيء بل كان دائماً ما يقول بلطف حقيقي: "أنا ما عندي مشكلة، أنت أسأل، وأنا بجاوبك"، لا أدري كم فاتنا ولم نستمع إلى الأستاذ إبراهيم. بعد الحلقة الثالثة كان دافعي الرئيس للجلوس إلى الرجل أن أختلس الدقائق قبل تجهيز الكاميرات في داره العامر، ولا أنسى أخي محمد المهدي وهو حفي بنا في وسامة أصيلة فيه، ومحمد إبراهيم منعم منصور الرجل الذي تصادفه فيقع في قلبك موقع الصديق القديم، كنت أذهب قبل فريق العمل لأجلس إلى الأستاذ إبراهيم الذي بدأت أشعر أن هناك رابطاً يجمعني بهذا الرجل، لعل السبب في تفضله بإضفاء طابع أبوي على غيره، فالجلسة معه كانت تتخللها أحاديث كان يصر أنها ليست للنشر وأنه يخصني بها، يا لهذا الفضل من رجل ذو سعة، ورغم وقاره الشديد فأنه كان يتعاطي الطرفة ويضحك، ولذلك فقد امتدت جسور الإلفة مع الرجل شديد التهذيب، ترى كيف تربى هذا الجيل ولم نستمد منه إلا القليل؟. إن الجلوس إلى إبراهيم منعم منصور مجلبة للحسد لا شك في ذلك، أي أنك تحسد نفسك على هذه الفرصة التي أتيحت لك لتتعلم وبالمجان كيف تشكلت هوية جيل بأكمله، كان الأستاذ منعم منصور النموذج الأسطع، فعلى المستوى الإنساني كان الرجل يملك رقة وتهذيب، وكثير من ذكاء يطل من عينيه مع ثقة جللها حضور طاغي بالمكانة غير المصنوعة، يكفي أننا أمام رجل من بيت عظيم، بيت سلطة لكنها سلطة للناس وبهم، وليست امتيازاً يتفوق به صاحبه على الناس، وشخصية الرجل كما وصفها الأستاذ المحبوب عبد السلام في حلقات سجلناها قراءة في مذكرات الرجل، يراه المحبوب بأنه رجل عملي واقعي شديد الموضوعية، ولا يعرف من الأمور إلا نتائجها، أو هكذا قال. ومما حكى لي الرجل أنه يريد أن نستعرض معاً تاريخ حراكنا الوطني، وكان كل مرة يركز أكثر على الفرص الضائعة التي بسببها نحن الآن، وعجبت حقاً لهذه الذاكرة الماكرة شديدة الحرص على عدم تفويت أية تفصيلة كيف لا والرجل من جيل تدرب على أهمية الوقت واللغة، وأكبر دليل كان حرصه على ألا نبدأ الحلقة دون كراسته الصغيرة التي يدون فيها في غفلة مني النقاط التي يريد أن يتناولها في الحوار، حقيقة وعلى مدى سنوات كنا نعمل على إجراء حوارات سياسية وثقافية بصورة أخص، وكان الأمر بالنسبة لنا عمل ومحاولة بناء الذات وتطوير الأداء في العمل الإعلامي، لكن تراجعت هذه الحالة المغلقة على المهنية والتركيب لصالح حالة أخرى فيها من المودة والمحبة التي يوزعها الرجل في أي مجلساً ضمنا، ما جعل من الحزن على رحيله عبئاً ثقيلاً لم أكن أعرف أنه بإمكان الحزن أن يمارس طغيانه على البدن والذهن للدرجة التي لا تستطيع فيها أن تحبس دمعك، وهو من الذين يستحقون أن تبكيه المجالس. يُعد إبراهيم منعم منصور من المثقفين القلائل الذين يفرقون حقاً بين مصلحة الوطن والأيديولوجيا، فقد دخل إلى حكومة مايو بعد أن طلبت منه، إذ انتقل من القطاع الخاص والذي حقق فيه نجاحات كبيرة إلى الوزارة، لم تكن فكرة السلطة مما يشغله، بل كان رجل يعرف قدراته وأين يضعها، ولذا فإنه حقق النجاح في العمل الحكومي رغم تدخلات السياسة، بالفعل كان الأستاذ منعم منصور إطلالة حب في حوش الوطن، كان كل حديثه وخيبات الأمل التي أصابته طيلة مسيرة عمله لا تتصل بطموح شخصي، لا، بل هي معنى أصيل للوطنية، لرجل قلبه مشحون بمحبة هذا البلد، وهذا هو سر قوة إبراهيم منعم منصور، فإذا كانت النخبة وليس كلها قد تعلقت بالمنصب لأجل الجاه، فإن الرجل وما لاقاه من تآمر وحسد لم يحمل في نفسه ضغينة لأحد، إلا أمراً واحداً قال لي بأنه لا يزال غضباناً فيه، وهو ما تعرض له إبان تطبيق الشريعة في ظل حكم النميري، إذ ناله من بعضهم أذى وصل حد تكفيره، لكن دون ذلك فالرجل لم يحمل أي شر في داخله، إنه حالة من شجاعة مع النفس والآخرين، مصداقاً لقول الشاعر: إن الشجاعة مقرونٌ به العَطَبُ إن الكرامَ على ما نَابهُمْ صُبُرُ وهكذا كان الراحل، تسامح يستند على معنى عقلاني وإنساني، كانت كل حلقة من حلقات (السودان والفرص الضائعة) وهو عنوان اخترناه من مقالاته التي حدد فيها مواقع الزلل التي صاحبت بناء الدولة السودانية وحتى راهننا، قلنا كل حلقة هي درس للساسة والمشتغلين في الشأن العام، ولا أدري كيف لأمة أن تتطور دون أن تضع أصحاب المواهب والقدرات والناجحين موقعهم من الاستشارة والنصح، نحن بلد عجيب حقاً، نشتكي من غيابنا في محيطنا الإفريقي والعربي، وكيف أنه لا احتفاء بالشخصية السودانية هناك، والعجيب أننا من يفعل ذلك، فلا مؤسساتنا المعنية بحفظ الذاكرة تولي اهتماماً بالجلوس إلى أصحاب الخبرات والنهل من تجربتهم، ولا الساسة قادرون على التخلص من تبادل العنف السياسي منذ ثورة أكتوبر 1964م، إن المشكلة هنا وليس هناك. كانت إدارة قناة سودانية 24 حريصة على تسجيل هذه الحلقات لما فيها من فائدة كبرى، وكان فريق العمل من الزملاء وكذلك مخرج هذه السلسلة الأستاذ أحمد إبراهيم يعملون على إنجاح هذه السلسلة بمحبة منهم لهذا الرجل، بل كان هو كذلك لا يوفر ابتسامته الصافية في الترحاب بهم وإشاعة جو من البهجة بيننا، يفعل ذلك لصفة أصيلة في رجل عاش ورحل وهو مسكون بالحب لكل شيء، حتى أن القهوة التي كان يطلبها بين استراحة الحلقة كانت طريقة لمساعدة الفريق على إكمال عملهم وهم في غاية النشاط. إن ما ينبغي أن نلتفت إليه في درس رحيل الأستاذ إبراهيم منعم منصور، شيء واحد وهو أن نُعمّر هذه الذاكرة بتجارب رموزنا الوطنية، وينبغي على الأجهزة الإعلامية أن تعرف إلى أي حد يتصل عملها بدور جليل وهو نشر المعرفة وحماية ذاكرتنا الوطنية من النسيان. سجلت مع الراحل 17 حلقة بثت منها 13 حلقة وبتدابير القدر لن يشاهد عمنا إبراهيم منعم منصور الحلقات المتبقية لكن رسالته حتماً ستصل للمجتمع السوداني الذي أحبه. (سنقوم ببث بقية الحلقات في أيام العيد). رحل الأستاذ إبراهيم منعم منصور في السادس عشر من يوليو 2020م وقد آلمني حقاً رغم قِصر المدة التي تعرفت فيها على الرجل، لكنني سأقول لأحفادي كيف أن جدكم الفقير إلى الله هذا جلس يوماً ما إلى رجل أجمل ما فيه صدقه وعلمه وتواضعه وإنسانيته، رحم الله العم العزيز إبراهيم منعم منصور، وصادق تعازي لأهله وعشيرته وعارفي فضله، اللهم إنه عبدك ابن عبدك ابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسناً، فزد في إحسانه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.