سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    images (21)    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسيرة طويلة في شأن الوطن: عرض مذكرات إبراهيم منعم منصور .. بقلم: الحاج سالم مصطفى
نشر في سودانيل يوم 23 - 01 - 2018

إبراهيم منعم منصور(2017) مذكرات ابراهيم منعم منصور. مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية، ام درمان.1178 صفحة
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عندما زحف الإمام المهدي بجيشه الظافر من كردفان صوب الخرطوم ،كان الأنصار يهللون في مسيرتهم الطويلة : "في شأن الله"، وحين كتب مانديلا مذكراته سماها " مسيرة" طويلة من أجل الحرية ، وحق لمعالي ابراهيم منعم منصور أن يسمي مذكراته " المسيرة" وهو العنوان الأصلي للمذكرات كما جاء في أعلي الصفحات الداخلية للكتاب، ولكن - ولسبب غير معروف - لم يظهر هذا العنوان في صفحة عنوان الكتاب. والكتاب بالفعل "مسيرة" طويلة لرجل خدمة مدنية ممتدة تولدت لديه خلالها حصيلة وافرة لتربية سودانية أصيلة، وعمل تقلب فيه بين الحكومي والخاص لفترة تربو على ستة عقود ، نال خلالها العديد من التجارب، واستلهم كثيراً من تراث الشعب السوداني، وبعض الشعوب الأخرى وثقافاتها، وتراكمت عنده شهادات عِيان لأحداث مفصلية شكلت جزءً كبيراً من تاريخ السودان السياسي من استقلال وديمقراطية وانقلابات عسكرية وثورات وحروب وكوارث وأفراح وخيبات وطرائف وحكايات،!
الذين يكتبون مذكراتهم يسعون لتحقيق أهداف محددة من خلال المذكرات، فمنهم من يريد أن يكون " شاهدا على عصره"، أو ربما بحثاً عن مجد شخصي، أو تبريراً لإخفاق، أو ربما يعتقد الكاتب أن حياته بها ما يستحق أن يروى لتستفيد منه الأجيال اللاحقة، ولقد حدد المؤلف بوضوح هدفه من كتابة هذه المذكرات فذكر أنه فكر في كتابتها "استجابة لطلب الأسرة والأهل والأصدقاء ، فشباب الأسرة وبعض الأهل يريدون أن يعرفوا ولو قليلا عن أهلهم أو (حمر)... وبعض الزملاء أو الأصدقاء يريدون أن يعرفوا لماذا ترك المؤلف (الميري أو التمرغ في ترابه) وكيفية انتقاله إلي القطاع الخاص وصعوده إلي قمة أكبر صرح صناعي في البلاد وقتها وهو مصنع النسيج السوداني، وتوابع مؤسسة الخليج العالمية من شركات صناعية وزراعية وخدمية ، بينما كان بعض الأصدقاء والمعارف يريدون فقط معرفة خبايا وأسرار مرحلة مايو، وبالتحديد عن النميري وما يروى عنه من قصص بعضها أشبه بالأساطير، في حين تعلق آخرون لمعرفة خبايا العمل ( القصير جداً) مع الانقاذ" وما جرى له فيه، رغماً عن أن الصحف كتبت الكثير حينها عن هذا الأمر "الجلل"، وفوق هذه الدوافع يقول المؤلف إنه كان "مهتماً بالكتابة لنفسه أيضاً لتسجيل ذكرياته مع أقرانه الذين بدأ معهم "المسيرة" بعد سن العاشرة بقليل، وامتدت لنحو سبعة عقود، وكيف اجتاز ابن " صُقع الجمل" كل هذه المراحل"؟
لقد استطاع المؤلف تلبية رغبات الأسرة والأهل والأصدقاء والأقران في هذه المسيرة التي يمكن وصفها بمشروع توثيقي لتاريخ السودان الحديث منذ الثلاثينيات وبأسلوب جاذب وملاحظة دقيقة لأحوال البلاد وبسلاسة في التعبير وغوص في كثير من أمورنا المتردية منذ الاستقلال وإلي يومنا هذا، مع مسحة إنسانية من الحنين للأماكن والأشخاص، وجاء كل ذلك رغم ادعاء الكاتب- تواضعاً- إنه ليس بكاتب.
ولد معالي إبراهيم منعم منصور في قرية صُقع الجمل بغرب كردفان التي أسسها الناظر الشيخ إبراهيم بيه ود المليح حفيد مؤسس دار حمر الشيخ مكي أبو المليح في القرن التاسع عشر، وكان أحمد المليح أخ إبراهيم بيه قد حاول الوصول من موطن قبيلة حمر في دارفور للمناطق الشمالية والجنوب غربية من دار حمر إبان توليه الشياخة في أوائل العقد الثامن من القرن التاسع عشر ،إلا أن تحالف بعض بطون القبيلة ضده حصر طموحاته في المنطقة الواقعة حول منطقة الزرنخ القريبة من دارفور ،ولكن عندما تولي إبراهيم الشياخة اتجه غربا وقام بحفر العديد من أشجار التبلدي لتخزين الماء وهو الأمر الذي مكنه من إنشاء مجموعة من القري من بينها صُقع الجمل التي تطورت فأصبحت في فترة ما من تاريخها عاصمة لعموم قبيلة حمر ومقراً للناظر الشيخ منعم منصور قبل انتقاله للنهود. وقد دخلت صُقع الجمل التاريخ السوداني الحديث لأكثر من مرة، فقد "ضرب بها مثلاً" السيد محمد أحمد جحا( دقيس) في مجلس الشعب المايوي عن سوء المركزية في اتخاذ القرارات التي تهم معايش الناس فكان أول من نادى بالحكم اللامركزي في أول مجلس للشعب في مايو عام 1973 حيث قال وقتها " كيف يعقل أن يتقدم مواطن في النهود لطاحونة في صُقع الجمل بطلبه الي الخرطوم للتصديق عليه"! ورغم هذا "الصيت والشهرة" ما زال بعض مذيعي اذاعة أم درمان ينطقونها "صَقّع الجمل" (بفتح الصاد وتشديد القاف) فتأمل!
ويتحدث إبراهيم منعم حديث العارف عن تاريخ قبيلة حمر العربية وبنيتها الاجتماعية وعاداتها وتقاليدها وأعرافها المختلفة وعلاقاتها مع القبائل المجاورة وسبل كسب العيش والنظم الإدارية، ولقد كانت قبيلة حمر من أقوي قبائل كردفان من حيث الثروة وعدد السكان وقد أجاروا وتساكنوا مع عدد كبير من القبائل ونالت القبيلة مكسبا كبيراً من هؤلاء "الأغراب" الذين ذكرهم المؤلف في "المسيرة" ولاشك أن حمر زوجوا وتزاوجوا مع غيرهم من القبائل ،بل تزوج بعض هؤلاء الأغراب من الأسرة الحاكمة وصار أبناؤهم وأحفادهم جزءً من النسيج الاجتماعي الحمري (في خشم بيت مكي) كما تقول الحبوبات ، أو في "بطن البيت" كما وصفهم المرحوم الناظر منعم منصور.
وتطل علينا عبر ثنايا الكتاب ذاكرة مدهشة ومتوقدة تحتفظ وتسرد -وبأدق التفاصيل رغم تقادم العهد وتوالي الأعوام- تجلي ذلك في تذكره لأسماء دفعة الدراسة من "المسيد" في صقع الجمل في الثلاثينيات إلي مرحلة الدراسة الجامعية والعمل العام فيما بعد ، فعلاوة على إيراد أسماء دفعته في حنتوب ( مع الألقاب) والبالغ عددهم 97 زميلاً تبوأ بعضهم أعلي المراتب، بينما طوى النسيان البعض، ترد الكثير من الأسماء الأخرى ممن قابلهم معاليه في دروب الحياة ،ولا تكاد صفحة من صفحات الكتاب تخلو من ذكر الأسماء وقد عدّدتُ المئات من هذه الأسماء خلال قراءتي للكتاب، وتلك لعمري قدرة عجيبة على تذكّر الأسماء قلّ أن تتوفر في أبناء الجيل الحالي. ولعل من محاسن الكتاب أن المؤلف يذكر الوقائع والأسماء كما هي وكما حدثت "ليس نكأً لجراح أو تجريحاً، بل بهدف أن يودع خزائن التاريخ وجهة نظره في ما حدث ولكي يقول التاريخ كلمته" ، ولم يشذ عن تلك القاعدة إلا في حالتين فقط ولأسباب موضوعية ذكرها الكاتب، وهذه محمدة كبيرة للمؤلف يجب علينا شكره عليها فلو حجب هذه الأسماء ووضع مكانها نقاطاً أو حروفاً ولم تصلنا لتعجب القراء وتساءلوا وتخبطوا في معرفة تلك الأسماء ولماذا حجبت؟؟ ولتحول الأمر " ليومية تحري" بدلاً من إيداعها في فضاء التاريخ الرحيب، فمن حق الأجيال الحالية واللاحقة أن تعرف من تآمر، ومن طعن من الخلف ومن أخلص الود وحفظ عرى الزمالة والصداقة من الزملاء والأقران بل من بعض الأهل وذوي القربى في بعض الأحيان.
لقد قادت الصدفة وحدها الكاتب أن يدرس الاقتصاد بعد أن رفض بكل إصرار اقتراح مفتش مركز رئاسة مديرية كردفان المستر ماكوماس لدراسة الإدارة بدلاً عن رغبته في دراسة الطب وقد أحرز من الدرجات ما يؤهله لدخول هذه الكلية ، ولعل من "محاسن" رفض المفتش لرغبة المؤلف أنها أبعدته من دراسة الطب ولولاها لخسر السودان العالم الاقتصادي والوزير و رجل الإدارة والأعمال إبراهيم منعم منصور .
ويحكي المؤلف تلك الصدفة " الجميلة" التي قادته لدراسة الاقتصاد فذكر أنه قابل أحد أساتذته البريطانيين في حنتوب في المحطة الوسطي بالخرطوم الذي أقنعه بتغيير مساره وعدم دراسة الطب بل دراسة الاقتصاد وزاد عليه مشجعاً بأن "الاقتصاد هو الذي يحرك تقدم البلاد النامية وإن الأطباء أو المهندسين يمكن استقدامهم من أي مكان ،غير أن العاملين في مجال الاقتصاد والقانون يشكلون المجموعة التي تقود البلاد سياسياً على أساس من العلم وليس الهواية".
ويأتي إصرار المفتش على رفض قبول المؤلف بكلية الطب تنفيذاً عملياً لسياسة استعمارية ماكرة، فقد كان الإنجليز يخططون لاستحداث نظام إداري بديلاً عن الإدارة الأهلية لذلك كانوا يختارون بعض أبناء قيادات الإدارة الأهلية للقبول بمدرسة الإدارة والبوليس ليتم تأهيلهم ليصبحوا نواب مآمير وكذلك لقيادة الإدارة الاهلية كضباط مجالس ريفية خلفاً لأبائهم حتي لا يُحدث إلغاء الإدارة الأهلية أي هزة اجتماعية، وعلى الرغم من مكر هذا التدبير إلا أن ما حدث بعد ذلك وبعد إلغاء مايو للإدارة الأهلية والحال التي نحن فيها الآن ربما يدفعنا للقول أن الانجليز كانوا علي حق في الإبقاء على نظام الإدارة الأهلية أو الحكم المباشر .. وقد تجلي ذلك في ما نشهده الآن من الانفلات القبلي وعدم طاعة واحترام الناس لقادتهم المحليين خلافاً لما كان عليه الحال في السابق إذ كان معظم قيادات الإدارة الأهلية بالسودان يسوسون ديارهم بالحكمة والحلم وعدم العنف والمحافظة على علاقات قبائلهم مع القبائل المجاورة. وبعد حل الإدارة الأهلية، عجزت الحكومات المتعاقبة عن سد الفراغ علي النحو الذي أورده المؤلف ، فقد فشل النظام الجديد فشلاً ذريعاً وأحجم كثير من فضلاء وعقلاء الناس عن المشاركة في مهازل المحاكم الشعبية وفتح المجال واسعاً للانتهازيين وطالبي الثراء الحرام. وقد أنكر الجميع من العقائديين والديوانيين والأفندية مسئوليتهم عن حل الإدارة الأهلية فضاع دمها " بين القبائل" ، ثم تراجعت أو بالأحرى "راجعت" مايو (فالثورة تراجع ولا تتراجع) قرار حل الإدارة الأهلية فأعادت بعض السلطات للنظار والمشايخ، ثم جاء زمان تبدل فيه الحال فصار الناظر والأمير وشيخ الخط والشرتاي والعمدة مطية والعوبة في يد الحكام.
ويروي إبراهيم منعم في استراحة وهو -ضرب جديد في كتابة المذكرات- بعض الغيبيات والخوارق التي صادفها أو شاهدها خلال حياته ولعل من أطرفها ما شاهده في دار حمر، وفي حوش الشيخ منعم بالنهود الذي يعج دوماً بالأهل والشعراء والمادحين وأصحاب الحاجات وعابري السبيل من أبناء غرب وشمال وغرب إفريقيا ، وقد روى بأسلوب مدهش بعضاً مما شاهده في الحوش وفي المحكمة من خوارق، هذا رغم أن" سيد الحوش" الناظر منعم منصور لا يعتقد أبداً في هؤلاء، ومن طريف ما يروى في هذا الصدد ما ذكره الشيخ بابكر بدري في" تاريخ حياتي" عن مقابلته للشيخ منعم منصور في حلة أبو جفالة سنة 1926 وعن ما جرى مع "الفقير الأعرج" القادم من نيجيريا.
عمل المؤلف لمدة 12 عاماً في الخدمة المدنية بدءً من وزارة التجارة والتموين التي أصبح فيها سكرتيراً لمعالي الوزير حماد توفيق ثم مساعد مفتش بقسم التجارة، فالبنك الزراعي، ثم اتجه للقطاع الخاص فعمل في شركة الخرطوم للغزل والنسيج ( مصنع النسيج الياباني) وانتقل بعد ذلك إلي مصنع النسيج السوداني ومؤسسة الخليج العالمية حتي عام 1972 عندما جاءته الوزارة "منقادة تجرجر أذيالها" فاختير وزيراً للاقتصاد والتجارة(1972-1973) ثم وزيرا للمالية والاقتصاد الوطني(1973-1975)، ثم عاد للعمل في القطاع الخاص (1975-1981) ليتولى من جديد وزارة المالية (1981-1984) والتي أبعد منها في المرة الأولي نتيجة لمؤامرة اشترك فيها حتي من كان يعدهم من زمرة أصدقائه ، وهكذا قضي إبراهيم منعم فترة تزيد قليلاً عن ست سنوات في كرسي الوزارة. أما العمل القصير مع الإنقاذ فقد اعترف إبراهيم منعم بشجاعة ( محرية فيه) بخطأ قبول منصب رئيس مفوضية تخصيص ومراقبة الإيرادات المالية "إثر تحليل (خاطئ) كما يقول بأنه أصبح من واجب أي مواطن يمكنه القيام بأي عمل للدولة بعد توقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية في عام2005" وفي الواقع فقد انخدعنا جميعاً وظننا أن القوم جادون في تحقيق الوحدة وإشاعة السلام، وانخدع معنا كبار الصحفيين والكتاب مثل الصحفي الكبير محجوب محمد صالح وإدريس حسن ومحجوب عروة والكاتب عوض مالك وآخرون فأشادوا بالاختيار الذي صادف أهله ، ثم عاد نفس الكتّاب وتبعهم آخرون مثل حيدر المكاشفي ولبني أحمد حسين عندما تبين لهم "تفاصيل ما جري" ليتعجبوا ويتحسروا على الطريقة التي عومل بها الرجل وما آل إليه حال المفوضية.
لقد نال الكاتب من كل هذه المحطات الكثير من الخبرات والتجارب وتعرض للاعتقال السياسي في كل العهود العسكرية والمدنية في مايو وفي أبريل وفي يونيو، وإن كان الاعتقال الأخير لأسباب "كيدية" وليست سياسية علي النحو الدرامي الذي رواه الكاتب، كما توفر للكاتب أيضاً معرفة عميقة بالرجال وأقدارهم من لدن حماد توفيق وإبراهيم أحمد وكبار جيل الاستقلال ومن رجال الخدمة المدنية لعل أبرزهم محمد المكاوي مصطفى الذي شاهدتُه قبل سنوات قصيرة في التلفزيون وهو يستعرض مكتبته الخاصة في منزله والتي أحسب إنها أضخم مكتبة خاصة في البلاد إذ تحولت معظم غرف منزله إلي أرفف لتستوعب هذا المكتبة الضخمة. ليس ذلك فحسب بل إنه أعلن أن المكتبة مبذولة لطالبي العلم دون مقابل، وكما علمت فإن مركز عبد الكريم ميرغني سجل معه عدة أشرطة توثيقية عن مسيرة حياته ونتمنى أن يتوفر لهذا التوثيق محرر حاذق لإخراجه في كتاب.
تشع علينا روح الكاتب الساخرة عبر ثنايا الكتاب بأسلوب لا يصح وصفه بالتهكم، بل بالذكاء الماكر، فهو يذكر مثلاً أن مايو "سقطت سهواً" ويتحدث عن " سفيه الحلة في الزمن الغابر وما يماثله في زماننا هذا وغير ذلك من الصور، كما تناول وبحصافة الناقد الاجتماعي الذي تأسست لديه أفكار فلسفية عميقة وفهم متقدم وعقلاني للدين ومقاصد التشريع الإسلامي في ما يختص بتحريم الخمر والميسر والمخدرات وتطبيق الحدود الشرعية ودور الزكاة في مالية الدولة الاسلامية وهذه الأخيرة دعت بعض الغلاة وراكبي الموجة وبعض الدراويش إلي الدعوة بسلب أموال معالي وزير المالية وتطليق زوجاته لأنه جاهر برأيه في استحالة تحصيل المبالغ الخرافية التي قدرها ديوان الزكاة وكذلك "الخراج الذي يأتي من الأمصار" كبديل للمصادر المالية الأخرى لدعم ميزانية "دولة الخلافة الاسلامية في السودان".
وبعيداً عن المال والسياسة، يحدثنا الكاتب في صفحات متفرقة من الكتاب عن محمد عوض الكريم القرشي والخير عثمان "وحنتوب الجميلة" وعن عبد الحميد يوسف وحميدة أبو عشر "غضبك جميل زي بسمتك " وعن التجاني يوسف بشير وعثمان حسين والنهر الخالد "سليل الفراديس" وعن الكابلي و"مروي" "وآسيا وافريقيا" رائعة ابن النهود الدكتور تاج السر الحسن أو "التاج" كما يحلو لزملائه بمدرسة النهود الأولية- ومنهم المؤلف –مناداته، ويحدثنا عن الكاشف في "يوم الزيارة" والعطبراوي ومحي الدين فارس الذي "لن يحيد"، وعن أحمد المصطفي وإيليا أبو ماضي "وطن النجوم"، وطه حمدتو "الوسيم" ،وعن برعي محمد دفع الله وعن ما نعرف وما لا نعرف عن ظرف عبد العزيز محمد داود.
لعل ما استوقفني في سلسلة الأسماء المذكورة اسم شخصين أتيح لي مقابلتهما في أوقات مختلفة من حياتي، وأول هذه الأسماء الناظر الشيخ منعم منصور عليه رحمة الله فقد كنت في صباي الباكر عندما كنت طالباً في المدرسة الوسطي بالنهود أرافق في بعض الأحيان عمي المرحوم الحاج سليمان مصطفى لزيارة الشيخ بديوانه ( ديوانه يوم عمر ما لم في شديرة) وأجلس مستمعا ومستمتعاً وهما يستعيدان ذكريات عملهم مع المفتشين الإنجليز وعن زفة فوجا والتي كان حاج سليمان مصطفى أحد حضورها ضمن طاقم المركز بالنهود ويلتفت الناظر أحيانا فيسألني بلطف عن المدرسة والمدرسين وعن والدي الحاج سالم مصطفى في صقع الجمل.
والناظر منعم منصور هو أحد زعماء السودان العظماء الذين قامت على أكتافهم نهضة السودان الحديث فهو من آباء الاستقلال الذين تجاهلتهم المصادر، ولم ينصفه المؤرخون عدا البروفيسور فيصل عبد الرحمن علي طه الذي تحدث في كتابه الأخير عن دور الناظر الكبير في الحركة الاستقلالية ، فقد انخرط مبكراً في الحركة السياسية السودانية وانتخب في الجمعية التشريعية (1948) وكان من مؤسسي الحزب الجمهوري الاشتراكي ( أو حزب الإدارة الأهلية كما كان يطلق عليه) وفي نفس الوقت كان الناظر قريباً من السيد عبد الرحمن المهدي وهو قائد زفة فوجا (1954 ) وهي التجمع القبلي الذي أعطى الإشارة الخضراء للزعيم إسماعيل الأزهري للسير في اتجاه الاستقلال عندما سمع وسمع معه الإنجليز ذلك الهتاف الداوي ( عاش السودان حراً مستقلاً) ، ومرة أخري تجاهلت المصادر هذا الدور ووثقه شاعر دار حمر الشعبي أحمد ود كبوسة ( من حلة فاكوكي الواقعة بين صقع الجمل والنهود) بأبيات من الشعر الشعبي فقال:
في زفة فوجي اللمت الحكام
نحاسه برز يعدل الضهبان
وأزهري برك كتر التحنان
ومع كل ذلك فقد كان الناظر إداريا من الطراز الأول حيث قام بإعادة تنظيم الإدارات المحلية من الشرتاويات والعموديات وانشأ المحاكم الاهلية ونظم علاقات السوق – جلابة وحمر- وساهم في إرساء العلاقات القبلية الودية بين القبائل في كل أنحاء السودان متمثلة في مؤتمرات الصلح القبلية، هذا بالإضافة إلي الإصلاح الاجتماعي في مجتمع حمر المتمثل في مال التعليم المخصص لإعانة أبناء دار حمر لمواصلة تعليمهم، وكذلك صندوق الدية وتسهيل أمور الزواج، ويحتفظ ابنه الاستاذ حامد منعم منصور بوثيقة تعود إلي عام 1948 مرفوعة إلي جناب باشمفتش مركز غرب كردفان وممهورة بتوقيع الناظر وجميع الشراتي والعمد والأعيان يلتزمون فيها بتخفيف المهور تسهيلا للشباب وصوناً للعفة.
أما الشخص الآخر فهو المرحوم موسي عوض بلال، وقد أتاحت لي الظروف العمل مع "سيد موسي" متعاوناً لبعض الوقت في عمل يتعلق بتنظيم المكتبة والوثائق وبعض أعمال الترجمة عندما كان يعمل أميناً عاماً للاتحاد العربي للسكر بالخرطوم وهي آخر وظيفة رسمية يتولاها قبل وفاته في ما أعلم ،وقد كان رحمه الله لين الجانب، لطيفاً في التعامل، ولديه حس عال بالفكاهة وكريما مع فريق العمل الصغير بالمنظمة والمكون من نجوى منسقة المكتب، والأخ أحمد المسئول المالي، وأحد الإخوة من الإحصائيين فكان يحمل معه كلما يعود من زيارة خارجية بعض الهدايا القيمة للموظفين ،وعلى المستوى الشخصي كان كريماً جداً معي فقد دخلت عليه ذات مرة وأبلغته أنني حصلت على منحة دراسية من المجلس البريطاني للدراسات العليا بالمملكة المتحدة فشجعني كثيراً وأوصاني ( ضمن أشياء أخري) بقراءة جريدة القارديان ومجلة الإيكونوميست ، ومشاهدة قناة البي بي سي التلفزيونية وهي الوصايا الي ظللت عاكفاً عليها طيلة وجودي ببريطانيا، ثم أخرج من درج مكتبه ظرفاً ناولني إياه، وعندما فتحته لاحقاً اكتشفت إنه يحوي مبلغاً محترماً من الجنيهات الاسترلينية . رحمه الله
أما الجزء الأخير من الكتاب ( حوالي مائتي صفحة) ، فقد خصصه الكاتب للمقالات التي نشرها في الصحف على مدى سنتين أو تزيد في ما يقارب مائة مقال، وسماها "الفرص الضائعة"، وما بين هذه وتلك كانت هنالك مقالات فرضتها على المؤلف بعض الأحداث .
بعض هذه الفرص الضائعة تعود في نظري "للغشامة السودانية" مثل قصة إنشاء مشروع مزارع ومراعٍ كبرى في كردفان ودارفور في الخمسينيات من قبل تجمع لشركات أمريكية تعتمد علي المرعي الطبيعي مستلهمة التجارب والخبرات الأمريكية في تربية الأبقار والكندية في تربية الضأن، وبعض الفرص الضائعة تعود للغفلة والأنانية ،ولعلنا نستلهم بعض العبر مما رواه المؤلف ولكن ما أكثر العبر وما أقل الإعتبار.
هذا كتاب ممتع ومفيد لكل من يريد استحضار السودان الذي كان من إدارة وانتماء وأخلاق ووطنية وسياسة وقدوة ورجال. وعلي الرغم من أن الكتاب في مجمله سرد لتجربة اختلط فيها الخاص والعام ،وامتدت لفترة طويلة إلا أنه في الواقع يمثل خريطة طريق لمستقبل السودان، فالكتاب مليء بالمقارنات بين ما كان عليه السودان ( حتي في عهد الاستعمار) وما صار عليه خلال العقود التي تلت الاستقلال وإلى يومنا هذا ، فالتحية لهذا الرجل الذي "أوصانا" على الشجرة الكبيرة وثمارها- العشيرة والأهل والعائلة والأسرة الصغيرة- "وأوصانا" أيضاً بالمحافظة على "صقر الجديان"- الذي اتخذناه شعاراً للوطن الذي شبهه بالطائر ذي الجناحين: أحدهما الحرية والثاني العدالة، ولنتذكر دائماً أن هذا الطائر لن يستطيع أن يحلق عالياً ما لم يكن الجناحان قويين قادرين على التصدي للرياح العاتية ،ولن يسلم الجناحان من الأذى (والقص) ما لم نشترك جميعاً في هذه "المسيرة" في شأن الوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.