تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رَأْسُ الذِّئْبِ الطَّائِر !! .. بقلم: كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 24 - 08 - 2020

كانت بلادنا تجتاز «فترة انتقاليَّة» عقب إبرام «اتِّفاقيَّة السَّلام الشَّامل CPA»، حين تلقَّيت دعوة للمشاركة في المؤتمر العام لجَّمعيَّة محاميِّى بريطانيا وويلز، بلندن، فى الرابع من نوفمبر 2007م، حيث قدَّمت ورقة بعنوان: «العدالة الانتقاليَّة الخيار الأفضل للسُّودان حالَ توفَّرت الإرادة السِّياسيَّة»، أمام ورشة «المعالجات القانونيَّة فى عقابيل النِّزاعات»، والتي نُظِّمت ضمن أعمال ذلك المؤتمر. في تلك الورقة استبعدتُ إمكانيَّة بناء المصالحة الوطنيَّة، كأحد أهداف اتفاقيَّة السَّلام، والدُّستور الانتقالي لسنة 2005م، على نموذج مصالحة النِّميري مع بعض معارضيه عام 1977م، والتي استنَّ، لأجلها، من التَّشريعات، ما كان يريد أن يسبغ به، على نفسه ومنسوبيه، حماية غير مستحقَّة من المساءلة القانونيَّة، توفيراً لإحدى فرص الإفلات من العقاب impunity، الأمر الذى ثبت، بالتَّجربة، أنه لا يفضي سوى لأوضاع شكليَّة ما تلبث أن تعيد إنتاج الأزمة بصورة أو بأخرى.
بالمقابل، صنَّفت الورقة، حصريَّاً، الخيارات الحقيقيَّة المتاحة لبناء المصالحة المطلوبة في السُّودان، بآليَّات عدليَّة، في ثلاثة لا رابع لها:
(1) فإمَّا عن طريق إنفاذ قوانين وآليَّات المقاضاة بإجراءات المحاكم السُّودانيَّة، مِمَّا سيصطدم، حتماً، بعقبتين كؤودتين:
أ/ خلوُّ القانون الجَّنائي السُّوداني من عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي، خصوصاً في ما يتَّصل بإفراغ الاحتقان النَّاجم عن انتهاكات دارفور المرتكبة بين عامي 2003م 2004م، وهي، في جلِّها، جرائم حرب، وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة، إن لم تشكِّل، في بعض وجوهها، إبادة جماعيَّة؛
ب/ ما اصطنع النِّظام من قوانين تحول، أيضاً، دون مساءلة منسوبيه، العاملين منهم، بالذَّات، في أجهزته الأمنيَّة؛
(2) وإمَّا عن طريق اللجوء إلى آليات القضاء الجَّنائي الدَّولي، بما فيها المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، ومحاكم البلدان التي تقبل الاختصاص الدَّولي، علماً بأن ذلك، رغم كونه خياراً متاحاً، لا يمثل أفضليَّة بالنِّسبة للضَّحايا، بسبب عامل البُعد الجُّغرافي الذي يتعارض مع القاعدة الذَّهبيَّة التي أرساها اللورد هيوارث، رئيس القضاء الإنجليري، منذ العام 1924م، بأن «العدالة لا يجب، فقط، أن تُطبَّق، وإنما يجب، أيضاً، أن تُرى وهي تُطبَّق Justice must not only be done, but must also be seen to be done»!
(3) وإمَّا عن طريق انتهاج آليَّات "العدالة الانتقاليَّة"، شاملة، من ناحية، المناهج القضائيَّة المتمثِّلة في «المحاكم الهجين Hybrid Courts» التي تطبِّق القانون الجَّنائي الدَّولي، وشاملة، من ناحية أخرى، المناهج الحديثة، غير القضائيَّة، والتي يمكن أن تفضى، فى ما لو أخذت بحقها، إلى تفريغ الاحتقان، وإزالة الغبن، بالكشف عن "حقيقة" الانتهاكات التي ارتكبها منسوبو النِّظام بحق الضَّحايا، و«اعترافهم» بها علناً، فضلاً عن «اعتذار» النِّظام عنها، ثمَّ «الانتصاف» لهؤلاء الضَّحايا بشتَّى سبل المعالجات لحالاتهم، فرديَّاً، وجماعيَّاً، ومناطقيَّاً، وإجراء «الإصلاحات» المطلوبة، مؤسَّسيَّاً، في جميع أجهزة الدَّولة التي قد تكون استخدمت في هذه الانتهاكات، وأبرزها أجهزة الأمن والمخابرات، والقوَّات المسلحة، والقضاء، والنِّيابة، والسُّجون، والشُّرطة، على سبيل المثال، لينفسح، بعد ذلك، وليس قبله، بأيَّة حال، طريق «التَّسامح»، و«التَّعافي المتبادل»، الذى من شأنه، كشرط لا غنى عنه، أن يمهِّد تربة صالحة ل "مصالحة وطنيَّة"، ليس مع نظام الحكم، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، خطأ، وإنَّما مع "التَّاريخ الوطني"، و"الضَّمير الوطني"، و"الذَّاكرة الوطنيَّة".
أخيراً، وبعد أن عدَّدت الورقة الجَّوانب الموجبة والسَّالبة في كلٍّ من الخيارات الثَّلاثة، مِمَّا أثار نقاشاً ثرَّاً مطوَّلاً داخل المؤتمر، خلصَتْ إلى تغليب خيار "العدالة الانتقاليَّة"، لما ينطوى عليه من ميزات أثبتتها، وقتها، خبرة أكثر من 40 50 بلداً حول العالم.
الثُّلاثاء
«جوزيف قرنق خسارة كبيرة للسُّودان ولأفريقيا، وقد راح ضمن مآسي السِّياسة السُّودانيَّة .. هذا الرَّجل وطني غيور، وأقول، بملء الفم، إن أفريقيا لم تنجب مثله، ولا توجد حتى مقارنة بينه وبين نكروما، أو نايريري، أو كنياتا، أو غيرهم من قادة حركات التَّحرُّر الأفريقي. هو من أفذاذ السُّودانيِّين والأفارقة، فهو ذكي لأقصى الحدود، ومثقَّف من طراز رفيع، وقارئ نهم لدرجة أنني كنت اتنافس معه في القراءة، إبان عمله معي بمكتبي، وبما أنني رئيسه فقد كنت أصرُّ على أن أقرأ الكتاب قبله، حتَّى وإن كان ملكه! وهو شخص نظيف، وعفيف، فلم يكن يتعاطى الخمر، أو السِّجائر، أو أيَّ نوع من الموبقات! وأذكر بعد إعدامه اتَّصل بي اللواء الباقر أحمد، وكان وزيراً للدَّاخليَّة، وكنت وزيراً للعدل، وقتها، وطلب منِّي أن أحضر إلى مكتبه للإطلاع على وصايا مكتوبة من عبد الخالق محجوب، والشَّفيع احمد الشَّيخ، وجوزيف قرنق، كتبوها قبل إعدامهم مباشرة، وقد كانت تنمُّ عن شجاعة وثبات، وأذكر أن جوزيف قرنق طلب في وصيته من زوجته ألا تركن للجَّزع والعويل، قائلاً لها: إعتبريني قتلت في حادث طيران air crash»!
وبعد .. لولا أن صديقي الصَّحفي النَّابه علاء الدِّين بشير، والذي أثق في صدقيَّته تماماً، هو مَن دوَّن الكلام أعلاه، مباشرة، من فم قائله، ضمن حوار أجراه معه، ونشره بجريدة «الصَّحافة»، في 3 أبريل 2009م، لما كنت سأصدِّق، قط، أن قائله هذا هو .. أحمد سليمان!
الأربعاء
لا أعتقد أن السَّفير حيدر بدوي، النَّاطق الرَّسمي باسم الخارجية، قبل إقالته، وبحكم معرفته المفترضة باتِّجاه الريح داخل وزارته، كان غافلاً عن مغبة التَّصريح الدَّاوي الذي أدلى به يوم الثُّلاثاء 18 أغسطس 2020م، والذي ما لبثت أن تناقلته الوكالات والقنوات، بأن السُّودان «يتطلع لاتفاق سلام مع إسرائيل»، وأن «ثمَّة اتِّصالات جارية لتطبيع العلاقات بين الطرفين»، أو أنه لم يكن يتوقَّع نفياً فوريَّاً لتصريحه من عمر قمر الدِّين، وزير الخارجيَّة المكلف، أو ما أعقب ذلك من إعفائه من الخدمة، خاصَّة مع ما نقلت القناة الثَّانية عشر العبريَّة، صباح اليوم التَّالي، مباشرة، من تكذيب رئيس الموساد يوسي كوهين لنفي الوزير قمر الدِّين، وتأكيده لتصريحات السفير بدوي (روسيا اليوم؛ 19 أغسطس 2020م).
الغالب، عندي، من النَّاحية الموضوعيَّة، أن بدوي، بصرف النَّظر عن توجُّهات أغلب الرَّأي العام السُّوداني المخالفة، انطلق في تصريحه هذا من موقفين، مهني وعقائدي. ففي الموقف الأوَّل جاء تصريحه مصدِّقاً لما كان ساقه الفريق أوَّل عبد الفتَّاح البرهان، رئيس مجلس السَّيادة، كتبرير براغماتي للقائه مع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بكمبالا، في الثَّالث من فبراير 2020م، بأنه تمَّ «في إطار البحث عن مصالح السُّودان الوطنيَّة والأمنيَّة»، وأن لإسرائيل دوراً في «رفع اسم السُّودان من قائمة الدُّول الرَّاعية للارهاب». وبطبيعة الحال لا يملك أحد، من هذه الزَّاوية، أن يلوم سفيراً يردِّد ما سبق أن قاله رأس دولته نفسه!
أمَّا من الزَّاوية العقائديَّة فقد سارع بدوي، دون مشاورة وزيره، الأمر الذي ربَّما أُُخذ عليه، إلى التَّصرَّف ك «جمهوري» من تلاميذ الأستاذ الشَّهيد محمود محمَّد طه الذي أعدمه النِّميري في الثَّامن عشر من يناير 1985م، لمعارضته سياساته في أخريات أيَّام حكمه. ومعلوم أن «الجُّمهوريِّين» أصدروا، في السَّادس من فبراير 2020م، بعد ثلاثة أيَّام، فقط، من لقاء «البرهان نتنياهو»، بيان تأييد له حمل دعوتهم الصَّريحة للاعتراف الجَّهير بإسرائيل، والتَّطبيع معها، استهدافاً، على حدِّ تعبيرهم، لتصحيح علاقات الدُّول العربيَّة بها، حتَّى لا يظلَّ معظم هذه الدُّول «يعاملها، في الخفاء، بتوادٍّ، بينما يعمل في العلن على دغدغة عواطف الشُّعوب العربيَّة، وحفظها في كبسولة العداء التَّاريخي». ومثلما ذكرنا في مناسبة آنفة، فإن التَّلاميذ «الجُّمهوريِّين» لم يكونوا بعيدين، في ذلك، عن الموقف القديم للأستاذ الشَّهيد من إسرائيل والقضيَّة الفلسطينيَّة، والذي كان قد ضمَّنه كتابه «مشكلة الشَّرق الأوسط» الصَّادر في منتصف القرن المنصرم، وإن بغير القليل من الاختلاف بين ما ورد في الكتاب وبين ما ورد في البيان الجَّديد. فعلى حين لم يحفل الأخير بأيِّ شروط للتَّسوية، كان الكتاب قد دعا العرب لإعلان قبولهم التَّفاوض مع إسرائيل برعاية مجلس الأمن، استناداً إلى قراري «التَّقسيم» و«عودة اللاجئين» الصَّادرين عن الأمم المتَّحدة في 1947م و 1948م، على التَّوالي، واللذين كانت إسرائيل قد تعهَّدت، لدى انضمامها إلى المنظمة الدَّوليَّة، بالالتزام بهما، فضلاً عن الًصِّيغة العامَّة التي أوردتها المنظمة الدَّوليَّة، في 11 مايو 1949م، ضمن ديباجة قرارها بقبول عضويَّة إسرائيل فيها، بأن الأخيرة قد تعهَّدت، منذ تأسيسها في 14 مايو 1948م، باحترام التزاماتها تجاه أعضاء الأمم المتَّحدة كافَّة. كما أورد الكتاب، أيضاً، أن أهداف التَّفاوض المباشر مع إسرائيل، تحت إشراف مجلس الأمن، ستتلخَّص في إنهاء حالة الحرب التي ظلت قائمة بينها وبين العرب؛ على أساس اعتراف الأخيرين لها بحقِّ البقاء في أمن وسلام، واحترام سيادتها؛ وحقِّها في الاستخدام السِّلمي لخليج العقبة، وقناة السُّويس؛ مقابل انسحاب قوَّاتها وسلطاتها من الأراضي العربيَّة التي احتلتها في حروب 1948م، و1956م، 1967م؛ وتنفيذ مشروع التَّقسيم الأصلي بإعادة من أضحوا لاجئين من العرب خلال تلك الحروب، أو في عقابيلها، وتعويضهم عن كل خسائرهم، وتوطين من لا يرغبون منهم في العودة إلى داخل الحدود الإسرائيليَّة في الأرض الفلسطينيَّة التي خصَّصها مشروع التَّقسيم للعرب، مع تعويضهم أيضا.
الخميس
مَن خبِر طعم الاعتقال السِّياسي يعرف كم هي عزيزة كلمة التَّضامن الصَّادقة تبلغه، أثناء وجوده رهن الاعتقال، من مؤسَّسة محترمة، أو من إنسان نبيل، لتقول له، حتف أنف غلظة القضبان، ورغم وحشتها، إنه غير منسيٍّ، بل ملء القلب والخاطر ما يزال. ولكم أسعدتني مثل هذه الكلمات حين استطاعت أن تتسلق مختلف الأسوار، لتصلني، رطبة، طازجة، من أحباب كثر، كأصدقائي في (منظمة القلم العالميَّة Pen International)، وأنا بين صخور جدران السُّجون، وحجارة البيوت السِّرِّيَّة الكريهة، فقشعت سقوفها، وبدَّدت أشباحها، وأخرجتني من ضيق ما أراد لي الجَّلادون من ذلِّ ومهانة، إلى وسع ما أفسحت لي رحابة التَّضامن من معزَّة وكرامة. إحدى هذه الرَّسائل سطرَّتها، فتسرَّبت إليَّ، أيضاً، في أيَّام كهذه من العام 1989م، وأنا في سجن سواكن، الرَّفيقة المناضلة العزيزة، والأخت والصَّديقة الحبيبة، والكاتبة المفكِّرة المصريَّة الكبيرة الأستاذة فريدة النَّقاش، رئيسة تحرير مجلة «أدب ونقد» الغرَّاء، آنذاك، تقول لي فيها:
«الصَّديق الشَّاعر الغالي كمال الجزولي. وددت أن أعبِّر لك، ولكلِّ رفاقك عن تضامننا ومحبَّتنا، وعن ثقتنا التي لم تهتز أبداً في أن انتصاركم قريب جداً رغم ضجر الأيَّام، ورغم السِّجن، والتَّردِّي، والبؤس. إنني أفخر بانتسابي لكلِّ ما تؤمن به، وتناضل من أجله، وأعتزُّ برفاقيَّتك، شاعراً، ومناضلاً، وإنساناً، وأنقل إليك مودَّة عامرة من الأصدقاء في الحزب، وفي (أدب ونقد)، وفي مجلتنا الجَّديدة (اليسار)، وقد أصدرنا بياناً للدِّفاع عنكم بعثنا به إلى كلِّ المنظَّمات الدَّوليَّة، وسلمنا وثيقته إلى السَّفارة السُّودانيَّة بالقاهرة. وإننا لنشعر بكلِّ صدق بأننا سنراكم قريباً متحرِّرين من كلِّ القيود، فلك مودتي، ومن حسين، والأولاد، ومن كلِّ الرِّفاق محبة بلا حدود، فريدة النَّقاش».
الجُّمعة
ضمن المادة/23 من التعديلات القانونيَّة الصادرة مؤخَّراً، أضيفت المادة 141/أ/1 2 لتُجرِّم ختان الإناث، وتعاقب عليه بالسِّجن، والغرامة، وجواز إغلاق المكان الذي مورس فيه، وذلك بعد أن كان من يطلقون على أنفسهم «علماء السُّودان» يقفون حجر عثرة، باسم الدِّين، أمام أيَّة محاولة لتجريم هذا الفعل. الغريب أن هؤلاء «العلماء» ظلوا يتَّخذون موقفهم المعارض هذا، رغم مخالفته لفقه القرضاوي الذي يعتبرونه محلَّ إكبارهم وإجلالهم في العالم الإسلامي! ففي رسالته إلى مؤتمر «ختان الإناث في الشَّريعة الإسلاميَّة»، بأديس أبابا، منتصف أبريل 2009م، إستند القرضاوي إلى دراسات خبراء متخصِّصين أثبتوا أن ختان الإناث، أو خفضهنَّ، بالطريقة التي يجري بها الآن، يضرُّ بهنَّ جسديَّاً ونفسيَّاً، ويؤثِّر سلباً على مستقبل حياتهنَّ الزَّوجيَّة. ومن ثمَّ أفتي بحظره شرعاً، كونه داخل في تغيير خلق الله، فيجب إيقافه، سدَّاً للذَّريعة، ومنعاً للضَّرر والضِّرار، وأضاف: «لو أن مَن قبلنا ظهر لهم ما ظهر لنا لغيَّروا رأيهم، فقد كانوا يدورون مع الحقِّ حيثما دار» (الأخبار؛ 20 مايو 09). وقد قامت هذه الفتوى في مواجهة فتوى «مجمع الفقه الإسلامي السُّوداني»، الصَّادرة عام 2004م، والآمرة بختان الإناث شرعاً، والتي اتبعها مجلس الوزراء حين استبعد نصِّ المادة/13 من «قانون حماية الطفل لسنة 2009م»، والتي كانت، إلى ما قبل فتوى المجمع، تحظر ختان الإناث!
من جانبها استندت «جمعيَّة اختصاصيِّي النِّساء والتَّوليد»، في بيانها الصادر في الرَّابع من يونيو 2009م، إلى الحديث الشَّريف «استوصوا بالنِّساء خيراً»، وإلى فتاوى الإمام ابن حزم الظاهري في «المحلى»، كما استندت إلى فتوى القرضاوي، بعد أسبوعين من صدورها، رافضة محاولات إضفاء الطابع الطبي والدِّيني على تشويه الأجهزة التناسليَّة للنِّساء التي اعتبرتها اعتداءً على كرامتهنَّ. وأكَّدت، وقتها، أنه، حيث توفَّرت الدَّلائل الطبيَّة والشَّرعيَّة على سداد حظر هذه الممارسة البغيضة، فإن الحكمة تقتضي استعادة نصِّ المادة/13 بما كان يتَّسق مع المادَّة/32 من «الدُّستور الانتقالي لسنة 2005م» التي تنصُّ على إلزام الدَّولة بالقضاء على العادات والتَّقاليد الضَّارَّة بصحَّة وسلامة المرأة؛ و«السِّياسات القوميَّة لتمكين المرأة» الصَّادرة في الثَّامن من مارس 2008م عن وزارة الرِّعاية الاجتماعيَّة، والمعتمدة، وقتها أيضاً، من رئيس الجُّمهوريَّة، والملزمة للدَّولة بالقضاء على ختان الإناث؛ و«تقرير السُّّودان» المقدَّم، في 2007م، إلى الأمين العام للأمم المتّحدة، بشأن قرارها رقم/51/2 حول الممارسات التقليديَّة الضَّارَّة بالطفلات، ضمن السِّياسات والبرامج والآليَّات الوطنيَّة للقضاء على ختان الإناث؛ و«الاستراتيجيَّة القوميَّة للقضاء على ختان الإناث»، المشمولة، في فبراير 2008م، بالسِّياسات القوميَّة المعتمدة من المجلس القومي للتَّخطيط الاستراتيجي.
مع ذلك كله عاد «علماء السُّودان!»، الآن، يقاومون التَّعديل الذي يتَّسق مع هذا النَّظر المستقيم، ويقفون ضدَّه .. فلا قوَّة إلا بالله!
السَّبت
في صدر الحلقة الأولى من مقالته «العلمانيَّة في السِّياق السِّياسي السُّوداني: العودة إلى القانون الجَّنائي المدني»، بجريدة «الصَّيحة» في 9 أغسطس 2020م، أعلن الواثق كمير عن عدم رغبته في الانضمام، فكريَّاً، إلى الجَّدل الاصطلاحي والمفاهيمي الدَّائر بين المطالبين بالدَّولة «العلمانيَّة»، أو «المدنيَّة»، وبين المناوئين للفكرة بحسبانها تهدف لإبعاد الدِّين عن الحياة، حيث الخلاف لم يدُر، كما قال، في تاريخنا المعاصر، خاصة بعد سبتمبر1983م، حول رؤى نظريَّة أو تصوُّرات مفاهيميَّة، بل حول تبرير «قوانين سبتمبر» بالشَّريعة الإسلاميَّة، في بلد تتعدَّد فيه الأديان والثَّقافات، ولا يتفق فيه المسلمون أنفسهم على مذهب واحد. ومن ثمَّ أفصح عن اهتمام نتَّفق فيه معه، تماماً، بتحرير التَّباين بين المصطلحات والمفاهيم، طلباً للغة يفهمها المواطن العادي، فخلص إلى تفضيل وصف الدَّولة التي يتطلع إليها السُّودانيون ب «دولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية، بغض النظر عن الدِّين، أو النَّوع، أو العرق». بعبارة أخرى لخَّص الواثق أطروحته، ابتداءً، في أن العلمانيَّة، في السِّياق السِّياسي السُّوداني، تعني، أساساً، إلغاء «قوانين سبتمبر 1983م» المدمجة في قوانين 1991م، حيث لن يكتمل نصاب السَّلام العادل، ودولة المواطنة، والمساواة أمام القانون، إلا بإلغاء تلك التَّشريعات. بالتَّالي، طرح الواثق سُّؤالين مركزيَّين، هما: كيف؟ ومن سنَّ «قوانين سبتمبر»؟ وللإجابة عاد إلى العام 1968م، حيث فُرضت «العلمانيَّة» على الخطاب الوطني، آنذاك، عندما رفعت بعض الأحزاب الشَّماليَّة شعار «الدُّستور الإسلامي»، فلم تكن القضيَّة مطروحة عند الاستقلال، ولم تكن جزءاً من الخطاب السِّياسي الجَّنوبي، ولم يرد حوارُّ بشأنها في محاداثات أديس أبابا للسَّلام في 1972م. ويخلص الواثق إلى أن القضيَّة، إذن، قضيَّة سياسيَّة أقحمت على الدِّين بتخريجات محدَّدة. فبعد أن تضعضعت كلُّ تحالفات النِّميري السِّياسيَّة، لجأ إلى آخر حيلة يأمل أن تمِدَّ في عُمر حُكمهِ، وتعزِّز من سلطته المطلقة، فنصَّب نفسه إماماً للمسلمين، فلم يعدم حاشية تجزل له البيعه، وتخطط له أسلمة البنوك، وإلغاء الضَّرائب، واستبدالها بالزَّكاة، وتدمير الدُّستور، وإصدار «قوانين سبتمبر»، وهلمَّجرَّا!
أجَّج ذلك، بطبيعة الحال، من نار الحرب في جنوب البلاد، بينما كان النِّظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، حتى أجهزت عليه انتفاضة مارس/أبريل 1985م التي كان إلغاء «قوانين سبتمبر» على رأس أولويات مطالبها. وبالفعل توافقت القوى السِّياسيَّة والنِّقابيَّة، ما عدا الاتِّحادي الدِّيموقراطي، يومها، على ذلك في أوَّل لقاء بين قوى الحكومة الانتقاليَّة والحركة الشَّعبيَّة/الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، في كوكادام، بإثيوبيا، والذي صدر بيانه الختامي في 21 مارس 1986م. مع ذلك فشلت حُكومة الفترة الانتقاليَّة في إلغاء تلك القوانين، ليس وفق ميثاق الانتفاضة فحسْب، بل حتى بعد توافُق كوكادام، وإن كان ذلك في نهايات الفترة الانتقاليَّة!
في خاتمة ذلك الرَّصد والتَّحليل الممتازين ساق الواثق ملاحظته حول المفارقة المُدهشة، بل المحيِّرة، القائمة في غرابة أن تنجح القُوى السِّيَّاسيَّة والنقابيَّة، كحاضنة لحُكومة انتفاضة أبريل 1985م الانتقاليَّة، في التَّوافق، نظريَّاً، على مطلب إلغاء «قوانين سبتمبر»، بينما تفشل في ذلك الإلغاء، عمليَّاً، الحُكومة الانتقاليَّة التي «تمثِّلهم»! ولم يتنكَّب الواثق المنطق السَّوي، قيد أنملة، عندما عزا بعض أسباب تلك المفارقة إلى ما يبدو أنَّه ضغط اقتراب موعد انتخابات 1986م، والخوف من الابتزاز السِّياسي حالَ اتِّخاذ قرارات صعبة، في ذلك التوقيت الدَّقيق، مِمَّا دفع الحُكومة الانتقاليَّة لترحيل تلك المُهمَّة إلى الحُكومة المُنتخبة!
مع ذلك وددت لو أن الواثق دفع بتحليله هذا، وبوجه خاص في نهاية هذه الحلقة من مقالته، ذهاباً لإضاءة مفارقة أخرى تتمثَّل في ما أخذ الكثيرون على حزب الأمَّة من تقصير، حتَّى بعد فوزه بأعلى الأصوات في تلك الانتخابات، دون أن يتحرَّك لإلغاء قوانين سبتمبر، خاصَّة وأن رئيسه الصَّادق المهدي كان قد وصمها، علناً، بأنها لا تسوى قيمة الحبر الذي كتبت به، كما وأن الضَّابط الأوَّل للقانون في البلاد، آنذاك، كان هو وزير العدل النَّائب العام، عن حزب الأمَّة، عبد المحمود الحاج صالح، المعروف، شخصيَّاً، بمواقفه القويَّة المعارضة لتلك التَّشريعات! الإضاءة المطلوبة من متخصِّص في قامة الواثق تتعلق بعامل معرفي مجرَّد، يتلخَّص في ما إن كان ثمَّة تأثير جدِّي لعدم حصول هذا الحزب على النِّسبة من الأصوات التي تمكِّنه من الانفراد بتكوين الوزارة، والتَّقرير، من ثمَّ، منفرداً، في أمر هذه القوانين، بالاستناد إلى الأغلبيَّة المطلقة. وإلى ذلك، كذلك، تأثير واقع كونه لم يعُد أمامه، بشأن تكوين الوزارة، سوى أحد ثلاثة خيارات أحلاها مرٌّ: فإمَّا الائتلاف مع الاتِّحاديِّين، باعتبارهم القوَّة الانتخابيَّة الثَّانية، وقد فعل، لولا أنهم رفضوا مطلب الإلغاء، رافعين شعار «الجُّمهوريَّة الإسلاميَّة»! وإمَّا الإئتلاف مع الإسلامويِّين، باعتبارهم القوَّة الثَّالثة، وقد فعل، أيضاً، لولا أن التَّشبُّث بتلك التَّشريعات كان يمثِّل لهم، بطبيعة الحال، مسألة حياة أو موت! وإمَّا أن يتنحَّى، مفسحاً المجال ل «حكومة أقليَّة برلمانيَّة» لا يُتوقَّع لها القدرة على الثَّبات!
الأحد
خرج الأسد، والذِّئب، والثَّعلب للصَّيد، فكانت الحصيلة غزالاً، وحملاً، وأرنباً. أمر الأسد الذِّئب بتقسيمها بينهم، فقال الذِّئب: الغزال لك، والحمل لي، والأرنب للَّثعلب، فكشَّر الأسد عن أنيابه، وأطاح، فى لحظة، برأس الذِّئب! ثمَّ التفت إلى الثَّعلب، وأمره بتقسيم الحصيلة، فقال الثَّعلب: الغزال لإفطارك، والحمل لغدائك، والأرنب لعشائك! فضحك الأسد، وسأل الثَّعلب: من أين تعلَّمت هذه الحكمة؟! فأجاب: من رأس الذِّئب الطَّائر!
***
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.