وددت لو قلت في يوم الاقتراع الأول للإنتخابات قولة ديزموند توتو، الزعيم السابق للكنيسة الإنجلية في جنوب أفريقيا، في انتخابات بلده عام 1994. كانت تلك أول مرة يقترع في إنتخابات وقد بلغ من العمر عتيا. فلم يكن يحق للسود مثله بالغاً ما بلغوا أن يصوتوا في سياسة حكر للبيض لقرون أربعة. قال توتو من فرط الروعة وهو يدلى بصوته: "كأني أقع في الحب من أول وجديد". وجات الحزينة مثلي لتدلي بصوتها بعد عشرين عاماً من غيبة الديمقراطية ولكنها لم تجد مطرحاً. قلقد تضافرت صفوة النادي السياسي على تجريح هذا اليوم حتى اختلف فيه السودانيون خلافاً عظيماً: إلاما الخلف بينكما إلاما وهذي الضجة الكبرى علاما وجرعتنا هذه الصفوة "مر في مر" في هذا اليوم الذي أردناه أغراً. فيالله زيدنا صبر! لا تهنوا. فهذه الصفوة غير مؤاخذة. فقد ضربها الإرهاق منذ عهد بعيد كما بينت في كتابي "الإرهاق الخلاق" (عزة 2001). وقلت فيه أن السياسة السودانية قد بلغت شفا جرف هار يقتضيها التواضع، شفقة بالناس، بالاعتراف بإرهاق صفوتها وأن تتفتق عن إرادة جديدة تتخيل بها وطناً مختلفاً. ووصفت نطاح الصفوة الطويل (الذي جرى أمام أعيننا بصور متهافتة قبيل الإننخابات) بأنه مثل حال جماعة من العقارب مسجونة في زجاجة. تظل تلسع واحدها الآخر حتى تفنى. فليس بين الصفوة المتحاربة مواثيق تٌرعى ولا ذمماً تصان. وهكذا عرَّف عالم سياسة حكم الطغم ونهاية السياسة. وجدت أن اليكس دي وال، المشغول بالشأن السوداني ، قد وصل بطرقه الخاصة إلى إنهاك صفوة النادي السياسي في كلمة نشرها في العام الماضي. فقد سمع من أحد قادة المجتمع المدني بالفاشر قوله: "نحن تعبانين. وقد استكفينا مما بنا. فقادة المجتمع السوداني المدني والسياسيون مرهقون بغير لبس". واضاف دي وال أن الرئيس عليه سيماء الإرهاق وقادة المعارضة شاخوا وحتى طاقة السيد الصادق المهدي الأسطورية تتبخر. وبقي د.خليل إبراهيم وحده في دارفور على شيء من الحيوية والدينامية ولكن طاقته تصب في خانة الدمار الثوري بدلاً عن بناء البدائل. وأعطى عبد الواحد معنى مبتكراً ل "الثورية المغيظة" من فرط غيابه عن أي تفاوض ذي مغزى. أما جنوب السودان، الذي على مرمى حجر من الاستقلال، تجده قد خلا من كل الشغف الذي يتوقعه المرء في بلد في العد التنازلي ليوم تحرره الوطني. وخلت الساحة السياسية من أي فكرة جديدة ملهمة. فقد جرب السودان كل الأفكار الكبيرة القديمة يميناً ويساراً وهامشاً فتهاوت. وسدت خرائبها الطريق نحو أفكار ملهمة جديدة. فالصفوة السياسية مساقة من أذنها بالحادثات التي لا تملك لها دفعا. فلا الحكومة ترى الضوء في نهاية النفق ولا المعارضة. فالمؤتمر الوطني لا يفعل بزمام السلطة التي بيده غير العض بالنواجذ عليها. واستسلمت أحزاب المعارضة للوضع الراهن تدعو للتحول الديمقراطي والتغيير بغير حمية وبقناعة اقل مما كان في الماضي. فمطلب التأجيل (ومترتباته)، الذي طغى على مسار الانتخابات كما رأينا، هو داء من أدواء الصفوة المنهكة. وأصله في سياستها التي تجري بلا مستقر. فالمبادرة فيها تتلاشي في روتين من المناقشات التي بلا نهاية حول أدق التفاصيل: "سلخ الناموسة". وتضيع المبادرة المطروحة متى حلت مبادرة أخرى شاغلة. فالتأجيل دائما خيار معروض لأنه الطاقة الوحيدة التي بقيت لأكثر عناصر الصفوة حراكاً. فلاشيء مضمون الوقوع حتى يقع بالفعل. لا تهنوا. قوموا إلى اقتراعكم الذي صار بفضل الصفوة المرهقة غير الخلاقة "ليس كأبينا ولكن بربينا". نشر في جريدة الأحداث 11-4-2010