أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري اغتيال باتريس لومومبا 17 يناير 1960م: أين تكمن الحقيقة؟ .. بقلم: أ.د. محمود عبدالرحمن الشيخ
نشر في سودانيل يوم 22 - 01 - 2021

تمر هذا الشهر ستون عاما على ما أسماها الباحث البلجيكي لودو دي ويت Ludo De Wette " جريمة القرن العشرين"، ألا وهي إغتيال الزعيم الكونغولي باتريس إمري لومومبا Patrice Emery Lumumba. لقد كانت جريمة إغتيال لومومبا حقا ماسأة القرن وأحد أهم الأحداث في تاريخ القارة السوداء لما كشفته من ملابسات وأفرزته من أبعاد ما زال تأثير بعضها حاضرا حتي يومنا هذا. فهي جريمة ذات أبعاد متعددة ومآلات كثر وأزمة أفرزت أزمات. وتجي أهمية الجريمة أنها آتت في "عام أفريقيا"، أي ذات العام الذي شهد إنفكاك العديد من دول القارة من ربقة الإستعمار وحصولها على الإستقلال. إذ شهد ذلك العام استقلال ما يقرب من الخمسة عشرة دولة أفريقية إنضمت لمنظومة الأمم المتحدة. لكن الفرحة لم تدم لأن إغتيال لومومبا كان تذكيرا وتحذيرا من ذات القوي الإستعمارية التي خرج الأفارقة عن طوعها بأن ما منحته إياهم كان استقلالا سياسيا صوريا بإمتياز وأنها لن تسمح بالمساس بمصالحها الإقتصادية مهما كان الثمن.
وتبرز أزمة إغتيال لومومبا، أو أزمة الكونغو، في بعدها الأعمق بأن هيئة الأمم المتحدة التي كان يفترض فيها الحياد والتي لجأ إليها الكونغوليون لحمايتهم من إعادة استعمار بلادهم كانت جزءا من المؤامرة. فالأمم المتحدة التي رحب سكرتيرها العام ، داج همرشولد ، باستقلال الدول الأفريقية ، سرعان ما وجدت نفسها أداة طيعة لتنفيذ مخططات قوي الغرب الإستعمارية بل وشريكا في إغتيال من كان مفترضا عليها حمايته. وبُعد أخر للأزمة يستبين من أن الحس الوطني الأفريقي ما زال ضعيفا يسهل إختراقه من خلال الإنقسامات العرقية والولاءات القبلية . ثم هناك توقيت الأزمة والتي جاءت في وقت بدأت فيه الحرب الباردة يستعر أوارها بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي والذي تمثلت في الأزمة الكوبية وفي لاوس وبلغت ذروتها بإسقاط الرادارات السوفيتية طائرة تجسس في أول مايو 1960.
ومن هنا فقد بدأت مخاوف الغرب من تمدد روسي نحو أفريقيا تطل برأسها عشية استقلال الكونغو. ثم هناك الصراع الكونغولي الداخلي ودوره في المساعدة على تنفيذ مخطط الغرب وإحكام سيطرته على مقدرات البلاد الإقتصادية.
كل تلك العوامل لعبت دورها في جريمة إغتيال لومومبا في السابع عشر من يناير عام 1961. ولن تتضح صورة تلك الجريمة وأبعادها المحلية والإقليمية والدولية دون التعرف بإختصار على الخلفية التاريخية للكونغو ودور ذلك في الأزمة. ففي مؤتمر برلين 1884-1885 الشهير والذي أطلق العنان للتسابق الإستعماري على القارة الأفريقية تم الإعتراف بإدعاءات الملك البلجيكي ليبولد الثاني Leopold II الواهنة بحقه في إمتلاك أراضي حوض الكونغو ليصبح الكونغو ضيعة وملك خاص له. وقد استغل ليبولود الثاني الكونغو استغلالا بشعا إذ جعل منه مصدرا لتجارة الرقيق يصدره عن طريق شركات الرقيق الأوربية للقارة الأمريكية، ومنبعا للثروة من خلال فرض نظام ضريبي قاس وتسخير الكونغوليين كأيدي عاملة لجمع المطاط دون شفقة ورحمة حتي قُدر عدد الكونغوليين الذين أُزُهقت أرواحهم تحت حكمه الثلاثين مليونا من الأنفس. ولما فاحت رائحة الفضيحة عالميا إضطر ليبولد الثاني تحت ضغوط القوي الغربية على التنازل عن حكم مستعمرة الكونغو للحكومة البلجيكية عام 1908. لكن الحكم البلجيكي لم يكن مختلفا عما سبقه إذ إستمر النظام الضرائبي البغيض واستغلت الحكومة إندلاع الحرب العالمية الأولي لتفرض نظام السخرة وزراعة المحاصيل النقدية وتفرض حكما حديديا حتي قبيل الإستقلال بسنوات.
والأنكي من كل ذلك أنه بالرغم من الثروات الهائلة التي كان يتمتع بها الكونغو فإن الحكومة البلجيكية لم تعمل على تنميته أو إعداد شعبه لفترة ما بعد الإستقلال إذ لم يكن هناك عند حصول الكونغو على إستقلاله في 30 يونيه 1960 سوي ستة عشرة خريجا جامعيا من بين 13,5 مليونا من السكان. أما الجيش فلم يكن من بين ضباطه كونغوليا واحدا. زد على ذلك أن الحكومة لم تسمح بقيام الأحزاب السياسية إلا في عام 1957 ليظهر ما يقرب من مائة حزب، معظمها ، عدا حزب لومومبا، يرتكز على القبلية والمناطقية.
في الإنتخابات التي سبقت استقلال الكونغو استطاع حزب لومومبا، الحركة الوطنية الكونغولية MNC ، الذي تأسس عام 1958 من الحصول على أغلبية المقاعد البرلمانية، يليه رابطة الباكو ABAKO القبلي الذي يتزعمه جوزيف كاسوفوبو. وهكذا أصبح عند تشكيل الحكومة لومومبا رئيسا للوزراء وكاسوفوبو رئيسا للبلاد.
ولد باتريس إمري لومومبا في عام 1925 في سانكوري إحدي مناطق قبيلة التتلي البانتوية قرب مدينة استانلي فيل، ثاني أكبر مدن الكونغو( حاليا كسنغاني ). وعمل ما بين عامي 1944-1956 عاملا للبريد في استانلي فيل حيث تحصل على كرت المواطنة بحكم وظيفته لكن كل ذلك كان أمرا صوريا إذ لم يكن كأفريقي يتمتع بذات الحقوق التي يتمتع بها رصيفه البلجيكي من سكن مجاني وسيارة وإجازة مدفوعة الأجر لمدة ستة أشهر كل ثلاث سنوات إذ لم يكن راتبه سوي مائة دولار، أي ثمن أو أقل مما يأخذه رصيفه البلجيكي. ثم ما لبث أن فُصل من وظيفته بعد أن حوكم بالسجن لمدة إثني عشر شهرا بتهمة ملفقة ليعمل بعدها بائعا في إحدي مصانع الخمور. خلال تلك الفترة نضجت قدراته الخطابية وظهرت ملكات الزعامة لديه وأصبح ينادي بأن تكون ثروات الكونغو ملكا لبنيه ولصالح رفاهية شعبه. وسرعان ما بدأ يسجل حضورا في أروقة حركة النضال الأفريقي إذ حضر في عام 1958 في أكرا، عاصمة غانا، مؤتمر شعوب أفريقيا Anti-colonial All African People's Conference بدعوة الزعيم الغاني كوامي نكروما.
بدأت نذر الأزمة الكونغولية تطل برأسها بعد اسبوع من احتفالات الإستقلال. ففي الخامس من يوليه 1960 قام الجنود الكونغوليين بالتمرد على ضباطهم البلجيكيين الذين استفزوهم ليتطور التمرد إلى شغب ونهب وهجمات قليلة ضد الأوربيين. وكرد فعل لذلك قامت الحكومة البلجيكية بإرسال فرقة من الجنود تحت ذريعة حماية رعاياها في خرق صريح لمعاهدة الصداقية الموقعة بين البلدين، كما أن جنودها سرعان ما بدأوا في احتلال بعض المدن مما أدي لاندلاع قتال بينهم وبين الجنود الكونغوليين. وتفاقم الأمر بإعلان إقليم كاتنقا الغني بالثروة المعدنية انفصاله عن الوطن الأم في 11 يوليه واحتلال الجنود البلجيكيين المظليين أجزاء من العاصمة ليبولدفيل والسيطرة على مطارها بعد يومين من ذلك.
كان واضحا أن ذريعة تمرد الجيش الكونغولي ما هي إلا حجة لعودة الإستعمار البلجيكي إلى الكونغو إذ تبين من خلال سماح موريس تشومبي ، حاكم إقليم كاتنقا المنفصل، بعودة الموظفين البلجيكيين إلى الإقليم قبل إسبوع من إعلان انفصاله بالرغم من طردهم قبلها والسماح بدخول الجنود البلجيكيين إلى الأقليم أن الإنفصال نفسه كان بإيعاز من من الحكومة البلجيكية والشركات الغربية العاملة في التعدين. أزاء كل ذلك لم يكن أمام كازافوبو ولومومبا سوي الإستعانة بالأمم المتحدة لإعادة الأمور إلى نصابها. ومما يثير الإستغراب أنه وفقا لرواية هوبس Hobbs ، في دراسته عن دور الأمم المتحدة في الكونغو، فإن لوممبا طلب بداية مساعدة الولايات المتحدة لكن الأمريكان فضلوا الأمم المتحدة وعملوا على دعمها ماديا. وبالرغم من استجابة الأمم المتحدة بإرسالها قوة حفظ سلام قوامها ثلاثين ألفا من الجنود إلا أن سكرتير عام الأمم المتحدة ، داج همرشولد ومبعوثه إلى الكونغو رالف بنش، الدبلوماسي الأمريكي، رفضا التدخل لحسم إنفصال كاتنجا متذرعين بأنه نزاعا داخليا على عكس ما كان يراه لوممبا وحكومته . فقد كان كل من كازافوبو ولومومبا يعتبرون انفصال كاتنجا تحريضا من بلجيكا وغزوا أجنبيا مطالبين بإنسحاب الجنود البلجكيين وحسم تمرد كاتنجا. وإزاء تقاعس الأمم المتحدة ورفضها الربط بين البلجيكيين وانفصال كاتنجا هدد لومومبا في عدد من رسائله إلى ممثل السكرتير العام في الكونغو رالف بنش Ralph Bunche بأنه سيلجأ إلى السوفيت إذا لم يتم إنسحاب البلجيك من الكونغو خلال ثمان وأربعين ساعة. ومما زاد من حنق لومومبا ورفقائه أن أعضاء مجلس الأمن من الغربيين رفضوا في إجتماع المجلس في 20 يوليوالإعتراف بأن هناك إرتباطا بين الوجود البلجيكي وإنفصال كاتنجا. كما أن الإجتماع كان ساحة لتبادل الإتهامات بين المعسكرين الأمريكي والسوفيتي، إذ إتهم المندوب السوفيتي السكرتير العام للأمم المتحدة وممثله في الكونغو بنش بأنهم يعملون على دعم المصالح الغربية في الكونغو.
تفاقم الخلاف بين لوممبا وبعثة الأمم المتحدة وزاد حدة بعد إعلان إقليم جنوب كاساي المجاور لكاتنجا إنفصاله أيضا في أغسطس . وتصاعدت الأمور بين لومومبا ومبعوث الأمم المتحدة ، الذي خلف بنش، الأمريكي إدوارد كورديرCordier مما أدي بالأخير لوصف لومومبا بأنه يمثل عقبة لابد من التخلص منها. وتشير كثير من الدلائل إلى أن كوردير بدأ في التعاون مع السفير الأمريكي في الكونغو فيما يتعلق بسعيه لإزاحة لومومبا والعمل على إيجاد بديل له. وهكذا وجدت الأمم المتحدة نفسها في عباءة أمريكا ومصالحها وأضحت عاملا مساعدا في تعميق الأزمة الكونغولية. وتشير الدراسات إلى أن كلا الرجلين الأمريكيين شاركا في التحريض على إزاحة لومومبا من المسرح السياسي ووجدا ضالتهما في شخص الرئيس كازافوبو. ففي 5 سبتمبر 1960 أعلن كازافوبو عزل لومومبا من رئاسة الوزارة ليقوم الأخير بدوره ،مستعينا بالبرلمان، بإبطال قرار كازافوبو وعزله. وهكذا تحول الصراع إلى أزمة داخلية. وإزداد الصراع حدة حينما قام قائد الجيش الكونغولي، موبوتو سي سيكو، بالتدخل عسكريا لصالح كازافوبو وفرض الإقامة الجبرية على لومومبا.
في أواخر نوفمبر1960، فيما يبدو ، نجح لومومبا في الفرار من منزله متوجها نحو إستانلي فيل حيث أهله وأنصاره إلا أنه سرعان ما وقع في أيدي قوات موبوتو واعتقل في معسكر ثياسفيل. ومما يؤسف له أن هناك دلائل تشير لعلم بعثة الأمم المتحدة بتحركات لوممبا لكنها لم تعمل على حمايته.
وقد كتب لومومبا لزوجته من سجنه متفائلا وقائلا:
سوف يأتي اليوم الذي سيتحدث فيه التاريخ . لكنه سوف لن يكون ذلك التاريخ الذي سوف يدرس في بروكسل، باريس ، واشنطن، أوالأمم المتحدة. سوف يكون التاريخ الذي سوف في الأقطار التي سوف تنال حريتها من الإستعمار وأذنابه. أفريقيا سوف تكتب تاريخها بنفسها وفي كليهما، الشمال والجنوب، سوف يكون تاريخ الكرامة والعزة.
لم يكن لومومبا، ولا شك، يعلم وهو يخط تلك الأسطر النيرات ما سيؤول إليه مصيره. ففي 17 يناير تم نقله وأثنين من مساعديه بالطائرة إلى كاتجا حيث كان يتم ضربهم أثناء الرحلة ثم تم أخذهم عند وصولهم إلى كاتنجا إلى فيلا خاصة ليتواصل تعذيبهم من قبل القرات البلجيكية والكاتنقية معا بحضور زعيم كاتنقا موريس تشومبي وضباطا بلجيكيين ليتم بعدها إعدامهم رميا بالرصاص ورمي جثثهم في قبور سطحية قبل أن يتم فيما بعد نبشها وتقطيعها وإحراقها.
لم يتم الإعلان عن مقتل لومومبا إلا بعد شهر من إغتياله إذ أعلنت الحكومة في كاتنقا في أواخر فبراير بأن لومومبا قد هرب من سجنه فقتله في الطريق القريويون الغاضبون. وهكذا تم التخلص من لوممبا وتنصل الكل من مقتله. ومما يثير العجب أنه بعد مقتل لومومبا عمدت الأمم المتحدة والقوي الغربية لمساعدة حكومة الكونغو في استعادة سيطرتها على الأقاليم المنفصلة إذ تم السيطرة على إستنالي فيل في أغسطس 1961 و جنوب كاساي في سبتمبر 1962 وكاتنقا في يناير 1963 بعد أن تأكدت تلك القوي من وجود حكومة حليفة تحمي مصالحها وتأتمر بأمرها. وتمثل ذلك في حكومة موبوتو سي سيكو الذي أستولي على السلطة في عام 1965 ليحكم الكونغو بيد من حديد لمدة 32 عاما (1965-1997) حتي الإطاحة به من قبل أحد أنصار لومومبا ، جوزيف كابيلا، في حرب عصابات طاحنة دعمتها كل من رواندا وأوغندا، لتدخل الكونغو بعدها في أزمتها الثانية فيما يعرف ب "حروب عالم أفريقيا Africa World Wars" التي استمرت لما يقرب من ثمان سنوات (1995-2003) وأشتركت فيها تسع دول مجاورة وخمس وعشرون حركة مسلحة وأُزهقت فيها 5,4 مليون نفس لتصبح أكثر الحروب دموية وموتا بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد ظل مقتل لومومبا لغزا لم تفك طلاسمه إلا بعد أربعين سنة من إغتياله، إذ تنصل كل المتأمرون والمنفذون من التبعة والقي الباحثون باللوم على الحرب الباردة كعنصر أساسي في أزمة الكونغو، بينما أعتبرها بعض الباحثين البلجيك إنعكاسا لتقاليد الثأر والتخلص من الأعداء عند مجموعات البانتو القبلية. لكن كتاب دي وايت " إغتيال لومومبا" الذي ظهر في عام 2002 وأعتمد على أرشيف وزارة الخارجية البلجيكية، وتقرير لجنة التحقيق التي شكلها الكونغرس الأمريكي، وأوراق كل من رالف بنش وكوردير، كشفت الحقيقة عارية وأبانت أن صراع الحرب الباردة لم يكن إلا غطاءا تدثر به المتأمرون.
يري دي ويت أن الحرب الباردة لم تكن عاملا رئيسا في أزمة الكونغو التي أدت لإغتيال لومومبا بالرغم من أهميتها في تأجيج تنافس القوي الكبري على مناطق النفوذ، وإن إتهام موسكو بالسعي للسيطرة على الكونغو لا تعضده الحقائق. فالولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون ما كانوا ليسمحوا للكنغوليين بالسيطرة الكاملة على المواد الخام في بلادهم وإبعاد الشركات الغربية عنها كما كان يدعو إليه لومومبا، دعك من أن يسمحوا بوقوعها في أيدي السوفيت. ومن هذا المنظور فإن سعي لومومبا للسيطرة على موارد الكونغو واستخدامها في تنمية بلاده ورفاهية شعبه مما أعتبره الغرب تهديدا لمصالحه . ومن أجل حماية تلك المصالح استخدم الغرب كل وسائله وأدواته للحيلولة دون حدوثه.
وليدلل ويت على صدق فرضيته رجع إلى وثائق تثبت أن قادة الإتحاد السوفيتي لم يكونوا مهتمين كثيرا بأمر الكونغو ولا بمصير لومومبا . ففي رأيه أن حكام موسكو المحافظين بقيادة جرباتشوف كانوا يفتقرون إلى الإرادة السياسية وأكثر حرصا على التعايش السلمي مع واشنطن وأن تنديد جرباتشوف بالتدخل الغربي في شؤون الكونغو ما كان إلا دعاية سياسية قصد بها تلميع وجه موسكو أمام العالم الآفروأسيوي، وأن مصير لومومبا وتحطيم الحركة الوطنية في الكونغو لم يكن أمرا مقلقا لهم. وتعضيدا لمقولته تلك أورد دي ويت أن الزعيم الروسي، جرباتشوف، قد أسر للسفير الأمريكي في موسكو قائلا بأنه " يشعر بالأسف لأجل لومومبا كشخص حينما كان في السجن، لكن سجنه في الحقيقة يخدم أهداف موسكو. أما بالنسبة للكونغو فإن الذي قد حدث هناك، خاصة إغتيال لومومبا، قد ساعد الشيوعية."
ومما يعضد من فرضية دي ويت أن تقارير المخابرات الأمريكية تبين أن اهتمام الولايات المتحدة بتعزيز نفوذها في الكونغو والعمل على الحيلولة دون استلام السلطة من قبل زعماء ثوريين معادين للغرب ومصالحه بدأ قبل تفاقم الحرب الباردة في مايو 1960 وقبل إعتلاء لومومبا سدة الحكم في 30 يونيه 1960. فوفقا لهوبس فإنه في أوائل مارس 1960 أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية مذكرة تحذر فيها بأن الإتحاد السوفيتي سوف يستغل إنهيار الإمبراطورية الإستعمارية في أفريقيا ليجد له موطئ قدم في القارة. وإستباقا لما يمكن أن يحدث فقد تم إرسال وكلاء من وكالة الإستخبارات الأمريكية إلى الكونغو للعمل الإتصال بالزعماء الكونغوليين . وفي 21 مارس أبانت برقية من المحطة الأمريكية هناك أن الوكالة تنظر في مرشحين كونغوليين لدعمهم بل إقترحت مذكرة من رئيس المحطة بضرورة تقديم دعم مالي للومومبا لاستقطابه.
من جهة أخري فإن تقريرا للكونغرس يشير إلى أنه كانت هناك نية مبيتة منذ سبتمبر 1960 للتخلص من لومومبا وأته تم إرسال وكلاء استخبارات للمساعدة في ذلك، كما أن دي ويت يشير إلى أن تحويل لومومبا إلى كاتنقا تم بالمعرفة الكاملة للمسؤول الرئيسي لوكالة المخابرات الأمريكية في الكونغو لورنس ديلفن.
وبالرغم من كل تلك الأحداثيات فإنه يبدو واضحا أن جريمة إغتيال لومومبا كان تنفيذا مشتركا بين الحكومة البلجيكية وحكومة كاتنقا الإنفصالية. وقد أورد دي ويت في كتابه الكثير من الشواهد على ذلك. وليس أدل على قوة حجية ويت وأدلته الدامغة أنه عقب صدور كتابه ذاك شكلت الحكومة البلجيكية لجنة للتحقيق في مقتل لومومبا أصدرت تقريرا في عام 2002 فيما يقرب من ألف صفحة، كما أصدرت الحكومة البلجيكية عقب ذلك إعتذارا رسميا.
لقد هز إغتيال لومومبا الضمائر الحية وأغرق مقلات ملايين الأفريقيين بالدموع إذ لم يكن إجهاضا لروح زعيم ملهم ولكنه إجهاضا لحلم أفريقي وإخفاتا لشعلة الحرية التي رفرفت في سماء القارة المظلمة مبشرة بغد أفضل.
ما زلت أذكر ونحن صغار في المدارس الأولية كيف كنا نتسمع أخبار الكونغو وكيف نستذكر لومومبا ونحن نردد مع الفنان الكابلي أنشودته الرائعة، آسيا وأفريقيا، التي القاها إبان زيارة الرئيس جمال عبدالناصرالسودان في نوفمبر 1960 بالرغم من أنه لم يرد فيها ذكر لومومبا لحداثة عهده إلا أن نضاله في الكونغو ونضال كينياتا في كينيا كان أهزوجة فرح يتغني بها شباب أفريقيا.
وحقا، كما كتب الكاتب والأكاديمي الإيرلندي الشهيرن كروز أوبراين Cruise O'Brien، الذي عاصر أحداث الكونغو عاملا في بعثة الأمم المتحدة، في روايته الشهيرة "الملائكة القتلة" فإن لومومبا كان إهزوجة في حياته ومماته:
" أن تقول أن الملايين من الأفارقة قد تأثروا بحادث ما ، أو أعجبوا بشخصية ما ، ربما (كان ) مبالغة...
لكن أسم ومصير باتريس لومومبا حقيقة قد اخترق عقول وقلوب ملايين الأفارقة. إن ألاف المحلات المنتشرة في قري الأحراش في أفريقيا الإستوائية التي لا يمكن عدها والتي تحمل لوحاتها اسم " مقاهي لومومبا" و" مطاعم لومومبا " لهي عرفانا أكثر تأثيرا في النفس لذكري لوممبا من جامعة باتريس لومومبا في موسكو."
لقد كان إغتيال لومومبا حقا جريمة عصر تبين أن المصالح الإقتصادية تطغي على الجوانب الإنسانية وأن الصراع بين الخير والشر صراع أزلي ربما يطول أمده لكنه حتما سيفضي لإنتصار الخير وتحقيق العدالة الإنسانية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.