تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد عشر سنوات: هل أنجزت ثورة الياسمين فى تونس ما وعدت به؟ .. بقلم: بروفسير بكري عثمان سعيد/جامعة السودان العالمية
نشر في سودانيل يوم 28 - 01 - 2021

في الذكري العاشرة لثورة الربيع العربي في تونس يتردد إسم محمد البوعزيزي ، بائع الفاكهة المتجول الذى يبلغ من العمر 26 عامًا ، و يعيش فى قرية قرب بلدة سيدى أبوزيد. تعرض البوعزيزى للإذلال العلني على يد مسؤولين صادروا عربة فواكه وخضروات يعيش عليها. كانت قوات الشرطة المحلية تذله وأمثاله بانتظام وتصادر بضاعتهم. حاول البوعزيزي أن يرفع شكواه إلى والي سيدي بوزيد ، الذي رفض مقابلته. أخذ نفسه أمام مكتب الحاكم المحلي ، صب البنزين على جسده ، وأشعل النار في نفسه فى يوم 17 ديسمبر 2011. لم يمض وقت طويل حتى توفى البوعزيزى متأثرا بجروحه في المستشفى. بذلك أصبح الفضل ينسب إلى البوعزيزى باعتبار أن تضحيته بنفسه أشعلت الشرارة التى ألهمت الثورات فى جميع أنحاء الشرق الأوسط.
في تونس نفسها ، سرعان ما أصبح عمل البوعزيزي الإحتجاجي رمزًا للتحدي الذي ألهم تصاعدًا في معارضة نظام زين العابدين بن علي. في 14 يناير 2011 ، فر بن علي من البلاد إلى المملكة العربية السعودية ، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الحكم الشخصي وترك تونس لبدء انتقالها إلى ديمقراطية دستورية.
في مسقط رأس البوعزيزى في سيدي بوزيد ، لا زالت مظاهر تكريمه ظاهرة في صورة عملاقة تواجه مقر الحكومة المحلية و كذلك سُمّى شارع باسمه في العاصمة التونسية ، تونس.
بعد عقد من الزمن تُعتبر الثورة التونسية حالة النجاح الوحيدة بين ثورات الربيع العربي. غير أن الصورة داخل تونس أكثر تعقيدا. فى هذه الذكرى العاشرة للثورة التونسية تتواصل التجاذبات السياسية بين النخب و القوى السياسية و تجتاح البلاد موجة من الإحتجاجات الغاضبة فى مناطق ، بما فيها العاصمة تونس. الإحتجاجات قوامها الشباب الذين يحركهم الإحباط إذ لم تحقق لهم الثورة طموحهم فى التوظيف و العيش الكريم بل زادت معاناتهم فخرجوا فى مظاهرات غاضبة تهتف:"التشغيل إستحقاق يا عصابة السُرّاق". قال الإتحاد التونسى للشغل: "إن هذا الشباب أنهكته البطالة و الفقر و المهاترات السياسية". و يتزامن هذا الحراك الشعبى العاضب مع خلافات حادة بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد و بين رئيس الوزراء هشام المشيشى الذى يدعمه تحالف يمثّل الغالبية فى البرلمان.
حتى البوعزيزى الذى أشعلت تضحيته شرارة الثورة، لم تعد له تلك الرمزية عند كل التونسيين، خاصة بعد أن هاجرت عائلته إلى كندا و قطعت علاقاتها مع سيدى أبوزيد.
نشرت صحيفة القارديان البريطانية فى عدد 16 ديسمبر 2020 مقالا بعنوان "لقد دمَّرَنا: بعد عشر سنوات، يلعن التونسيون الرجل الذى أشعل الربيع العربى". إستطلاعات كاتب المقال مايكل سافى فى سيدى أبوزيد أظهرت واقعا صادما حيث تحدث بعض أقرباء البوعزيزى كيف أن إسم عائلتهم الذى كان فى يوم من الأيام مصدر فخرتونسي تلطخت صورته و أصبح و كأنه لعنة.
و يقول الكاتب كيف تنظر إحدى المارّات، عندما سُئلت عن رأيها في البوعزيزي ، إلى صورته على الجانب الآخر من الطريق. تقول: "أنا ألعن ذلك الشخص". "أريد أن أنزله. إنه الشخص الذي دمَّرَنا"
بالمقابل قال أحد أصدقاء البوعزيزى: "مات وانتصر آخرون" في إشارة إلى مسؤولي النظام السابق والمنفيين والسجناء السياسيين الذين جاءوا لتولي أعلى المناصب في تونس. "لم يحلموا أبدًا بأن يكونوا حيث هم. ولكن بسببه، هم هناك".
ينتقد الكاتب التونسى محمد قويسمى تغطية الإعلام الغربى للذكرى العاشرة للثورة التونسية و يقول " إن هناك الهوس الغربي بأسطورة التأسيس الاختزالية للربيع العربي: التضحية بالنفس لرجل مُهمَّش ، محمد البوعزيزي ، الأمر الذي أثار موجة من الغضب وأطاح بالديكتاتوريات العربية مثل "الدومينو".
"يُصوّر المشهد العشوائي، لهذا الحدث العشوائي الذي تم إنشاؤه في وسائل الإعلام الغربية، اندلاع الانتفاضات العربية ليس كرد فعل منطقي للاستبداد والاندفاع الطبيعي للحرية والديمقراطية ، ولكن كنتاج للاعقلانية والاندفاعية العربية المُتصوَّرة. تقريباً كل التقارير الإخبارية في الذكرى العاشرة للثورة التونسية تتفق على نفس الرأي: الشعب التونسي الآن غير راض عن ثورته ويعتبرها "لعنة.
مجلة الإكونومست (عدد 19 ديسمبر 2020) تمضى أبعد من ذلك و تسأل: "هل يمكن أن يكون صحيحًا ، كما يجادل البعض ، أن العرب ببساطة لا يستطيعون الالتزام بالديمقراطية؟" " لم تُزرع بذور الديمقراطية الحديثة بشكل صحيح في العالم العربي بعد. إن تعطّش المواطنين العرب لاختيار حكامهم قويّ كما هو الحال في أي مكان آخر. إن أكثر ما يحتاجون إليه هو أن تتطور المؤسسات المستقلة - الجامعات ووسائل الإعلام والجماعات المدنية ، وقبل كل شيء المحاكم والمساجد - دون أن تكون خاضعة للحكومة. عندها فقط يمكن إيجاد مساحة لمواطنين ملتزمين ومستنيرين. عندها فقط من المرجح أن يقبل الناس إمكانية حل النزاعات السياسية سلميا"." في مثل هذه التربة الجافة ، ليس من المستغرب أن فشلت الديمقراطية في ترسيخ جذورها"..
لكن الحكم على التجربة التونسية لا يجب أن يتم بمعزل عن مالات ثورات الربيع العربى الأخري، خيث كان مصير الربيع العربى فى تلك الدول الإنزلاق إلى الفوضى و الحرب الأهلية أو العودة إلى الحكم الإستبدادى. و ينبغى عدم التقليل من التحديات و العقبات الجسيمة التى واجهتها التجربة التونسية و صمدت أمامها و تجاوزتها لتحافظ على نجاحها النسبى وتظل دولة ديمقراطية فيها تعددية حزبية، تقوم فيها إنتخابات نزيهة و تبادل سلمى للسلطة و تصان فيها الحريات و تحتكم إلى دستور توافقى.
إذن ما هى العوامل التى منحت الثورة التونسية مسارا منفصلا عن مثيلاتها من ثورات الربيع العربى؟
هناك كثير من الإجتهادات التى حاوات تفسير تميّز المسار الثورى التونسي نلخصها فى ما يلى:
1. الإنسجام المجتمعى فليس فى تونس إنقسامات جهوية أودينية أو إثنية. الغالبية العظمى من السكان عرب مسلمون يتبعون المذهب المالكى.
2. الاندماج السهل للعصور والثقافات التي تشكل تونس الحديثة كأحد الأسباب التي دفعتها إلى الحفاظ على التجربة الديمقراطية.
3. الجيش التونسى جيش صغير و منضبط و غيرمسيس أو طامح للحكم مثل غيره من بعض الجيوش العربية. كان الحبيب بورقيبة متوجّساً من الدور السياسي للجيوش فى دول عربية مثل مصر و العراق و سوريا، فقام بإضعاف المؤسسة العسكرية و تحييدها و إبعادها عن التأثير السياسى.
4. عدم وجود كتلة مدنية معتبرة مستعدة للتحالف مع العسكر و تسعي لإستخدام الجيش فى معاركها السياسية.
5. بالرغم من الإستبداد الذى حكم تونس فقد نشأ مجتمع مدنى مزدهر و متأصّل و ذلك منح البلاد شبكة من الفاعلين كان دورها حاسماً في انتقال الوضع و ساعدت علي إنجاز التحول الديمقراطي.
6. تونس كانت مهمشة و لم تكن مهمة من حيث الإعتبارت الجيوسياسية و هى بعيدة عن مركز الثقل العربى و أقل أهمية بسبب حجمها و نقص الموارد الطبيعية. يمكنك أن تقارن ذلك بمصر و التى يُثير أى تغيير فيها إهتماما عالمياً كبيراً، خاصة فى إسرائيل و عند حلفائها الغربيين.
يقول الرئيس التونسى السابق الباجى قائد السبسى إن أهم سببين لنجاح ثورة الربيع العربى فى تونس هما: تعميم التعليم و تحرير المرأة.
لكن كثيرين يقولون إن العامل الحاسم فى صمود التجربة التونسية كان هو الحكمة التى اتصفت بها أطراف العملية السياسية فى تونس و التى تبنت منهج الحوار بديلاً للمواجهة وبديلاً للسعى لإقصاء الخصوم وتحلّى الكثيرون بمرونة و مقدرة على تقديم التنازلات من أجل إستمرار التجربة الديمقراطية.
الباحث و الأكاديمى التونسي الدكتور محمد البوغانمى، مؤلف كتاب "الخريف العربي: فى التناقض بين الثورة و الديمقراطية"، يقترح ثلاثة نماذج لنتائج الثورة بعد حصولها: "إمّا أن تؤدّى الثورة إلى نظام ثورى يسيطر فيه أحد الأطراف الثورية أو التى تتحدث باسم الثورة على الدولة، مؤسّسا لنظام قوى يفرض إرادته و يعيد إنتاج الدكتاتورية بإيدولوجية ثورية. هذا النموذج الأول، النموذج البلشفى مثلا، يتمحور ضمن هذا السياق.
النموذج الثانى هو نوع من التدافع غير المحدود و المنافسة السياسية المفرطة التى تتجاوز الحدود التى تضبطها الديمقراطية عادة، مما يؤدى لفقدان الدولة لسيطرتها على المجتمع، تمهيدا لانحلال العقد الإجتماعى، مرورا بالإحتراب الذى قد يؤدى إلى الحرب الأهلية، و النماذج العربية تغنى عن أى مثال آخر.
النموذج الثالث و هو النموذج التونسى و فيه الدولة تفقد بطبيعتها جزءا من قوتها لأن ذلك من قواعد الثورة. أىّ ثورة تُضعف الدولة فى مرحلتها الأولى على الأقل. و لكن ضعف هذه الدولة لا يصل إلى مرحلة الحرج. و كذلك فإن قوة المجموعات الوسطى المنافسة للدولة ( مثل الأحزاب و النقابات و الهيئات و التنسيقيات) ، التى تسعى للهيمنة على الدولة، لا تصل قوتها إلى درجة تُمكّنها من الهيمنة على الدولة، مما يُحيل إلى حالة من الرخاوة تتدافع فيها هذه المجموعات الوسطى دون أن تصل إلى السيطرة على الدولة مما يدفعها فى لحظة من اللحظات إلى الحوار و تجنّب الإحتراب.
في الحالة التونسية فإن قناعة كل الأطراف بضرورة الحفاظ على الدولة ناجم من قناعتهم بأنهم ليس لهم أى قدرة ذاتية على تقديم أنفسهم كمهيمن على الدولة بحكم ما حافظت عليه الدولة و إدارتها و هياكلها الأُخرى من شئ من التوازن و شئ من القدرة على التأثير".
فى عام 2011 أجريت أول إنتخابات حرة فى تونس و فاز فيها حزب النهضة الإسلامي. أثار فوز حزب النهضة غضب القوى العلمانية التى سيرت مظاهرات ضد الحكومة بينما خرجت مظاهرات أخرى مؤيدة للحكومة.
فى منتصف عام 2013، أدى الخلاف بين حزب النهضة الإسلامي والعلمانيين إلى تجميد المحادثات حول دستور جديد. عندما اغتيل اثنان من القادة اليساريين على يد جهاديين مشتبه بهم ، اهتزت تونس بالمحتجين الغاضبين و اجتهدت حركات ليبرالية و علمانية فى إستغلال الأحداث لضرب الإسلاميين. دخلت البلاد فى أزمة أنذرت بإنزلاق البلاد إلى دوّامة من الفوضى و العنف قد تعصف بالتجربة الديمقراطية كلها. فى هذه الظروف تكوّن الرباعى الراعى للحوار الوطنى الذى ضم الإتحاد العام التونسى للشغل و الإتحاد التونسى للصناعة و التجارة و الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق السودان و نقابة المحامين. قاد رباعى الحوار مفاوضات شاقّة إستغرقت عدّة شهور و أفضت إلى إتفاق أدّى إلى إجازة الدستور و قيام إنتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة و الإتفاق على تكوين حكومة تكنوقراط. التسوية السياسية التى تمّت بين الزعماء الإسلاميين و العلمانيين نزعت فتيل الأزمة و مهدت الطريق للإنتقال الديقراطى فى تونس.نال رباعى الحوار جائزة نوبل للسلام. تقول وداد بوشماوي ، الرئيس السابق للإتحاد التونسي للصناعة و التجارة " كنا خائفين من أن نفقد ثورتنا". "كانت ستكون حربًا أهلية ، أو ارتباكًا في كل مكان ، وسنكون مثل ليبيا".: " ما ساعدنا هو الوضع في مصر". كانت حركة النهضة تخشى أن يكون لدينا نفس الوضع هنا". لكن اللجنة الرباعية احتاجت أيضًا إلى إقناع معارضي الإسلاميين بأنهم لا يستطيعون ببساطة إبعادهم عن النظام. قالت بوشماوي لقادة المعارضة: "الديمقراطية هى تقبُّل الآخرين. لا يمكننا المطالبة بالديمقراطية ثم نقول إننا لا نتفق مع نتائج الانتخابات. هذه هي الديمقراطية ".
انتخابات 2014 شهدت إنتصار القوي العلمانية و تراجع حظوظ الإسلاميين. لكن بدا أن الإحباط بدأ يظهر و لم يشارك الشباب بكثافة في التصويت و كان التصويت علي أقله في سيدي أبوزيد مسقط رأس البوعزيزى. كان مجئ الباجي قائد السبسى ، فى تقدير كثيرين ، إيذانا بمرحلة من المواجهة مع حركة النهضة بهدف إقصائها عن المشاركة السياسية أو محاولة تصفية الحركة. جاء الباجى قائد السبسى إلى السلطة و هو يمثّل إمتداداً النظام بورقيبة و بن على، يقود تحالفا من من الرأسماليين والقوميين والعلمانيين ، أكثر ما يوحّدهم هو العداء لإسلامى النهضة و رغبتهم فى إخراجهم من الخريطة السياسية. بالمقابل كانت حركة النهضة تعيد تموضعها فى الفضاء السياسى التونسى كحركة إسلامية تونسية ملتزمة بالثورة و الديمقراطية.
لكن السياسى العجوز الذى عركته التجارب كان يدرك أن الصدام مع حركة النهضة قد تكون تكاليفه كبيرة فى ظل ديمقراطية هشة و أنه قد يحتاج لدعم الحركة فى مقبل الأيام.
استمرت العلاقة بين الطرفين لمدة أربع سنوات ، و قاوم الباجى قائد السبسى رغبات بعض حلفائه الداخليين و ضغوط و إغراءات خارجية للصدام مع حركة النهضة و آثر الحوار و التعاون حفاظا على الديمقراطية. أثمر التعاون بين الباجى قائد السبسى و إسلاميى حركة النهضة فى التوافق على الدستور. عندما تخلت حركة النهضة عن تسمية الإسلام السياسي ، وقدّمت نفسها كحزب سياسى ديمقراطى مدنى يفصل بين الدعوى و السياسى ، أشاد السبسي بالحزب باعتباره حزبًا تونسيًا حديثًا، و أصبح حزب حركة النهضة ، الذى كان ثانى أقوى حزب فى تونس بعد إنتخابات 2014، جزءاً من الحكومة.
لكن السبسى الذى مهد ألأجواء لذلك التوافق ، نقض غزله بيديه عندما دفع بإبنه حافظ قائد السبسى ليكون خليفة له وسط معارضة كبيرة تسببت فى إنقسام تلو الاخر فى حزبه.
إنشق ما يقرب من نصف نواب حزب تونس نداء البالغ عددهم 86 نائبًا مما أدى إلى تقليص أغلبية حزب نداء تونس فى البرلمان و جعل حزب النهضة ، الذي جاء في المرتبة الثانية في انتخابات 2014 ، ب 69 مقعدًا من إجمالي 217 مقعدًا، هو أكبر حزب فى البرلمان. نشأ المزيد من التوتر عندما عيّن نداء تونس تكنوقراطيًا عديم الخبرة ، يوسف الشاهد ، رئيساً للوزراء. لكن السبسى ضاق ذرعا ببعض التصرفات الإستقلالية لرئيس الوزراء يوسف الشاهد الذى أراد منه السبسى أن يكون تحت إمرته و منفّذاً لتعليماته، بالرغم من أن الدستور التونسى يضمن الفصل بين السلطات و يعطى السلطة التنفيذية لرئيس الوزراء. إستعرت الحرب الأهلية داخل حزب نداء تونس و احتدم الصراع بين حافظ السبسى و الشاهد. أراد السبسى التخلص من الشاهد و لكن الشاهد رفض الإستقالة مستقوياً بتأييد نصف البرلمانيين من حزب نداء تونس و أصبح التحالف الوطني بقيادة الشاهد ثاني أكبر كتلة في البرلمان.
أجبرت الحرب الأهلية داخل حزب نداء تونس حزب النهضة على الانحياز لأحد الجانبين. سعى السبسى لتأييد حزب النهضة له فى معركته لكن حزب النهضة رأى أن يقف فى الجانب الاخر. كانت نهاية التحالف بين النهضة و السبسى بداية مرحلة من الإضطرابات و سلسلة من الدعاوى القضائية تهدف لمحاصرة حركة النهضة و إعادة إتهام الحركة فى قضايا الإغتيال السياسى و هو ما نفته الحركة بقوة.
شهد العام الماضى فصلا حاميا من حملة عبير موسي زعيمة الحزب الدستورى الحر ضد حركة النهضة و زعيمها راشد الغنوشي رئيس البرلمان. بدأت الحملة بهجوم على الغنوشى الذى زار تركيا و اتهمته عبير موسى بأنه يقود سياسة خارجية موازية لسياسة الحكومة التونسية. فى شهر مايو 2020 قام الغنوشى بتهنئة حكومة الوفاق الوطنى فى ليبيا على استعادتها قاعدة الوطية الجوية من الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر. وتم إتهام الغنوشي ، زعيم حركة النهضة في البلاد ، بالخروج على موقف تونس المحايد بشأن التطورات في ليبيا من خلال تفضيله السراج ، المدعوم من أنقرة والدوحة ضد الجنرال خليفة حفتر المدعوم من محور مصر - السعودية - الإمارات. و قادت عبير موسى محاولة لعزله من منصبه فى البرلمان و لكنها فشلت فى حشد الأصوات اللازمة لذلك.
لكن هذا النجاح النسبى للثورة التونسية يقابله عدم رضا واسع وخيبة أمل فى الشارع التونسى. بعد 10 سنوات من الثورة تعانى الدولة التونسية من عدم الإستقرار السياسى و صراع المكونات السياسية والتدهور الإقتصادى و استشراء الفساد و الرشوة و تفشى البطالة. تتوقع مجموعة الأزمات الدولية أن المستقبل قاتم فى ضؤ ارتفاع الدين العام و البدء فى سداد الديون الخارجية. و لقد زادت جائحة كورونا الأمور سوءًا.
حذر صندوق النقد الدولي من أن الآثار الاقتصادية للجائحة ستضع تونس في ضائقة شديدة فيما يتعلق بديونها. وكتبت المؤسسة الدولية أن "عبء ديون تونس سيزداد بشكل كبير حيث تكافح البلاد مع صدمة كوفيد-19 ، مما يعكس الانخفاض الحاد في النمو وتدهور الميزان المالي الأساسي نتيجة لانخفاض الإيرادات وإجراءات الاستجابة لأزمة كرونا".
منذ عام 2011 ، شهدت تونس ثماني حكومات متعاقبة ، بما في ذلك حكومتان مؤقتتان ، بمتوسط عمر عام واحد لكل منها ، بسبب السياسات المتشرذمة وغياب الأغلبية الواضحة. كانت حكومة رئيس الوزراء يوسف الشاهد هي الاستثناء الوحيد ، حيث استمرت لمدة ثلاث سنوات ونصف بين أغسطس 2016 ويناير 2020.
إتّسمت الحكومات بالضعف و عدم القدرة على إتخاذ القرارات الشجاعة. تقول سعيدة العويسى و هى زيرة سابقة عن حركة النهضة: "نحن دولة ديمقراطية. لا يمكن للسلطة السياسية أن تتخذ قرارًا وهي تعلم أنه سيكون صعبًا جدًا على غالبية السكان ، لأن هناك انتخابات في هذا البلد. يمكن للناس التظاهر".
تتعرض الديمقراطية التونسية لطائفة من الإنتقادات منها أنها ديمقراطية إجرائية أوهى ديقراطية الشكل و ليست ديمقراطية العمق ، و أنه ما زال الطريق طويلا و وعرا حتي يتم تأسيس مؤسسات ديمقراطية حقيقية. و يقول البعض أن النخب السياسية منهمكة فى صراعاتها و طموح أفرادها بمعزل عن أهل الريف و أن النخب السياسية تحتاج لإدارة حوار عريض ليفهم أهل الريف ماذا تعنى الديمقراطية لهم. بينما تحتفل النخب المتعلمة بما وفرته الثورة من حريات فإن الغالبية من عامة الناس مصابون بخيبة الأمل لعدم تحسن أحوالهم المعيشية.
يتواصل صراع النخب السياسية، و يشعله الحزب الدستورى الحر بقيادة المحامية و النائبة عبير موسي التى تمثل التيار القديم الذى جعل معركته الأولى هى إقصاء حركة النهضة عن المشاركة السياسية و هى معركة تجد دعما خارجيا مثل دعم القنوات التابعة للإمارات و السعودية. بالمقابل تتهم حركة النهضة، و بعض الجهات الأخرى مثل الرئيس السابق النصف المرزوقى، تلك الدول بأنها لاتسعى فقط لتصفية حركة النهضة بل لإفشال التجربة الديمقراطية بكاملها.
من الواضح أن الدور المتنامي لتركيا في ليبيا - خاصة بعد أن ساعدت أنقرة حكومة الوفاق الوطني في الهيمنة على الأجواء وإنهاء التفوق الجوي لقوات حفتر - عنصر أساسي في المعادلة الليبية ، مما أثار قلق محور مصر السعودية الإمارات من تدخل تركى مماثل فى تونس. إن إحتمال تحول تونس إلى ساحة حرب بالوكالة أو بالدعم المباشر بين المحاور الإقليمية المتنازعة، يحمل فى طياته نذير شؤم للديمقراطية التونسية الهشة.
الأزمة المستمرة تؤثر على كل فئة داخل المجتمع التونسي، و يظل الفساد المستشرى مهددا أساسيا لكل مستويات الأمن السياسى والإقتصادى والإجتماعى. أرجعت منظمة الشفافية الدولية مشكلة الفساد في البلاد إلى ضعف مؤسسات الدولة وتراخي السلطات في إنهاء هذه الظاهرة.
يدعو كثير من المفكرين و الكتاب التونسيين و قادة المجتمع المدنى إلى تجنب الحكم على الثورة التونسية بالفشل ويقولون عشرة سنوات هى فترة قصيرة فى تاريخ الشعوب و يسوقون أمثلة من التاريخ الأوروبى، و المخاض العسير للديقراطية فى أوروبا الذى استمر عشرات السنين من الإضطرابات و الحروب و فقدان الأنفس و هو منطق يحتاج لتفكير و تحليل. هل من المحتوم أن يكون طريق الديمقراطيات الناشئة إلى بناء ديمقراطية حقيقية و مستدامة هو نفسه الذى مرت به الشعوب الأوروبية؟ و هل مثالنا هو الثورة الفرنسية و أن الديمقراطيات الناشئة مكتوب عليها أن تتقلب فى الصراع و الحروب و الدم ثمانين عاماً حتى يتحقق النظام الديمقراطى المستقر؟ يحتاج هذا الإفتراض إلى تحليل و دراسة، لأن الوصول إلى الديمقراطية المستدامة فى أوروبا لم يسلك مساراً واحداً بل إتبع مسارات مختلفة شكلتها ظروف تاريخية سياسية و إقتصادية و إجتماعية و الظروف المحيطة بالتطور السياسى اليوم مختلفة عما كانت عليه فى السابق. و قد يكون من الأفيد النظر فى تجارب الإنتقال الديمقراطى الحديثة فى دول جنوب و شرق أوروبا و فى أمريكا اللاتينية و آسيا و إفريقيا و هى التى عناها كتاب صامويل هنتنقتون : الموجة الثالثة: الدمقرطة فى أواخر القرن العشرين.
Samuel Huntington: The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century
يقسّم هنتنقتون الموجات الديمقراطية إلى ثلاثة:
الموجة الأولى بدأت فى نهاية القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية و الثورة الأمريكية و تمتد إلى بداية القرن العشرين حيث سُسمح للنساء بالتصويت فى تلك الدول عدا سويسرا. التحول الديمقراطى فى هذه الموجة كان تدريجياً ومؤلماً استغرق وقتاً طويلاً. الموجة الثانية للتحول الديمقراطى إرتبطت بالنضال ضد القوى الإستعمارية فى إفريقيا و آسيا و ذلك فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. كان التحول فى هذه الموجة أسرع بكثير عن الموجة الأولى. الموجة الثالثة التى بدأت فى منتصف السبعينات فى جنوب أوروبا مع الثورة البرتغالية، ثم فى أمريكا اللاتينية , و أجزاء من آسيا و إفريقيا. ويُضاف إلى الموجة الثالثة التطورات فى أوروبا الشرقية فى عام 1989.
عدّ بعض الباحثين ظاهرة الربيع العربى جزءاً من الموجة الثالثة للديمقراطية كما وصفها صامويل هنقتنقتون. لكن آخرين صنّفوا الربيع العربى:" على أنه موجة إقليمية رابعة من تحقيق الديمقراطية في البلدان التي لديها بيئات غير مواتية للديمقراطية،و لكنها تشترك في بعض الجوانب مع الموجة العالمية الثالثة من حيث العوامل المسببة والسمات والتحولات الديمقراطية. في كلتا التجربتين ، فإن تسلسل التحولات من الاستبداد إلى الديمقراطية غير متماسك ، وقد تمكنت العديد من بلدان الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي من الاستقرار في "منطقة رمادية من أشكال متنوعة من الحكم حيث يتم الجمع بين السمات الاستبدادية والديمقراطية".
Ahmed Ibrahim Abushouk: The Arab Spring: A Fourth Wave of Democratization? DOMES ،Wiley Online Library.
يمكن لمن يرغب فى تفاصيل هذا الموضوع الرجوع للمقال أعلاه للبروفسر أحمد إبراهيم أبوشوك.
إن الأمر المهم فى هذا الجدل هو الإشارة إلى أهمية دراسة تجارب التحول نحو الديموقراطية التي إنتظمت العالم منذ منتصف السبعينات، و التعرف على العوامل المساعدة فى التحول إلى الديمقراطية و فى إستمرارها. الدراسات العديدة فى هذا المجال ظلت حبيسة فى المجال الأكاديمى إلى حد كبير. التحدّى القائم هوتجسير الهوّة بين عالم الأكاديميات و عالم السياسة، حتى يصبح هذا الجهد الأكاديمى ذا صلة بالواقع و مُلهماً للسياسات العملية لدى الساسة و صناع القرار المشغولين بالمعارك الأيدولوجية و المحاصصات السياسية.
يقول بعض المفكرين إن إنتفاضات الربيع العربى التي بدأت قبل عشر سنوات من اليوم علامة لا تمحى في تاريخ العالم العربي. لقد سقط جيل من الطغاة ، والجيل القادم من الطغاة أصبح على علم بهشاشة الدكتاتورية و أن الشعب الأعزل قادر على دك عروشهم متى شاء. و لكن يبدو أن ذلك الإفتراض ليس عاما فقد رأينا كيف كان السيسى فى مصر و بشار الأسد فى سوريا مستعدان لإستخدام عنف مفرط ضد خصومهم. تقول مجلة الإكونومست عدد 19 ديسمبر :" أحد الدروس التي تعلمها المستبدون من الربيع العربي هو أن أي وميض للمعارضة يجب أن يتم إخماده بسرعة ، خشية انتشاره".
اخرون يقولون إن الثورة مستمرة فى إصحاح مسيرتها و الدليل على ذك هو إستمرار الإحتجاجات كوسيلة للضغط على الحكومات و تحقيق مطالب الثورة. غير أن استمرار الإحتجاجات و الإضرابات يؤدّى إلى عدم الإستقرار السياسي و الذى هو ضرورة للتعامل مع مشاكل البلاد. مثل هذا الجو المشحون بالإحتجاجات و الإضطرابات يعطل عمل مؤسسات الدولة و يجعلها عرضة للإبتزاز بواسطة الجماعات المختلفة التى قد تستمرئ هذه الإحتجاجت كوسيلة للتغيير بدلا عن صناديق الإقتراع. إن الإنتقال الديمقراطى يستدعى نهج التغيير التطوّرى بدلا عن التغيير الثورى الذى قد يفضى إلى إضعاف كيان الدولة و الخروج على حكم القانون. تعدّدت الإحتجاجات المطلبية فى تونس و أصبحت الدولة مغلولة الأيدى و هى تتجنب إستخدام العنف و تفضّل التفاوض مع مجموعات تخرق القانون و تعطّل مصالح التونسيين. الباحث و الأكاديمى التونسي الدكتور أيمن البوغانمى يطفح به الكيل بعد قضية الكامور فى سنة 2017 ، حيث قامت تنسيقية الكاموربإغلاق مضخّات النفط و اضطرّت الحكومة للتفاوض معهم و تلبية مطالبهم. يقول البوغانمي:" تقاوم الحكومة ما شاء لها القدر أن تقاوم ثم لا يلبث أن يتوجّه فريق حكومى ليتفاوض عن الدولة مع من خالف القانون و أخذته العزة بذلك"."هذه لسيت بالديمقراطية. إنها فى الحقيقة دكتاتورية الأجسام الوسطى التى لا تحتاج اليوم لأى قوة معتبرة لتحدّى الدولة. كل الذى تحتاجه هو أن تجد سبيلاً لتعطيل إنتاج استراتيجى أو للإضرار بمصالح معتبرة. كل الذى تحتاجه أن تجعل دولة القانون مُخيّرة بين اللجوء إلى العنف الشرعى أو تكبّد خسائر جسيمة لا قبل للإقتصاد التونسى بدفع ضريبتها".
مفكرون و ناشطون آخرون يُظهرون يأساً من أن تنجح الطبقة السياسية الحاكمة فى إنجاز التحول الديمقراطى و النمو الإقتصادى و الإجتماعى و يراهنون على جيل الشباب لتحقيق تطلعات الشعب التونسي. مثّل الشباب القوة الدافعة لثورات الربيع العربى و لكن تضرر الشباب و خاصة الشباب الحضرى المتعلم من إرتفاع معدلات البطالة و تدنى الأجور و الغلاء. لقد أنسدت الآفاق فى وجوههم وأصبحوا يعجزون عن الحصول على وظيفة تحفظ كرامتهم و عاجزون عن الزواج و بناء أسرة و لعب أدوارهم المجتمعية. كما أن الترابط العالمى لهذا الجيل من خلال وسائل الإعلام و التكنولوجيا صنع جيلاً معولماً يطالب بالحقوق التى ينالها نظراؤه فى البلاد الأخرى بينما هم فى بلادهم مُستبعدون من العملية السياسية بواسطة حكومات لا تضع همومهم فى أولوياتها. وصل هؤلاء الشباب مرحلة اليأس من حدوث إصلاح يعطيهم حقوقهم و يحقق مطالبهم و أنه ليس لديهم ما يخسرونه و أنه لا بد من تغيير النظام لتحقيق مطالبهم. لكن بعد سقوط النظام إنتقلت السلطة إلى الجماعات و الأحزاب السياسية التى تملك الخبرة و المقدرة على التنظيم و الآليات التى تساعدها على الإمساك بالسلطة، ولكنها تُقدّم أجنداتها الحزبية و الشخصية على مطالب الشباب. لم يكن للشباب آلية لتحويل الحراك القاعدى اللامركزى غير المؤدلج إلى مساهم رئيسى فى تشكيل الحياة السياسية بعد سقوط النظام. يلجأ الشباب حينئذ إلى مواصلة الإحتجاج أو محاولة إعادة إنتاج الثورة. هذا التوجه، خاصة فى غياب قيادة قد يشكل خطرا على التحول الديمقراطى الذى كان أهم أهداف الثورة. الجسم الشبابى مرشح دائما لأن يستمر فى التحول نتيجة للتفاعلات داخله فهو لا يشكل كتلة متجانسة فى توجهاتها و أهدافها و هى حركة لامركزية و سييظل الجسم الشبابى عرضة للإختراق من قبل الأحزاب و المجموعات المنظمة لتجيير الشباب لتحقيق أهدافها. من المفيد إستطلاع أراء و مواقف الشباب بعد عشرة سنوات من إندلاع ثورات الربيع العربى و لكن للأسف لم يجد هذا الموضوع الهام ما يستحقه من البحث الأكاديمى. من الإفادات التى تدعو للتأمل ما صرح به وائل غنيم، أحد أهم رموز ثورة يناير 2011 فى مصر فى لقاء من كاليفورنيا مع قناة الحرة: "لم يكن لدينا فكرة كيف نغيّر الوضع. مسارنا فى2011 لم يكن المسار الأنسب. اتفق مع عمر سليمان المصريين مش جاهزين للديمقراطية. كنا فاكرين لو جبنا الديمقراطية كل حاجة حتتصلح".
بعد عشرة أعوام على الثورة ، بلغ الإحباط بالشباب التونسي مبلغا بعيدا حتى أن الشباب التونسي سجل أعلى نسبة من السكان وسط الشباب الذين يحاولمون الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا و فى الإنتماء لتنظيم داعش.
و بينما تستمر الإحتجاجات التى تكشف عجز الدولة عن إنفاذ القانون ، تشتد ضراوة العراك السياسى و تتآكل ثقة الجمهور فى مقدرة الطبقة السياسية على تحقيق مطالبهم فى العيش الكريم، بل تظهر بوادر الحنين إلى الإستقرار أو إلى "الإحساس بالإستقرار" الذى توفره الدكتاتورية و يدعو البعض علنا لتدخل الجيش.
يقول الرئيس السابق المنصف المرزوقى: " إن الثورة حقّقت نصف أهدافها"."نحن الان أمة حرة. لنا إنتخابات حرة، برلمان حر، حرية التعبير،حرية التنظيم و دولة قانون و مؤسسات. إنتهى التعذيب فى تونس و لنا واحد من أفضل الدساتير فى العالم. و لكن فشلنا فى تحقيق الأهداف الإقتصادية و الإجتماعية وفشلنا فى محاربة الفساد".
لكن الجمهور العريض تحركه حاجياته و مطالبه الحياتية و هو غارق فى مستنقع الإحباط و لا يرى ضؤاً فى نهاية النفق.
يقول الدكتور المرزوقى إن التجربة الديمقراطية فى تونس ستستمر لأن فى تونس كثيرون سيدافعون عن الدستور. بالمقابل فإن جزأ من النخبة التونسية لا يُبدون تفاؤلا بالإصلاح فى المستقبل القريب.
بعد عشرة سنوات من بداية الربيع العربى، لا زالت دوله تعانى من نفس المشاكل التى كانت السبب المباشر فى إندلاع الإحتجاجات، بل بدرجة أسوأ مما كانت عليه من قبل. ثم حلّت جائحة كرونا فأقعدت الإقتصادات المنهكة أصلاً. لكن من المتفق عليه بين المراقبين أن ظاهرة الربيع العربى لن تُمحى من ذاكرة الشعوب و أنها مستمرة فى التفاعل والمساهمة فى تشكيل مستقبل هذه الدول و المنطقة بأسرها. فتحت هذه الانتفاضات فصلاً جديداً في تاريخ الثورات الشعبية، و يعتقد الكثيرون أنها قد ألهمت الحراك فى كل من السودان، لبنان، الجزائر و العراق و لكن بدرجات متفاوتة.
تظل العين على التجربة التونسية، التى تتقاذفها رياح الفشل الإقتصادى و الإجتماعى و خصومات النخب و تناقض أجنداتهم الحزبية و الشخصية والفساد و يهدّد التجربة صراع المحاور الإقليمية، و لكنها تظل الحالة الوحيدة بين دول الربيع العربى التى صمدت فيها تجربة ديمقراطية فيها تبادل سلمى للسلطة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.