الطرح في هذا المقال مؤسس على ثلاث فرضيات. أولهما، أن لنظام السوق الحر محاسنه كما أن له مساوئه؛ وثانيهما، أن تدخل الدولة على علاته قد يكون ضروريا لسد نواقص نظام السوق الحر؛ ثالثهما، أن ضعف قطاع الدولة وهشاشة الوضع السياسي في السودان والصعوبات العملية التي تحيط بنظام التخطيط المركزي ينطوي على صعوبات تطبيقية جمة. وعليه يجب الحذر من تغول دولة يستفيد منها البيروقراطيين والعسكريين ويسحق فيها المواطنين الغلابة والمنتجين. وعليه يدفع المقال بحجة أن البراغماتية تقتضي الاستفادة من محاسن النظام الحر، وتجنب مساوئه، مع تهيئة قطاع الدولة لسد ثغرات الاقتصاد الحر وتوجيه الاقتصاد للوجهة التي تخدم الاهداف العليا وتستوفي المعايير المثلى. لذلك على الدولة تهيئة مقدرات مؤسساتها لقيادة الاقتصاد في الوجه الصحيح وكبح تجاوزات طبقة البيروقراطية وترويض العمل الحر بتوجيه بيئة العمل بحيث تسعي لعطاء كبير وانتاج وفير وتراكم استثماري سريع دون الانحراف والبحث عن الكسب الرخيص. يتطلب ذلك وجود قيادة قوية واعية مستقلة ذات تصور وخطط مستقبلية وخدمة عامة كفؤة نزيهة وانظمة شفافة وحوكمة رشيدة. وفي ذات الوقت يتم فرض سيادة القانون والتأكد من الالتزام بالعقود وصيانة الملكية الخاصة مع تطوير مقدرات القطاع الخاص الإدارية والفنية والمالية. فالنظام الاقتصادي في عمومه يُعرَف بترتيباته وآلية (ميكانيكية) تنسيقه للتصدي للأسئلة الاقتصادية الجوهرية التي تواجه أي جماعة تستهدف التبادل والعيش الجماعي. تذكر كتب المناهج الجامعية في الدراسات الاقتصادية الأسئلة الجوهرية لأي اقتصاد على أنها: ماذا ينتج؟ وكيف ينتج؟ ولمن ينتج؟ يوجد نظامان اقتصاديان رئيسيان – كما يعلم الجميع - هما على طرفي النقيض: نظام السوق الحر الذي يمثله سياسيا النظام الرأسمالي، ونظام التخطيط المركزي الذي يوصف بالنظام الشيوعي المحض. ما بين هذين النظامين توجد أنظمة مختلطة هي مزيج من ممارسات السوق الحر وبعض تخطيط وقرارات تضطلع بها الدولة. في الترتيبات الاجتماعية والظواهر الانسانية يكون هناك واقع ما فعلي وتصور ذهني أو بناء عقلي لأي من هذه. ويتضمن التصور الذهني وصف يسعي للتصوير الكلامي لهذا الواقع ولتقيمه ووصف خصائله ومساوئه. وبما أن نظام الاقتصاد الحر يمثله سياسيا النظام الرأسمالي، ونظام التخطيط المركزي يوصف بالنظام الشيوعي فإن حدة الجدل تشتد ويختلط فيه الأدعاء الأيديولوجي والدليل النظري المنطقي والاثبات العلمي. ويحتار المرء بل يلتبس في ذهنه التمييز. ظهر نظام السوق الحر كوليد للنظام الرأسمالي الذي ترعرع بعد الثورة الصناعية في أوربا. وقد شرع لهذا النظام مفكرو الاقتصاد الكلاسيكي وعلى رأسهم آدم سميث. بنى سميث نظريته على فكرة اليد الخفية وعلى أن سعي الافراد لتحقيق الربح الأعظم أو المنفعة الكبرى بالإضافة للتنافس تحقق أعلى معدلات الانتاج وبأقل تكلفة وفي ذات الوقت تؤدي لتعظيم الرفاهية الاجتماعية توافقا مع الرغبات والذوق. التمييز الكبير في الانظمة الاقتصادية العالمية حدث بعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وقيام الاتحاد السوفيتي بتبني نظام التخطيط المركزي كتجسيد للفكر الاشتراكي/ الشيوعي الذي انتشر في أوربا. وبعد سنين اشتعل جدل أكاديمي في المفاضلة بين المزايا التفضيلية لكل من النظامين. تمحور ذلك الجدل حول ما إذا كان نظام التخطيط المركزي يضاهي نظام السوق الحر في كفاءته. وقد اتضح من ذلك الجدل أنه من الناحية النظرية يمكن لنظام التخطيط المركزي – تحت شروطا قاسية - أن يقود لدرجة كفاءة مثلى في استخدام الموارد مثله مثل نظام الاقتصاد الحر. ولكن في اواخر عشرينات القرن تعرضت الانظمة الرأسمالية لهزة عنيفة جراء الانكماش الكبير مما كشف عن عورة الاقتصاد الحر وابان من خلال نظرية كينيز أهمية تدخل الدولة لتثبيت الاقتصاد الكلي. ومن بعد انخرطت الدول في انظمة اقتصاد مختلط وتبنت السياسات الكينيزية والانظمة الديمقراطية الاجتماعية ودول الرفاه. ومن ثم ظهرت مدارس اقتصادية أعادت الاحتفاء بنظام السوق الحر مثل مدرسة شيكاغو وتوافق واشنطن وغيرهما. وبالرغم من نجاح الدول غير الاشتراكية/ الشيوعية في تحقيق معدلات نمو عالية و اضافات هائلة في قوي الانتاج والبنية التحتية والعدالة الاجتماعية قاد انهيار الاتحاد السوفيتي لخيبة أمل من تجربة التخطيط المركزي. واستمر الجدل حول محاسن ومساوئ كل نظام بمعايير الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي. في الدول النامية أدى الاختلال في التوازن بين الطلب الكلي والعرض الكلي لنقد سياساتها التي وصمت بأن تدخل الدول فيها شوهت آلية الأسعار وثبطت من القطاع الخاص وأهدرت الموارد المحلية ومخصصات الميزانيات من خلال مؤسسات انتاجية مملوكة للقطاع الخاص. فالنظام الاقتصادي الكفؤ هو الذي تهيئ ترتيباته لظروف ملائمة للاستخدام الامثل للموارد الاقتصادية مما يتيح انتاجا أعلى للمنتجين وفوائدا عظمي للمستهلكين. يعني ذلك أن موارد الاقتصاد المعين يتم توظيفها بحيث تحقق أدني حد من الهدر والتبديد والتكلفة. يتميز نظام الاقتصاد الحر بحرية ملكية وسائل الانتاج للأفراد والوحدات الاقتصادية الخاصة، وحرية هذه الوحدات والأفراد في اتخاذ قرارات تحدد الانتاج و التوزيع تتخذ في الغالب الأعم بمعزل عن تدخل الدولة. اعتبر هذا اعلاء من سيادة المستهلكين و اتاحة للحرية المطلقة في الاختيار. حافز الوحدات في قطاعات الانتاج هو الربح وحافز المستهلكين هو تحقيق أقصى درجات المنفعة. تتفاعل الوحدات المنتجة والمجموعات المستهلكة من خلال الطلب والعرض. يعكس سعر التوازن تساوي الطلب الكلي للسلعة المعينة العرض الكلي لتلك السلعة ويكون بمثابة المؤشر الذي يتحسس الرغبات ويوجه القرارات حول الانتاج والتبادل. هذا التفاعل بين الوحدات الاقتصادية من مستهلكين ومنتجين هو ما يؤدي بنظام السوق الحر للتصدي للأسئلة الجوهرية التي عرضت أعلاه. المنافسة بين المنشئات التجارية تقود للكفاءة، لأن تلك المنشئات تفعل كل ما هو ضروري للحد من التكلفة وزيادة الانتاج. وتمضي في نفس الوقت لتوفير وتنويع السلع الاستهلاكية. كما أن هناك حوافزا للابتكار واستخدام للمواهب. ولأن تلك المنشئات مدفوعة بروح التنافس تسعى لتقليل التكلفة ولزيادة مبيعاتها. يعمل الكل بجد ويبذلون مجهودا كبيرا ويكتسبون دخولهم ويحافظون على وظائفهم. ويتم اجتذاب الاستثمار للاستفادة من فرص الارباح مما ينتهي بتراكم سريع لقوى الانتاج ينتهي بتخفيض الفقر والحد من الجوع. وقد اعتبر الحد من حجم البيروقراطية وتكلفتها ميزة لتقليص تدخل الدولة. بالرغم من أن هناك استنتاجا بالكفاءة العالية لآلية نظام الاقتصاد الحر في عمليات الانتاج والتوزيع فإنه قد كانت متعارفا بين الاقتصاديين أن المعادلات الرياضية عن الاقتصاد العام المترابط لا تنبئ بالوصول لنقطة الكفاء العالية إلا وفق افتراضات رياضية/معادلية قوية. ومن ثم اصبح هناك اقرارا عاما بأن آلية السوق – أولا – قد لا تقود لتوزيع عادل للدخل ولا لتحقيق المساواة المطلوبة ولا لمحاربة الفقر مما يحدث فجوة بين الاغنياء والفقراء. ويغلب أن يستحوذ الاغنياء على قوة سياسية هائلة تمكنهم من الافساد والتحكم في الدولة واستغلال النفوذ؛ ثانيا - لو تركت آلية السوق بمفردها وبمعزل عن تدخل الدولة لا تمنع دورات من الانكماش والتضخم وعدم الاستقرار الكامل للاقتصاد الكلي كما وضح من تجربة الاقتصاد العالمي في عام 1929. فنظام السوق الحر من شأنه أن يقود الى ازمات اقتصادية متكررة تنتهي الى انكماش وبطالة وفقر وجوع أو لتضخم يأكل من رفاهية الطبقة الوسطي والطبقة الفقيرة التي لا تملك الاحتياطات والتامين ضد المخاطر وتقلبات الدخل؛ وثالثا - في حالة الدول النامية (ورياضيا/معادليةً في حالة النموذج الديناميكي،غير الستاتيكي) فإن نظام السوق الحر التنافسي قد لا يؤدي لنهضة تنموية ونمو اقتصادي سريع؛ رابعا - قد اجتمعت آراء الاقتصاديين تماما على أن الاسعار في نظام السوق الحر لا تؤدي بتعظيم الانتاج والمنفعة الاقتصادية في بعض السلع والخدمات والاستخدامات ذات الطبيعة الخاصة، وهي – أي الاسعار – غير فعالة في حالات الانتاج ذي الآثار الخارجية التي لا تتدخل في حسابات آلية السوق وقوى الطلب والعرض وقرارات الانتاج. بذلك تفشل تلك الآلية في الوصول لإنتاج واستهلاك أعظم لخدمات مثل التعليم. وقد يعود النشاط الاقتصادي بنتائج وخيمة على البيئة، إذ قد لا يأبه المنتج بتأثير التلوث على المجتمع طالما هو غير ملزم بأي تكلفة يدفعها. وهكذا يتضرر افراد بدون تعويض اذا ما فشلت آلية السوق في مقابلة ما يرغبون فيه من بيئة نظيفة. خامسا - ينتقد نظام السوق الحر بأنه يتيح قوة كبيرة للمنشئات التجارية ورجال الاعمال الذين من الممكن أن يلجئوا للاحتكار؛ وفي سعيهم للربح يتحصلون على فوائد اكثر مما يتيحه لهم السوق التنافسي، وقد لا يلتزمون بمعايير مقبولة اجتماعيا. الفشل الجزئي لآلية السوق يبرر تدخل الدولة لتصحيح دولاب الانتاج وعملية الاستهلاك وتوزيع الدخل ودرء التقلبات الاقتصادية. مثلا تستهدف الدولة انتاجا أكبر من سلع وخدمات مفيدة جماعيا أذا ما كان انتاجها دون المعدل الذي يناسب الرغبة الجماعية – مثل الأمن والدفاع والقضاء والتعليم والبنية التحتية وحماية البيئة وإنتاج البحوث ودعم التطور التكنولوجي. ومن مهام الدولة محاربة الاحتكار والرقابة على الانتاج وفرض توجيهات تحكم التعامل. وتقوم الدولة بالتهيئة للتنمية ولعملية التطور الاقتصادي. غير أنه من المهم ملاحظة أن فشل السوق قد يقابله فشل الدولة. فقدرة الدولة على التخطيط المركزي تعتمد على توفر المعلومات والأهلية لاستخدامها الصحيح والمحايد والنزيه. وها أمامنا الضعف البين في الخدمة العامة وهشاشة وتخلف الطبقة السياسية في السودان. كما يجب الاضافة الى أن تدخل الدولة تعتريه مخاطر مبعثها المصالح الطبقية المتمثلة في كل من فئة البيروقراطيين ومجموعة العسكريين وقطاع رجال الاعمال. لذلك لا يمكن أن يركن كأمر مسلم به لدور مثالي للدولة في التخطيط المركزي والادارة الاقتصادية والتنموية. يقودنا ذلك لأن نقرر أن النهج الرافض كلية لآلية السوق خاطئ، كما النهج الرافض كلية لتدخل الدولة لتصحيح مسار آلية السوق نهجان خاطئان، فلآلية السوق ميزاتها المتمثلة في الكفاءة الجزئية، ولتدخل الدول دورا ايجابيا في سد ثغرات آلية السوق. لذلك تقتضيننا الحاجة للمضي قدما في الدفع بالاقتصاد والتنمية على تبني نهجا خليطا لآلية السوق وتدخل الدولة مع مواجهة مسببات الفشل في كل منهما والعمل لإزالتها. بناء على ما سبق نستنتج الآتي ذكره: - هناك مهمات تستدعي بقوة تدخل الدولة كبسط الأمن، والتأثير على توزيع الدخل، وحماية الفقراء والضعاف والمعوزين؛ وكذلك انتاج الخدمات الاجتماعية الضرورية التي يعود نفعها للبلاد بفائدة كبيرة. وعلى الدولة أن تقوم بمساعي النهوض بالتنمية والتأكد من استدامتها وحماية البيئة وحقوق الاجيال القادمة. - كما نرى ألا ملاءمة لتدخل الدولة عند ضعفها في عمليات الانتاج التي يمكن أن يؤديها بكفاءة القطاع الخاص. واجب الدولة الاشراف ومحاربة الاحتكار والفساد والاستغلال. ولو وجدت الثقة في أنظمة وممارسات الدولة فإن تدخلها يقود لدرجة أعلى من الانتاج. فهناك كثيرا من العمليات الانتاج التي يقود تدخل الدولة فيها مباشرة لتعظيم حجم الانتاج. مثلا، الصناعات الكبيرة الحجم. - في نفس الوقت واجب الدولة تهيئة الظرف المناسب لنمو القطاع الخاص. وبحسب أن القطاع الخاص في السودان لا زال في المراحل الأولى من تطوره فهو يحتاج للرعاية والتشجيع. - لا نرى ما يمنع الاستعانة برأس المال الاجنبي للاستفادة من قدراته التكنولوجية والادارية والمالية والتسويقية. وتشجيع الشراكة بين القطاع الخاص (سواء كان وطنيا أو أجنبيا) في الدخول في شراكات مع قطاع الدولة. ولكن من المهم توفير ضمانات قوية تحمى للبلاد والمواطنين الحقوق. - جذب الاستثمار الأجنبي كما المحلي يقتدي أدارة الاقتصاد الكلي بنجاح بمحاربة التضخم وتثبيت سعر العملة الوطنية، وتحقيق الاستقرار السياسي والأمن وسيادة القانون. كما يتطلب نجاح قطاع الدولة بناء قدراته ومجابهة اوجه قصوره، والرقي لمستوى عالي من الحوكمة الرشيدة. - ونختتم بضرورة بناء الروح الوطنية، وتبني التشاركية في القرارات وتحشيد الامة وراء أهداف الرفاهية والاستقرار. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.