ان قناعتي التي ظللت اعبر عنها منذ 1989 وحتى اليوم هي أن حكم الانقاذ الذي جاء به الدكتور حسن عبدالله الترابي يقوم منذ ميلاده على الاستبداد والظلم والفساد والتمييز العنصري القبلي وتحويل السودانيين الى شبه عبيد حرياتهم مصادرة ويكدحون ويدفعون الضرائب ليصرفها رموز النظام(75% من الميزانية السنوية) على البقاء في الحكم وفي الأجور العالية والامتيازات والحوافز لهم و لأقاربهم وحرموا فقراء السودان الذين يدفعون الضرائب من أبسط ضروريات الحياة مثل العلاج من مرض الملاريا وأخشى انهم سوف يظلون كما هم بعد الانتصار الذي حققوه في الانتخابات التي جرت في ابريل 2010 ومنحتهم شرعية لم يكونوا يحلمون بها وفي هذا المقام أود أن اوضح موقفى حول مسألة اساسية وهي شرعية الوضع الذي سوف ينتج عن انتخابات 2010 . صناديق الإقتراع والقانون رقم 11/2008 ومآلاتها : بالنسبة لأي شخص قبل أولاً الاحتكام لصناديق الاقتراع لحسم الصراع على السلطة في السودان وقبل ثانياً ان يكون ذلك الإحتكام وفق قانون الانتخابات القومية لسنة 2008 (القانون 2008/11) الذي صار نافذاً في 15 يوليو 2008 وقبل ثالثاً انشاء المفوضية القومية للإنتخابات والتعامل معها فأن ذلك الشخص لايجوز له أن يطعن أو يشكك في نزاهة الانتخابات إلا من خلال المحاكم واي حديث خارج المحاكم حديث غير مسؤول. واذا كان البعض قد اختار الانسحاب من المعركة الانتخابية وتنازل عن حقه في مراقبة الاقتراع وفرز وعد الاصوات ليكون بوسعه جمع الأدله على التلاعب والتزوير فأنه يلوم نفسه فقط وإذا ما تم الأعلان عن فوز عمر حسن أحمد البشير بعد نظر المحاكم في الطعون المقدمة فأنه يصبح رئيساً شرعياً بالنسبة لكل الذين قبلوا الاحتكام لصناديق الاقتراع ولا يجوز لأي منهم أن يلوم إلا عجزه وفشله وخاصة السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي . ولكن لماذا هو بالذات ؟ السيد الصادق المهدي هو السياسي السوداني الوحيد الذي قال صراحة ان الطريقة الوحيدة المتاحة لإزالة حكم الإنقاذ هى ما اطلق عليه (الإنتفاضة الانتخابية) وقد استبعد السيد الصادق المهدي تماماً الانتفاضة الشعبية او اي اسلوب آخر وكان يخوف الناس من الانتفاضة الشعبية بحجة وجود حزام اسود يطوق الخرطوم ووجود خمس وعشرين حزباً مسلحاً داخل الخرطوم (ورفع الرقم مؤخراً الى خمسين) . وعندما يقول أي شخص بأن الاسلوب الوحيد لازالة حكم الانقاذ هو (الانتفاضة الانتخابية) فأن الناس يتوقعون منه أن يعمل لتلك الانتفاضة الانتخابية بجد واجتهاد و خاصة اذا كان ذلك الشخص هو السيد الصادق المهدي الرجل الذي فرط في الديمقراطية وفشل في حمايتها في العام 1989 عندما كان رئيساً للوزراء . ويعرف السيد الصادق المهدي وغيره ان ازاحة عمر حسن احمد البشير والذين حوله من كراسي الحكم عن طريق صناديق الاقتراع يحتاج الى شبه معجزة لعدة أسباب : اولاً فرضت الانتخابات فرضاً على رموز نظام الانقاذ بمقتضى اتفاقية السلام الشامل التي ابرمت في يناير 2005 ولاتؤمن تلك الرموز بالحريات السياسية ولا التداول السلمي للسلطة . وثانياً ذاقت رموز الانقاذ طعم السلطة وما تجلبه من نفوذ ومنافع مالية وتجارية وتوظيف للأقارب والاصدقاء ومن الصعب ان تتنازل عن كل ذلك بسهولة . وثالثاً هناك عناصر متنفذة في النظام يشكل الامساك بالكراسي بالنسبة لها مسأله حياة أو موت لأنها متهمة بالاعتداء على أرواح وأعراض واموال الناس وتخشى المحاسبة ورابعاً تسيطر رموز الانقاذ على كل الموارد البشرية والمالية للسودان . وخامساً مثلما خرج حكام السودان على قواعد الحرام والعيب للاستيلاء على السلطة وتمكين انفسهم فلا حرج لديهم للاستمرار على ذلك النهج للبقاء في كراسي الحكم .وقد قال بعضهم ذلك بالصوت العالي . وانا اعتقد ان السيد الصادق المهدي يعرف كل ما قلته اعلاه فهل قام بما يجب القيام به من أجل الانتفاضة الانتخابية التي كان عليه ان يقوم بها في يوليو 2009 حسب ماتنص عليه اتفاقية السلام الشامل ؟ والاجابة كما يعرف القارئ لا كبيرة جداً . فقد أعلن الانسحاب من المعركة قبل يومين فقط من بداية الاقتراع بحجة ان المؤتمر الوطني رفض تأجيل الاقتراع لمدة شهر وهو يعرف عندما تقدم بذلك الطلب الى المؤتمر الوطني ان التأجيل من اختصاص المفوضية القومية للانتخابات وليست للمؤتمر الوطنى مصلحة في التأجيل وقد يعترض عليه اذا ما قدم طلب التأجيل الى المفوضية . ماهي متطلبات الانتفاضة الانتخابية ؟ يتطلب القيام بالانتفاضة الانتخابية التخطيط لها منذ يناير 2005 تاريخ توقيع إتفاقية السلام الشامل وحشد كل الموارد المالية والبشرية المتاحة من أجل : أولاً اقناع أغلبية الشعب السوداني بضرورة ابعاد المؤتمر الوطني ورموزه من كراسي الحكم . وثانياً تسجيل حضور فاعل في مرحلة تسجيل الناخبين . وثالثاً تسجيل حضور فاعل في مرحلة التصويت . ورابعاًَ اتخاذ كل التحوطات الممكنة لمنع التلاعب والتزوير وكشفها وتقديمها للمفوضية والمحاكم . وخامساً الاستعداد للانتقال بالصراع السياسي الى مراحل أعلى اذا ما إتضح لك تواطؤ المفوضية أو القضاء. فهل فعل السيد الصادق المهدي أيا من ذلك ؟ نظيف اليد وعفيف اللسان ووطنى غيور على السودان ولكن ؟ اعتقد ان اغلبية شعب السودان ترى ان السيد الصادق الصديق عبدالرحمن المهدي امام كيان الانصار ورئيس حزب الأمة القومي رجل نظيف اليد وعفيف اللسان وغيور على مصلحة السودان والسودانيين ولكن يبدو أنه يعاني من نقاط ضعف خطيرة جداً في تفكيره واسلوبه في العمل اقعدته عن تحقيق اي انجاز يذكر في المجال السياسي بل يجوز ان نقول قادته من فشل الى فشل وكان اخر إخفاقاته فشل الانتفاضة الانتخابية التي كان ينادي بها .ويمكن تلخيص نقاط الضعف في ثلاثة امور أساسية : أولاً الإفراط في المثالية (القوة الناعمة) ؛ وثانياً جهل او تجاهل بعض المتطلبات الأساسية للنجاح وعلى رأسها التخطيط . وثالثاً تأرجح المواقف والتردد في اتخاذ القرارات الصعبة . إن إقناع الناس بضرورة ابعاد حكومة شمولية لم يعرف الناس خلال عشرين عاماً الا رموزها وانقطعت فيها صلتهم بالاحزاب السياسية ليس بالأمر السهل . وكما يقول المثل السوداني (البعيد من عينك بعيد من قلبك).ويتطلب ذلك الاتصال المباشر بالناس ومخاطبتهم من خلال همومهم وطموحاتهم حول الحرية والحياة الكريمة من أمن لأرواحهم واعراضهم واموالهم وعدل بينهم وتسهيل لمعايشتهم من توفير لفرص العمل والعلاج والتعليم وفضح قصور الحكومة وتبديدها للموارد وفضح الفساد والظلم . ولكى يقوم أي شخص بذلك فأنه يحتاج لان يكون موجوداً مع الناس وفيهم ليعرف ماهي تلك الهموم والطموحات وماذا تفعل الحكومة بالموارد المالية والبشرية المتاحة لها وهل تستخدمها لمصلحة الناس ام للامساك بالكراسي ولرفاهية رموز الحكم واقاربهم واصدقائهم . ولكن لا وجود لحزب الامة القومي وسط الناس من خلال خلايا أو وحدات في القرى والفرقان والاحياء تربط اعضاء الحزب بحزبهم وتعمل بنشاط لتوعية الناس وتنظيمهم وتحريضهم للمطالبة بحقوقهم وذلك لأن حزب الأمة القومي يعتمد على العمل الفوقى لشخص واحد هو رئيسه (السيد الصادق المهدي) الذي إختزل كل الحزب في شخصه هو (سوف اوضح هذا في الجزء الثاني من هذا المقال) . وقد طبعت شخصية السيد الصادق المهدي واسلوبه في العمل كل حزب الامه القومي . فهو لايؤمن بالقوة في العمل السياسي و أعنى هنا القوة بمعناها الشامل اي المقدرة على الفعل والتي تأتي من خلال التنظيم والعمل الجماعي عملاً بالمثل السوداني (إيد على إيد تجدع بعيد) وقوة المال والقوة العسكرية وغيرها من اشكال القوة ونادى وينادى السيد الصادق المهدي صراحة بأحلال قوة المنطق (طق الحنك) محل منطق القوة ويعبر السيد الصادق المهدي عن موقفة هذا بوضوح كامل في كلمته امام المؤتمر الدولي الثالث للوسطية الذي عقد في لبنان في ابريل 2010 حيث يقول : " يبدأ الجهاد بجهاد النفس الأمارة بالسوء إلى استخدام كل الوسائل المدنية لاحقاق الحق أى القوة الناعمه . القوة الناعمه هي المقدرة على تحقيق مرادك بجعل الآخرين يسلمون بصحة أهدافك كما فعل النبي (ص) في المدينة : ملكت بحلمى فرصة ما إسترقها من الدهر مفتول الذراعين أغلب . " ونشكر السيد الصادق المهدي جداً على توضيحه لما يقصد بالقوة الناعمه التي ظل ينادي بها ويتحدث عنها كثيراً . فهو يقول صراحة انه يقصد بالقوة الناعمة " المقدرة على تحقيق مرادك بجعل الأخرين يسلمون بصحة أهدافك " او بمعني أخر المقدرة على اقناع الاخرين عن طريق (طق الحنك) بأن اهدافك سليمة . ولكن الخلل الكبير جداً في هذا المنطق هو ان القوة الناعمه لاتنفع مع الذي يتعمد أن يأخذ حقك بالقوة ويرفض ان يرده إليك ( رجالة او على عينك يا تاجر كما نقول في السودان ) . ففي هذه الحالة يكون التهديد الصادق والجاد (credible threat) بأستخدام القوة الخشنة ضرورياً جداً لجعل الطرف المعتدي على حقوقك يستمع ويستجيب لطق الحنك لانه يعرف انه قد يخسر اكثر اذا ما اضطرك لاستخدام القوة الخشنة. ولهذا يأمرنا الله تعالى في كتابه العزيز بأعداد القوة ورباط الخيل (القوة العسكرية) لإرهاب (تخويف) عدونا وعدو الله (سورة الانفال 60) . ولكن السيد الصادق المهدي يسقط تماماً القوة الخشنة وهي قوة الجماهير المنظمة ذات الاستعداد العالي للتضحية من أجل أن تأخذ حقوقها وقوة المال والقوة العسكرية وجميع أشكال القوة الأخرىالتي تجعل الشخص قادراً على انتزاع حقوقه ممن يغتصبها. وكانت النتيجة المنطقية لتفكير السيد الصادق المهدي واعتماده على القوة الناعمة الاهمال الكامل لبناء حزب قوى بأنصاره المنظمين والمتراصين وبموارده المالية والعسكرية وتحول حزب الأمه رمز القوة الى رمز لنقيضها ولم يعد له تأثير في مجريات الأمور في السودان . وصار السيد الصادق المهدي يستنجد بالأسرة الدولية والاشقاء وغيرهم من الذين لايقدمون في اغلبية الاحيان غير زيارات واستقبالات المجاملة . و التخطيط هو ان تحدد المقصد أو الهدف الذي تريد انجازه في زمن محدد وتقوم بدراسة وتحليل ومقارنة كل البدائل المتاحة للوصول الى ذلك المقصد وتختار اكثرها فاعلية ومعقولية في التكاليف وتحشد طاقاتك البشرية والمالية وغيرها وتستخدمها بعزم ومثابرة وإتساق consistently للوصول الى المقصد . وذلك ما لم يفعله السيد الصادق المهدي للقيام بالانتفاضة الانتخابية فقد ظل منذ ابرام اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005 وحتى وقت قريب مشغولاً بأمر واحد هو إنتقاد الاتفاقية والمطالبة بمؤتمر او اجتماع جامع لمراجعتها ولانه لم يملك القوة التي تجعل الاخرين يستمعون اليه ضيع الوقت في امور لا علاقة لها بالانتخابات حتى فاجأته ووجد نفسه غير مستعد لها وتأرجح موقفه بين المشاركة فيها والمقاطعة حتى انتهى بأعلان الانسحاب في 8 ابريل 2010 وقبل يومين فقط من بداية الاقتراع . وقد ذكرنى تأرجح موقف حزب الأمة القومي بين المشاركة والمقاطعة بكلام قاله لي صديق أمريكي زارني في أكتوبر 1986 وكنت اقضى وقتها فترة دراسية في جامعة منيسوتا بالولايات المتحدةالأمريكية ، وقد تعرفت على ذلك الشخص من خلال عملي في الحكومة وكنت اعرف أن له علاقة وثيقة بسفارة بلده في الخرطوم . وتطرق حديثنا للأوضاع في السودان وقال لي إن الادراة الأمريكية غير راضية عن رئيس وزراء حكومة السودان السيد الصادق المهدي. فقلت له لماذا ؟ وكان رده ان ذلك يرجع لسببين رئيسيين اولهما علاقة السيد الصادق المهدي الحميمة مع حكومة إيران والسبب الثاني هو أنهم يعتقدون إن السيد الصادق المهدي لايصلح لإدارة بلد يعاني من المشاكل الكثيرة والمعقدة لان السيد الصادق المهدي يتصف بتذبذب المواقف ((wavering والتردد في اتخاذ وإنفاذ القرارات الصعبة (hesitant) . وقلت لصديقي الأمريكي إنني أتفهم عدم الارتياح لعلاقة السيد الصادق المهدي بحكومة إيران ولكن اعتقد إن الحكم على الرجل بتذبذب المواقف والتردد في اتخاذ وإنفاذ القرارات فيه قسوة كبيرة وغير متوازن لأنه يتجاهل صفات الرجل الايجابية من صدق وأمانه وغيرة على مصالح السودان والسودانيين . وكان رد صديقي الأمريكي هو إن الإدارة الأمريكية لا تصدر أحكاما مثل تلك اعتباطياً (بدون تبصر وروية) وان أحكا هم تصدر عن دراسات ونقاش واسع وعميق .. وقد اتسم موقف حزب الأمة القومي حول الانتخابات بالتذبذب والتردد وإطلاق التصريحات المتضاربة حول المشاركة والمقاطعة وقد حير ذلك أعضاء الحزب وأنصاره وأربكهم . ثم ماذا بعد وما العمل ؟ قال السيد الصادق المهدي في كلمته التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العام السابع لحزب الأمة القومي يوم الخميس 26 سبتمبر 2009 ؛ قال : " أنا حريص جداً أن يستقل الحزب كمؤسسة منى لأن عندي مشغوليات أخرى فكرية ، ودولية ، وأنصارية ، واستثمارية أريد حقاً أن اتفرغ لها . " ويدرك السيد الصادق المهدي ان الوقت والمجهود والطاقات التي صرفت في تلك المشغوليات كانت خصماً على الإعداد للانتفاضة الانتخابية وربما آن الأوان لكي يتفرغ السيد الصادق المهدي لتلك المشغوليات ويترك المجال للآخرين لتوحيد حزب الأمة القومي وتمليكه أسباب القوة ليكون له وجود مؤثر في الحياة السودانية . وهذا ما سوف أتناوله في الجزء الثاني من هذا المقال بأذن الله . Saeed Zumam [[email protected]]