منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب "الوصاية العظيمة" لمحمد النجومي: عن القاطرات التي تصل حيث قدّر لها الإنجليز .. بقلم: الوليد محمد الأمين
نشر في سودانيل يوم 16 - 05 - 2021

لطالما اختلطت عندي مشاعر الإعجاب بما قام به الإنجليز في السودان مقابل ما قرأناه وسمعناه عما نهبوه من خيرات البلاد ودورهم في أزمة الجنوب التي انتهت بانفصال البلاد .
لقد كانت أغنيات العطبراوي من شاكلة يا غريب ياللا لي بلدك وسوق معاك ولدك ، وأغنيات لا تخلو من الرمزية من مثل عازة في هواك وصه يا كنار وضع يمينك في يدي ، لطالما كانت مثل تلك الأغنيات باعثاً للفخار الوطني ومدعاة للاحتفال باستقلال البلاد المجيد مطلع كل عام ميلادي جديد حيث ترتفع الحناجر بالغناء وفنان البلاد الكبير يشدو باليوم نرفع راية استقلالنا ويمجد الأسلاف الذين شتتوا كتل الغزاة الباغية في كرري ، بينما الحقيقة أن كرري كانت المقتلة الأكبر في تاريخ السودان الحديث .
خمسة وستون عاما انقضت منذ نالت البلاد استقلالها والبلاد لا تفتأ تتقهقر في كل المجالات . لقد فشلنا في كل حقب الحكم الوطني في النهوض بالبلاد أو على أقل تقدير في المحافظة عليها كما تركها الانجليز .
ليس الغرض من هذه المقدمة أو التوطئة جلد الذات أو تقريعها ، وذلك بابٌ برعنا فيه على كل حال ، ولكن الغرض الأساس من ذلك هو الإشارة إلى الشجاعة التي تحلى بها مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده في الوقوف ضد السائد وقتها وفي السباحة عكس تيار الوطنية أو قل الشعبوية الجارف بلغة اليوم إن جاز التعبير . فالوصاية العظيمة A great trusteeship هو كتابٌ في محبة الإنجليز وإظهار الامتنان لهم في النهوض بالبلاد وإخراجها من وهدة التخلف والظلام . إنّ ترجمة العنوان رغم أنها الترجمة الأصح فلربما لا تعكس بالضبط ما رمى إليه المؤلف من إظهار الامتنان لبريطانيا العظمى وقتها ، لربما كانت كلمات مثل النبيلة ، العطوفة ، المشفقة والمحبة هي الأنسب ، ولكن وبما أنه لا توجد كلمة واحدة في العربية تغطي تلك المعاني فإن الترجمة بالعظيمة تظل هي الأنسب مع حرفيتها .
صدرت النسخة الأصل من الكتاب والمكتوبة باللغة الإنجليزية في العام 1958 عن مطبعة كارافيل ، أي بعد عامين من استقلال السودان ، بينما الكتاب نفسه انتهت كتابته في العام 1956 . والمؤلف هو السيد محمد أ. النجومي . أما النسخة العربية من الكتاب فلم تصدر إلا في هذا العام 2021 ، أي بعد نحو ما يزيد عن الستين عاما من كتابته ، تحت عنوان " الوصاية العظيمة " ، وبعنوان فرعي هو : " تأريخ الإدارة البريطانية في السودان " . ترجم الكتاب المهندس محمد يوسف فائق ، وهو معماري كما سنعرف من مقدمته للكتاب تخرّج من جامعة الخرطوم في العام 1970 ، أي أنه بالقطع كان طفلاً صغيراً وقت خروج الانجليز ولكنه بالطبع أدرك بعض ما تركوه .
مؤلف الكتاب السيد محمد النجومي معماري هو الآخر درس وتخرّج من كلية غردون كما سنرى في الكتاب ، وعدا عن بعض المعلومات الشحيحة عنه ومنها أنه سليل أسرة النجومي المعروفة في السودان وحفيد الأمير عبد الرحمن النجومي أحد قادة المهدية ، وأن أخته أو إحدى أخواته قد درست بكلية تدريب الفتيات ( ربما كلية تدريب المعلمات ) وأنه قد قضى ردحاً من حياته ، نحو السنوات العشرة ، في نيجيريا حيث كتب هذا الكتاب ، عدا تلك المعلومات الشحيحة فلا توجد تفاصيل عن المؤلف ، حتى أن المترجم لم يستطع التوصل إلى الاسم الثاني للمؤلف والمرموز له بالحرف A في غلاف الطبعة الانجليزية .
صدرت الطبعة العربية عن دار المصورات في الخرطوم في 208 صفحة من القطع المتوسط في إخراج قشيب وكتابة تخلو من الأخطاء الشائعة طباعية كانت أم كتابية ، لاشك أن المؤلف كان سيعجب بها إن نظرنا لطريقته في التعامل مع الأشياء كما هي مبثوثة بين صفحات الكتاب . كقاريء غير متخصص في الفنون بدا لي أن غلاف الكتاب كان يمكن أن يكون أكثر جاذبية وتعبيراً .
بكلمات مباشرة يمكن القول إن هذا الكتاب هو كتاب في إظهار الشكر والامتنان للانجليز لاستعمارهم السودان وما فعلوه به ومن أجله ، لا يذكر المؤلف كلمة استعمار ويستعيض عنها بإعادة الفتح وبالوصاية التي يرى أن بريطانيّ السودان قد بذل كل حياته لتحقيق أهداف تلك الوصاية ، وكيف لا والمؤلف يرى أن بريطانيّ السودان هذا كان أنموذجا للإتقان البشري وفي دوره في السودان بالذات كان مفكراً من الدرجة الأولى .
احتوى الكتاب على عدد من العناوين الفرعية أو الفصول جاءت كالآتي حسب ترتيبها في الكتاب : مدخل (كلمة المترجم ) ، تقديم ( حيث قدم للكتاب البروفيسور علي شمو الإعلامي المعروف ووزير الإعلام في عهدي الدكتاتورية الثانية والثالثة في السودان ) ، تمهيد ( المؤلف ) ، مقدمة ( كتبها السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري البريطاني الأخير للسودان في الأعوام 1945 - 1953 والحاكم العام البريطاني الأخير لنيجيريا بعد ذلك من العام 1955 إلى العام 1960) ومن بعد ذلك تترى فصول الكتاب الأساسية : إنصافاً لهم ، حال عصيّ على الإصلاح ، الدمار المحتوم ، المصممون الماهرون ، البناؤون العظماء ، أبطال الوصاية ، ميلاد دولة ، رسائل الأمنيات الطيبة ، الآمال والمخاوف ، الشرف حيث يستحق أن يكون الشرف ، ثم أخيراً: ملحق .
للمؤلف تفسيره الخاص للاحتجاجات التي قامت بها مجموعة الخريجين أو ما عرف بعدها بمؤتمر الخريجين ، فهم في رأيه أقلية لا يؤبه بها ولكنها مؤثرة ! وهم كعناصر مرفهة تسكن المدن والمراكز الحضرية بحسب وصفه ، كانوا بطيئين بشكل لا يصدق في استيعاب الأفكار الغربية وقاموا بخطوة متأخرة ليظهروا للحكومة أن اشراكهم في إدارة شئون بلدهم قد تأخر كثيراً . ربما تتفق هذه الرؤية مع ما صار رائجا بعض الشيء بعدها في أيامنا هذه في تفسير الفشل السوداني في إدارة الدولة وفهم تنوعها من أن الانتجلنسيا السودانية وقتها كانت تطمح فقط إلى وراثة الانجليز في امتيازاتهم وهو ما قد حدث ، دون أن يكون لديها الاستعداد أو المقدرة للقيام بما قام به الانجليز في سبيل ذلك .
للمؤلف كذلك نظرته التي وضّحها فيما خصّ حركة اللواء الأبيض ، فالمحاولة التي قامت بها مجموعة ضباط اللواء الأبيض في العام 1924 والتي ينظر إليها الآن ويتم تدريسها كواحدة من نضالات السودانيين ضد المستعمر الانجليزي ، يرى الكاتب أنها لم تكن غير شأن صغير قامت به مفرزتان وستة من صغار الضباط من الذين غُرِّر بهم من الكتيبة الحادية عشرة وانتهت في يوم واحد . وكدليل على رأيه هذا يشير الكاتب إلى أن المواطنين العاديين لم يبدوا أي تعبير أو إشارة تنم عن عدم الرضا أو الاعتراض ، بل واعتبر الأمر من جانب الوحدات السودانية في الجيش المصري وكأنه أمر عابر . في المقابل يذكر المؤلف أنهم ، علي عبد اللطيف وصحبه ، تقبلوا الحكم باعدامهم بهدوء وثبات وقابلوا الموت بكبرياء وشجاعة . على كل حال مرت مياه كثيرة تحت الجسر ، وبعد انفصال جنوب السودان في العام 2011 نزعت الجنسية السودانية من أحفاد عبد الفضيل ألماظ أحد الضباط المشتركين في المغامرة والذي ترجع أصوله لجنوب البلاد بينما لا يزال نصبه التذكاري موجوداً هناك عند شارع الجامعة قرب وزارة الصحة بالخرطوم قريباً من شارع النيل وقريبا من المكان الذي استبسل فيه وقاوم حتى النهاية .
من جهة أخرى وبحسب رؤية الباحثة الروسية د. يوشيكا كورينا في كتابها " علي عبد اللطيف وثورة 1924 " بترجمة مجدي النعيم ، ترى يوشيكا أن علي عبد اللطيف كان له دور حاسم في إبراز الطبيعة التقدمية للحركة ، إذ كان ضابطاً في الجيش ومنتميا في الآن ذاته إلى المجموعة الاجتماعية التي درج الانجليز على الإشارة إليها بالزنوج المنبتين قبليا حسب تعبير الكاتبة ، مع أن ذلك يتعارض بالضرورة مع مناداة الانجليز بدولة المواطنة كما يرى كاتب هذا المقال ، ولكن ذلك على كل حال يشير إلى صعوبة كتابة التاريخ في السودان في ظل المسكوت عنه . ومما يذكر عن علي أنه اعترض على السيد سليمان كشة عندما قال في احتفال المولد : أيها الشعب العربي الكريم ، قائلا إنه ينبغي له أن يقول : أيها الشعب السوداني الكريم .
من الواضح أن موقف مؤلف الكتاب من حركة اللواء الأبيض كان نابعاً مما راج وعُرف عن ارتباط هذه الحركة بمصر واختراقها بواسطة المخابرات المصرية كما أشار الكاتب نفسه .
وعلى الرغم من أن مؤلف الكتاب يشير في بدايته إلى أن الكتاب تطور من مجرد خواطر دُوِّنت على عجل وشذرات متفرقة ونقاشات وخطابات ، رغم ذلك فإن الثقافة العالية والرؤية الموسوعية والإحاطة بأحوال السودان ، بل وحتى الرأي الثاقب للمؤلف والسديد في غالب الأحوال فيما خص ما ستؤول إليه الأحوال وما هي عليه ، كل ذلك مما لا يمكن للقاريء إلا الانتباه إليه ، ومن الغريب أن المؤلف لم يكتب غير هذا الكتاب اليتيم ، إنما ربما فعل ولم يصلنا !
واحدة من هذه الرؤى المتبصرة للكاتب ما سماه بالمهدد الخطير لسلامة كبريائنا الوطني ، وكان يشير بذلك إلى ما عبّر عنه بأننا بغير سبب وجيه نعاني من عقدة الإحساس بالدونية العنصرية تجاه العالم العربي ، وفي هذه النقطة يرى النجومي أن السودانيين ورثوا الصفات الجميلة للعنصرين العربي والزنجي .
كذلك من رؤاه المتبصرة أن السودان في لحظة ميلاده استيقظ على الضجيج العالي للجو المصري المملوء بالاغراء الذي لا يمكن مقاومته والمسنود بالتدين والتفوق الأكاديمي في المعرفة الاسلامية ، كذلك يرى بأن التعطش لسحر اللغة العربية المتدفق بغزارة من الأدب المصري دفع السودان لينجرف بشكل لا إرادي مع الموجة المصرية ونمّى ميلا لترديد الصوت المصري الساخط الذي اخترق عقول أنصاف المتعلمين من السودانيين والمتكلمين بالعربية في المدن والمراكز الحضرية الذين لا يستطيعون قراءة الكتب والصحف الانجليزية أو يستمعون إلى مناقشات مجلس العموم في بريطانيا فيا لها من رؤية متبصرة وقراءة متجاوزة للواقع في ذلك الزمان الذي كان من علامات الثقافة فيه أن يقرأ الناس مجلة الرسالة المصرية . رؤية متبصرة قاد الانجراف فيها إلى انضمام السودان إلى جامعة الدول العربية وإلى تضحية السودان بواحدة من أعظم مدنه لصالح قيام السد العالي المصري بل وإلى ما نزال نعاني منه حتى وقتنا هذا بسبب اختلاط الهوية .
من آرائه المتقدمة كذلك عن ما ستؤول إليه أحوال البلاد ما قاله من أننا سنكون في أحسن الأحوال إذا أبقينا ثلاثا من الإدارات بعيدا عن السياسة : التعليم ، الجيش والخدمة المدنية !
يرى الكاتب أن البريطانيون هم مبعوثوا العناية الإلهية الذين جاؤوا لاخراج السودان من ظلام الستين عاما التي جثم فيها الحكم التركي على البلاد بالقهر والتعذيب حتى نقص عدد سكان البلاد من ثمانية ملايين إلى ما لا يتجاوز المليونين .
يذكر المؤلف السير شارلس غردون بتقدير لا ينقصه الإعجاب ، فغردون هذا هو الذي فضّل وهو في الواحدة والأربعين من عمره العمل في السودان في ذلك المناخ القاتل وجو القذارة والمرض والحياة المزرية وسط أناس متوحشين على تلك الحياة المرفهة الأوروبية المتمدينة بحسب تعبير المؤلف .
حارب غردون الفساد والخروج على القانون وكاد ينجح في القضاء على تجارة الرقيق ، وفي انجلترا اشتغل بحماس لا يتوقف في تعريف البريطانيين بذلك البلد المجهول الذي يدعى السودان وكان حريصا على توضيح المميزات الجميلة لسكان ذلك الوادي وأنهم يمكن أن يصبحوا أصدقاء إذا ما تم التعامل معهم وتوجيههم بصدق وأمانة . لقد كان غردون برأي الكاتب يؤمن بأن السودانيين وفي مقاومتهم الباسلة لتحرير بلادهم من الأتراك يستحقون التقدير أكثر من المصريين المنسحبين ومن البريطانيين المترددين . ولتطبيق هذه الفكرة كان غردون مشغولا بإيجاد الشخص المناسب لحكم البلاد في المستقبل من أهاليها ، حتى أنه حاول واجتهد في إقناع الحكومة البريطانية بالاستعانة بخدمات غريم الأمس الزبير باشا رحمة ولكن البريطانيين رفضوا ذلك تحت تأثير حكومة ضعيفة تفتقد الشجاعة ونفوذ جماعات ضغط غير مسئولة ومجتمع يتكيء على معلومات خاطئة . ولكن غردون على كل حال ظل محتفظا باحترامه للزبير الذي كان عدوه بالأمس القريب والذي بدوره دون شك ، كما يرى المؤلف ، بادله احتراما باحترام .
كان غردون شجاعا ومتفهما لأحوال السودان والسودانيين لدرجة أنه طلب الإذن ليذهب بنفسه إلى المهدي ويناقش معه الأمور ! خطوة لو تمت لكانت ربما غيرت مجرى التاريخ في السودان . المهدي نفسه استاء استياء كبيرا عندما أحضروا له رأس غردون المقطوع ، فقد كان يكن لغريمه الشجاع تقديرا عظيما كما كتب السيد جاكسون حاكم المديرية الشمالية بعد ذلك . وغير المهدي يضيف المؤلف إنه على ثقة بأن الالاف من قبيلة الجعليين الذين يقدسون الشجاعة قد تأثروا حد البكاء للفقدان المأساوي للرجل الذي لم يعرف معنى كلمة الخوف . قتل غردون واكتمل فتح الخرطوم ولكن الرحيل المفاجيء للمهدي كان حظا سيئا للدولة الوليدة ، فالرحيل المفاجيء في وقت غير مناسب لبطلي السماء كما سماهما الكاتب ، المهدي وغردون ، كان بداية لظهور مملكة أرضية أخرى ، فالخليفة عبد الله الذي يرى المؤلف أنه يستحق أن يحسب من بين رواد ومبتدري الشمولية ، اختفت تحت حكمه مخافة الله التي نظّمت أفعال المهدي ومقربيه وحل الخوف والشك محل الإيمان وزاد عدد الطرود المرسلة إلى امدرمان حاوية رؤوس المعارضين عوضا عن جوالات الذرة وفي تضاد مع حكمة المهدي الذي استنكر فعل ذلك حتى مع غريمه غردون .
انهارت دولة الخليفة آخر الأمر وانتهت فظاعاتها التي يذكر المؤلف بعضها باسهاب وتذكرها مصادر أخرى كذلك ، وانتصر كتشنر الذي خاطب ضباطه المصريين قبل المعركة " تذكروا دائما أن الذي تواجهونه هو الجيش الأكثر قسوة ووحشية وعديم الرحمة في العالم ... إنهم لن يهربوا من الميدان أو يستسلموا ... وعندما يحسون بأنهم مهزومون لا محالة فإنهم سيجلسون على مفارشهم الجلدية ويستقبلون الرصاصات التي تنهي حياتهم بنفس البساطة التي يجلس بها الرجل المتمدين تحت الدوش " .
لقد كانوا رغم ذلك نبلاء بطريقة أو بأخرى في احترامهم للشجاعة حتى لدى أعدائهم ، يورد المؤلف أن ونستون تشرشل كتب عنهم في تعاملهم عند مقتل الجنرال هكس : " كبرياؤه وقوته الجسدية أثارت اعجاب حتى أعدائه الذين لا يدخل الخوف قلوبهم لذلك فهم وفي احترام الفرسان فقد دفنوا جثمانه وفقا لطقوسهم البربرية " .
انتصر الانجيز وسقطت دولة الدراويش كما سماها المنتصرون ، والتاريخ يكتبه المنتصرون ، لكن المنتصر لم يلجأ للانتقام أو التشفي كما يرى المؤلف ، فكتشنر ، يقول الكاتب ، كان مصمما على أن الأداء المشرف الذي أظهره السودانيون في الحرب يجب أن يقدّر وأن أبناء وأحفاد أولئك الرجال يستحقون حياة أفضل .
أول ما فعله كتشنر كان إطلاقه نداءً لتمويل مشروع كلية غردون في الخرطوم ، التمويل الذي كان مقدراً له مبلغ مهول بمقاييس ذلك الزمان يبلغ مائة ألف جنيه ، ولكن الذي حدث أنه وفي خلال فترة قصيرة لم تتجاوز الستة أسابيع وضع الشعب البريطاني في يد كتشنر ما مقداره 126 ألفاً من الجنيهات من التبرعات . " أي شعب ! أي رجل ! أي دولة " : هذه التعابير بين الأقواس هي بالطبع لكاتب الكتاب ، إنما من الصعب لومه على ذلك بحسب رأيي المتواضع .
واصل كتشنر في مساعيه المحمومة لبناء دولة حديثة على أنقاض اللادولة في السودان ، ويورد المؤلف ببعض تفصيل بعضا من جهوده تلك ، ولكن واحداً منها دون شك كان " قانون ملكية الأراضي " الذي حظر الأجانب من تملك أي أرض في السودان ، مما جنّب السودان بحسب الكاتب ما حدث في مستعمرات بريطانيا وممتلكاتها في افريقيا وآسيا حيث قادت ملكية الأجانب للأراضي إلى مشاكل مع المستعمرين لا تزال آثارها باقية . من المهم هنا ابداء الإعجاب والتقدير للجنرال كتشنر على الأخص بعدما مرّ على السودان حكم جنرال من مواطنيه باع أو أجّر ملايين الأفدنة من الأراضي للأجانب ل 99 عاماً أو تزيد أحيانا ً، وكان ذلك هو الجنرال عمر البشير دكتاتور السودان الثالث في عهد الحكم الوطني بعد رحيل الإنجليز .
أنشأ كتشنر من ضمن ما أنشأ ميناء بورتسودان وخط السكة الحديد الرابط للميناء بحلفا والخرطوم ، وانتشرت شبكة التلغراف بطول 8700 ميل وبدأت مصلحة البوستة والتلغراف ، ووضع محام مرموق هو السير إدجار فولهام الأساس لمصلحة العدل في السودان . أنشئت مصلحة المعارف وغيرها وفي كل ذلك حظي السودان ببعض زبدة المتعلمين الانجليز المخلصين من الشباب في بدايات حياتهم الذين أحبوا السودان والسودانيين كما تشهد بذلك مذكراتهم وكتاباتهم عن أيامهم في السودان . لا يمكن بالطبع ذكر انجازات كتشنر في السودان دون ذكر مشروع الجزيرة وخزان سنار على النيل الأزرق لري المشروع الذي اكتمل في عهد ونجت بعد ما صادق البرلمان البريطاني دون ضجة ودون تردد على " قانون إقراض حكومة السودان " ب 3 مليون جنيه استرليني انتهت بتمويل بلغ 13 مليون جنيه استرليني .
ثمة مقولة لا تزال تتردد كحقيقة ثابتة حتى يومنا هذا ، أشار إليها مؤلف الكتاب بأنه يمكن لأحدهم أن يقول ولكن بريطانيا كسبت كثيرا في المقابل في وقت لاحق عندما ظهر قطن الجزيرة بكميات متزايدة في أسواق مانشستر وليفربول ! ويرد المؤلف بالسؤال عن أين في العالم في ذلك الوقت كان هناك من هم مستعدون للمقامرة بالملايين في بلد كان حتى قبل 15 عاما تسوده الفوضى ! وأجدني اتفق معه في ذلك كامل الاتفاق .
يتحدث المؤلف كذلك عن جهود البريطانيين عموما والبريطانيات على وجه التحديد في تعليم البنات في مجتمع منغلق ومحافظ فيشير إلى مدرسة القابلات التي مثلت " أشعة النور الأولى التي اخترقت الجانب الأكثر إظلاما في حياتنا " وذلك بجهود عظيمة من السيدة ام اي وولف . كذلك فعلت مس ايفانز ذات الشعر الرمادي والتي أمضت جزء كبيرا في حياتها في السودان تنتقل من بيت إلى بيت تقنع ولاة الأمور المتحفظين بالسماح لبناتهم الصغيرات بالالتحاق بالمدرسة لإكمال العدد في فصل جديد في مدرسة جديدة .
يكتب المؤلف بتقدير كبير كذلك عن السير دوغلاس نيوبولد الذي كان يقول " نحن " و" بلدنا " عند حديثه عن السودانيين وعن السودان . جاء إلى السودان وهو في الرابعة والعشرين من عمره وبقي به حتى وفاته . وتقديرا لانجازاته ونجاحه في كردفان وغيرها من بقاع السودان اقترح النجومي منح دوغلاس الجنسية السودانية الفخرية بعد موته وهو الذي في حياته رفض تكريم بلاده له بلقب سير قائلا إنه يفضل أن يمنح ثلاث رغبات من أجل السودانيين أو حتى واحدة أو منحه 1000 جنيه لبعض الأعمال الاجتماعية في السودان .
ثمة الكثير من الأسماء التي يرد ذكرها في الكتاب من البريطانيين الذين عملوا في السودان ، وكذلك الكثير من التفاصيل ورؤية المؤلف وآراءه المبثوثة عبر الكتاب ، ولكن ما يستحق الوقوف عنده هي الرؤية المخالفة أو المغايرة للسائد للمؤلف عن فترة الانجليز في السودان . لا يعني ذلك أن النجومي وحده على حق والآخرون غيره على خطأ ، إنما الأكيد أن ما طرحه محمد النجومي هنا هو وجهة نظر مقدرة ينبغي الاهتمام بها والتصالح مع بعض ما فيها على الأقل إن رغبنا في البناء السليم لوطننا بدل إلقاء اللوم على الاستعمار بعد ما يزيد عن الستين عاما من رحيله .
رغم ذلك لا يعفي الكاتب الإدارة الانجليزية من ارتكابها لبعض الأخطاء ، والتي كان أكبرها ما سماه بالتطويل غير الضروري لفترة الإجراءات الاحتياطية التي اتخذتها لمنع تجدد شعور الجنوبيين بالظلم والمرارة بالحد من حركتهم الحرة وسط اخوتهم من الوطن من الشماليين ، وغالب الظن أنه يشير لما عرف بقانون المناطق المقفولة . وعلى كل حال فقد انفصل جنوب السودان آخر الأمر لأسباب عديدة ومختلفة إنما يجدر الانتباه إلى أن الانجليز لم يكونوا يعملون بالضرورة لانفصال الجنوب ، ففي رسالته متمنيا الخير لمواطني وحكومة السودان كتب مستر بريدن عن مشكلة الجنوب : " حلها يستوجب التعامل معها بمستوى الدولة ورجال دولة يتمتعون بالشجاعة ليدركوا أن الدول لا يمكن أن تقوم بارغام الأقليات للانصياع إلى وحدة لغوية وثقافية ودينية " . من المؤسف أن ما حدث كان نقيض ذلك ! وقريبا من ذلك كتب نيوبولد : " ألا يمكن بدلا من أن تذوب في شمال افريقيا المسلم أو الوسط المسيحي أن تكون مكانا لتلاقي الاثنين ؟ وبذلك يمكن للسودان أن يصبح الدولة العازلة والتي تحمي من حروب المستقبل الدينية والعرقية " . من المؤسف مرة أخرى أن ذلك لم يحدث !
كذلك يرى النجومي أن اتفاقية مياه النيل الموقعة في 1929 كانت نقطة سوداء في سجل الوصاية البريطانية النظيف حيث تعرض السودان فيها لظلم كبير ، حتى أن السير دوغلاس نيوبولد كتب مرة إلى صديق سوداني : " اتفاقية مياه النيل عملت دائما لصالح مصر وضد مصلحتنا ولكننا التزمنا بها . فمصر في الوضع الغريب ، فهي تحصل على مياه كثيرة ولها أرض قليلة كما إن مشروعاتها للاستفادة من مياه النيل متأخرة جدا بينما يحصل السودان على مياه قليلة ولديه أراض كثيرة " . ذلك كان قبل زمن طويل فما بال الحكومات السودانية تصمت عن ذلك لا سيما بعد نهوض مارد الهضبة وتشييد سده الكبير ، فإذا بالحكومات السودانية تصطف مع ظالميها ولا تطالب بتعديل الاتفاقية ! ذلك رغم أن النجومي يكتب بعدها أنه بعد رحيل الانجليز فإن لدينا فرصة عظيمة لمراجعة كل الأمر ! ولكن الذي حدث هو أن من وصفهم النجومي بأنصاف المتعلمين والشاعرين بالدونية هم من تسيدوا المشهد بعد الانجليز ولا يزالون .
الخطأ الثالث الذي ارتكبه الانجليز بحسب المؤلف كان في مسألة الحدود مع أثيوبيا ، فبني شنقول السودانية التي ألحقت بالحبشة خلال المهدية بقيت طوال الحكم البريطاني مصدرا للمشاكل . ويرى الكاتب أن الأحباش شعوب فخورة تعشق الحرية وصداقتهم سوف تكون ثمينة . آراء سديدة في زمن بعيد .
مقدمة الكتاب الأصل باللغة الانجليزية كما ورد أعلاه كتبها السير جيمس روبرتسون حاكم عام نيجيريا وقتها والحاكم العام السابق في السودان ، ويبدو أن المؤلف التقى به هناك أثناء إقامة الأخير في نيجيريا . وفيها يذكر روبرتسون أن الهدف الأول للبريطانيين الذين خدموا في السودان كان بناء دولة حديثة في بلد كان يفتقر إلى كل مقومات الدولة عدا مواطنين يمتلكون العزيمة والتطلع لمستقبل أفضل .ثم يختم روبرتسون بالثناء على شجاعة المؤلف معتبرا أنه عبّر عن الكثيرين من السودانيين الذين لم تواتهم الجرأة على التعبير عن أحاسيسهم ، ثم يختم بالقول :" ونحن الذين خدمنا في السودان سوف نرى في نجاح السودان نجاحا للنموذج المثالي الذي ساعدنا في إقامته " .
يحفل الكتاب كذلك ببعض آراء الانجليز الايجابية عن السودانيين ، والحقيقة فإن كثيرا من كتابات الانجليز عن فترات حياتهم في السودان تحفل بذلك الشعور الطيب . من ذلك في الكتاب ما كتبه مستر جي إس آر دنكان في كتابه " السودان " : " ... ومع ذلك فليس هناك بريطاني ، بمجرد تعرفه إلى السودانيين يستبدل برغبته صحبتهم بأي جنس آخر بما في ذلك جنسه نفسه " ، ومن ذلك أيضاً ما كتبه الدكتور جي دي توثيل قائد الثورة الزراعية في السودان : " ... لكن في النهاية فإن الإدراك السليم والاستعداد الطبيعي واللطف الغريزي للسودانيين سوف يسود وإن السودان الذي نحلم به سوف يكون " ومن ذلك ما كتبه مستر جورج بريدن :"... نحن خدام حكومة السودان القديمة ننظر إلى ماض مليء بالذكريات السعيدة ونراقب بفخر وإعجاب السودان الجديد وهو يستشرف مستقبلا مشرفا وواعدا " وكذلك ما كتبه مستر أوين كامبل الذي خلف نيوبولد على كردفان والذي تعلم لغة البداويت وبقي ممتنا للهدندوة في شرق البلاد : " من خلال التجربة الشخصية فقط مع السودان والسودانيين يمكن للانسان أن يتمنى لهم الخير ... من دواعي سعادتي الآن أن أستضيف أصدقائي السودانيين في منزلي في اسكتلندا ... بإخلاص شديد فإنني أصلي أن يكون السودان ضمن تلك الدول التي تجد في اتباع العدل وفي التقدم الثقافي والاقتصادي ، أسأل الله أن يبارك في حكامهم ومواطنيهم " ، وربما نختم هنا بسطور من كلمة السير روبرت هاو الحاكم العام عند رحيله من السودان : " ( هديتكم ) سوف تذكرنا دائما في الأمسيات بتلك السنوات الثمانية من حياتنا التي قضيتاها بين أناس تعلمنا منهم حسن الضيافة والود والكرم حتى في أصعب الأوقات، الذين نحمل لهم عاطفة عميقة والذين سوف نصلي دائما من أجل مستقبلهم . بارك الله فيكم ووداعا " .
عاطف خيري : الجلوس ، في ديوانه سيناريو اليابسة .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.