الفوز الذي حققه المؤتمر الوطني في الانتخابات الأخيرة يلقي على كاهله مزيدا من المسئولية و الأعباء فعلى أقل تقدير يعد هذا الفوز تمكين في الأرض ولو إلى حين؛ و لذلك لابد من استيفاء شروط هذا التمكين حسب نص الآية الكريمة " الذين إن مكناهم في الأرض ......". و كلمة الذين هذه تعني فيما تعني عند بعض المفسرين الولاة و الحكام أو حسبما يسمى في هذا العصر الدولة و الحكومة – الرئيس و أعضاء وزارته و حكام الولايات و كل من يتولى منصبا دستوريا- تنفيذي أو تشريعي أو ربما حتى رقابي في أجهزة الدولة المختلفة. و ربما شملت كلمة الذين الأمة أو المجتمع بأكمله و في كلا الحالتين نحن مطالبون –حكام و رعية- ببعض الأمور التي يجب القيام بها حتى يستمر هذا التمكين و يكتب له النجاح و يؤتي أكله بإذن الله. و لذلك أرجو ألا يغتر الأخوة في المؤتمر الوطني بهذا النصر باعتباره شيء مستحق نتيجة لما قدموه للشعب السوداني الذي ساندهم و صوت لهم. لا ليس الأمر كذلك، لأن الحكم بيد الله يؤتيه من يشاء و لو كانت مثل هذه الأشياء تنبني على الكثرة لما أوشك المسلمون أن يهزموا يوم حنين و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين ظهرانيهم يومئذ و لكن الله سلم. نحن نحسب أن قادتنا يقيمون الصلاة و لكن حسب الآية فإن الحكم يتطلب أشياء أخرى من أهمها الأمر بالمعروف و هذه كلمة جامعة تستخدم في مقابل النهي عن المنكر و لذلك نريد من القائمين على الأمر إزالة كثير من التشوهات التي لحقت بالتجربة خلال العشرين سنة الماضية التي هي عمر الإنقاذ في الحكم و ذلك جراء بعض الممارسات الخاطئة التي أرتكبها بعض المحسوبين على المؤتمر الوطني. و من ذلك الفساد المالي الذي لم يعد سرا بل أضحى حديث المجالس الخاصة و العامة مما يستدعي تفعيل مبدأ "من أين لك هذا؟" و تطبيق قانون الثراء الحرام على كل من تثبت إدانته بغض النظر عن موقعه أو قربه من فلان أو علان. فقد امتدت أيادي كثيرة للمال العام بطرق ملتوية و عجيبة في غياب تام للرقابة و لعل تقرير المراجع العام الأخير قد أشار إلى طرف من هذا الفساد الذي نرجو ونطالب بأن يتوقف حالا و يعاقب مرتكبوه ويرد ما بأيديهم للخزينة العامة لأنه ملك للشعب. ولا يفوتنا هنا أن نشيد بتحرك وزارة العدل و حكومة شمال دارفور و الجهات الأمنية ذات الصلة فيما يتعلق بقضية " سوق المواسير" التي نأمل أن تجد طريقها إلى الأجهزة العدلية و القانونية دون تدخلات من هنا و هناك. و بما أن العدل هو أس الحكم و أساسه الذي لا يستقيم إلا به ينبغي على الدولة أن تشرع فورا في القيام ببعض الإصلاحات القضائية لرد الحقوق لأهليها" حتى ولو أنها كانت مساويك" على أن يصاحب ذلك إجراءات عدالة ناجزه حتى تحسم النزاعات و المطالبات و القضايا- خاصة المالية منها- بالسرعة التي تحفظ حقوق الناس و تخفف نفقات التقاضي على الأطراف المتنازعة و تردع من تسول لهم أنفسهم انتهاك حرمة المال العام دون تورع و لا ضمير. هذا و نتوقع أن يتولى المناصب العامة و الدستورية أشخاص من ذوي الكفاءة و المقدرة و الأمانة خاصة في هذه المرحلة التي تتطلب قدرا من الشفافية و المكاشفة بين الحكام و الرعية لأن من ليس لديه القدرة على تولي و تحمل المسئولية سيفسد أكثر مما يصلح و يهدم أكثر مما يبني. لذلك يجب ألا يكون الولاء هو المعيار الوحيد للاختيار و ذلك يعني أن تكون هذه الوظائف متاحة لكل من يحمل المؤهل المناسب لشغلها إذا كانت هنالك حاجة لخدماته. وبما أننا نتحدث عن العدل نلفت الانتباه إلى توخي التقسيم العادل للثروة و السلطة بين أقاليم السودان كافة حتى لا يشعر أحد أو مجموعة أو منطقة بالغبن و التهميش الذي كان سببا مباشرا في حدوث كثير من المظاهر السالبة و نريد قطع رأس الحية و سد هذه الذريعة الواهية حتى لا يظهر على الساحة شخص آخر من هذه النافذة مرة أخرى. و إذا كان هذا هو المطلوب من الدولة فما دور الرعية؟ إن الشعب عليه مسئولية لابد من النهوض بها في هذا المنعطف الحرج الذي تمر به البلاد. أولا لابد من إسداء النصح للولاة بالطريقة التي تليق بهم و تحفظ لهم مكانتهم و حقهم، بعيدا عن الأهواء و المطامع و المطمح الشخصي و النزعات القبلية و الجهوية التي كانت واحدا من معاول الهدم و التثبيط في الفترة السابقة و لا خير في حاكم لا يسمع قول الرعية؛ و هنا يأتي دور أجهزة الإعلام و الصحافة المقروءة و رجال الإعلام الذين نريد منهم توظيف هذه الأجهزة لتصيح و تقويم المسيرة و ليس للتطبيل‘ كما ينبغي على المسئولين تمليك الحقائق لهذه الأجهزة حتى توصلها للناس . و لابد من الالتزام بمبدأ العقد الاجتماعي الشرعي الذي يحتم على الفرد التنازل من بعض حقوقه و حريته الشخصية لصالح المجتمع و يلزم الحاكم بالإصغاء لرأي الناصحين الصادقين من رعيته دون تذمر و لا تكبر لأن الناس في الأساس سواسية كأسنان المشط و كما يقول الدكتور القرضاوي "لكل نفس إنسانية في الإسلام حُرْمة ومكان، قد يختلف الناس في أجناسهم وعناصرهم فيكون منهم العربي والعجمي، وقد يختلفون في أحسابهم وأنسابهم، فيكون منهم مَن ينتمي إلى أسرة عريقة في المجد، ومَن ينتمي إلى أسرة صغيرة مغمورة في الناس، وقد يتفاوت الناس في ثرواتهم، فيكون منهم الغني ومنهم الفقير ومنهم المتوسط، وقد يتفاوتون في أعمالهم ومناصبهم، فيكون منهم الحاكم والمحكوم، ويكون منهم المهندس الكبير والعامل الصغير، ويكون منهم أستاذ الجامعة والحارس ببابها، ولكن هذا الاختلاف أو التفاوت لا يجعل لواحد منهم قيمة إنسانية أكبر من قيمة الآخر، بسبب جنسه أو لونه أو حسبه أو ثروته أو عمله أو طبقته أو منصبه، أو أي اعتبار آخر" و قد قال أبو بكر رضي الله عنه " و ليت عليكم و لست بخياركم" و الشواهد في هذا الباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا و المطلوب أن يتعاون الناس حكاما و رعية على القيام بأمر التمكين. و يأتي رفع المعاناة عن كاهل الناس في المرتبة الأولى على سلم الأولويات و لعلنا نذكر هنا ما ورد عن عمر رضي الله عنه " لو أن بغلة عثرت بالعراق لكنت مسئولا عنها لما لم أسو لها الطريق" لله درك يا فاروق و أين نحن منك. فقد صبر هذا الشعب مع الإنقاذ و صبر عليها أيضا و هو يكابد مر العيش في أيامها الأولى و تحمل معها "الشيلة" منذ نعومة أظفارها – هذا إذا كانت لها أظفار ناعمة أصلا- و ناصرها ووقف معها في الانتخابات الأخيرة مما أهلها لهذا الفوز الكاسح دون سواها فليس أقل من أن ترد له الجميل بأحسن منه و زيادة في شكل خدمات متكاملة من تعليم و صحة و عيش كريم و قدر من الحرية للتعبير عن رأيه في كافة شئون الحياة و على كل المنابر دون المساس بأمن البلد و سلامتها. ثم إن الشارع العام بحاجة للضبط و المراقبة دون تشدد بل بتقديم القدوة و الأسوة الحسنة حتى يستقيم المظهر و المسلك وقد أعجبني توجيه السيد الرئيس- وقفه الله- بتوحيد زي طالبات الجامعات وهذه بالتأكيد خطوة في الاتجاه الصحيح و إن كان الأمر لا يقتصر على زي الطالبات و مظهرهن إذ لابد من المحافظة على العروض و صونها بكل الطرق و سد الذرائع و لا حرمة لراع يفرط فيما ولاه الله عليه. و عودا على بدأ نذكر القارئ الكريم بقول الله تعالى " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور"- سورة الحج -41. و هذه الآية ليست على الوالي وحده و لكنها على الوالي و الرعية و قد جاء في تفسيرها ما يلي" إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم و أن يأخذ لبعضكم من بعض و أن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع و إن عليكم من ذلكم الطاعة غير المبزوزة و لا المستكره لها و لا المخالف سرها علانيتها" و العاقبة لله من بعد يحاسب كلا بما أقترف- ألا هل بلغت اللهم فأشهد. محمد التجاني عمر قش الرياض e-mail:[email protected]