لماذا لا نصدق نتائج الإنتخابات السودانية الأخيرة؟ حقائق التوزيع الطبيعي ونظرية الناخب الوسيط. بقلم د. أحمد مصطفى الحسين [email protected] من حكمة الله في خلقه أن جعل معظم الظواهر الطبيعية والإنسانية تتوزع توزيعا طبيعيا normal distribution تتركز فيه غالبية قيم أي ظاهرة، طبيعية كانت أو مجتمعية، حول وسط معين وتقل هذه القيم تدريجيا كلما ابتعدنا من هذا الوسط. وهذا يعني أن الظواهر الشاذة (البعيدة عن الوسط) تتواجد بنسب بسيطة في مجتمع الظاهرة سوا كان هذا المجتمع يتعلق بمحموعة من الظواهر الطبيعية او مجتمعات بشرية. ولهذا السبب نجد مثلا أن إنتاج اشجار النخيل أو أطوال البشر أو علامات الطلاب في الإمتحانات تتوزع توزيعا طبيعيا يتمحور حول وسط (متوسط) معين وتكون الحالات الشاذة فيه، معبرة عن مستوي انتاج متدني بشكل شاذ أو متفوق بصورة شاذة لشجرة أو او مجموعة قليلة من أشجار نخيل معينة مثلا، أو اشخاص يتميزون بقامات فائقة الطول أو فائقة القصر، أو طلاب متفوقون تفوقا مميزا او راسبين رسوبا كسيحا. إن مفهوم "الشذوذ" نفسه يأخذ مرجعيته من بعد أو قرب الحالة المعينة عن هذا الوسط. ويلاحظ كل ذلك حتى في أحاديثنا العادية وحياتنا اليومية. فنحن نتحدث عن متوسط دخل الفرد، أو متوسط عمر الفرد أو متوسط وزن الفرد ونستخدم هذه القيمة المتوسطة للتعبير عن النزعة المركزية أو الحالة الغالبة لظاهرة معينة. وينطبق هذا المنطق الطبيعي ، بطبيعة الحال، على أراء الأفراد، سياسية كانت أم غيرها، فهي موزعة توزيعا طبيعيا تتمحور فيه افكار الافراد في المجتمع حول وسط معين يمثل الاراء الغالبة في موضوع معين (الإنتخابات مثلا). وكلما بعد رأي الفرد السياسي يمينا أو يسارا من هذه المنطقة الوسطية، أعتبر هذا الرأي متطرفا يمينا أو يسارا. ولا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن هذا الوضع يستمر ثابتا في ديمومة مطلقة (لا مطلق الا الله) وذلك لأن المجتمعات تتغير وتتحول إجتماعيا بصورة تمكن بعض الاراء التي كانت شاذة في وقت معين من احتلال مواقع الوسط في أوقات أخرى. كما أن هذا لا يعني أن الأراء الوسطية أوالمتطرفة يمينا أو يسار هي أفكار سيئة أو جيدة بطبيعتها، اذ يعتمد هذا على الفناعات الفردية ودرجة الوعي في المجتمع. فقد تتحرك الأراء التي تعتبر شاذة في وقت ما من موقعها الطرفي لأسباب مختلفة تتعلق بالتغير الإجتماعي وتطور الوعي المجتمعي وتصبح هي نفسها الوسط الجديد الذي يمثل غالبية الأراء في المجتمع. فقد كان الرأي الوسط السائد في المجتمع السوداني، حتى وقت قريب ، يعارض تعليم البنات مثلا، وصار مثل هذا الرأي الان، بفضل الله وبفضل التحولات الاجتماعية التي حدثت في بنية المجتمع السوداني في عقود ما بعد الإستقلال، رأيا شاذا بعيدا عن الوسط حتى عند أكثر الجماعات سلفية. لقد ساهمت حقائق التوزيع الطبيعي للظواهر، في تطوير أدوات إحصائية تقوم على نظريات الاحتمال لإختبار الفرضيات والنظريات العلمية في مجلات العلوم الطبيعية والإجتماعية والتحقق من درجة صدقها، وأدت الى ظهور ثورة علمية في تلك المجالات. فعلى سبيل المثال إستخدمت نظرية الاختيار العام (Public Choice Theory) حقائق التوزيع الطبيعي لتطوير نظرية الناخب الوسيط (median voter)، في مجال حقل تحليل السياسات العامة، وأستخدمتها في تفسير سلوكيات المرشحين والناخبين والسياسات التي يتبنونها في برامجهم الإنتخابية في إنتخابات تعددية نزيهة تسعى الأحزاب المتنافسة للفوز فيها. وعلى أساس هذه النظرية يبحث كل حزب ويدفع بقضايا السياسات التي تساعده في جذب أكبر عدد من أصوات الناخبين لبرنامجه ومرشحيه. ومع وجود التوزيع الطبيعي للآراء المختلفة في المجتمع السياسي حول أنواع السياسات، فإن الأحزاب تتوجه عادة نحو تبني سياسات وسطية (تعبر عن الأراء الوسطية التي تشكل الأغلبية في المجتمع) وذلك لتعظيم أصواتها وبالتالي فوزها في الإنتخابات. وتفسر لنا نظرية "الناخب الوسيط " السبب في عدم وجود فروق جوهرية بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في الولاياتالمتحدة من جهة وحزب المحافظين وحزب العمال في المملكة المتحدة من جهة أخرى. حيث تتبادل هذه الاحزاب منطقة الناخب الوسيط مما يؤدي الى فوزها في الانتخابات بنسب لا تتعدى 50% من اصوات الناخبين في احسن احوالها. كما تفسر لنا نظرية الناخب الوسيط الحظوظ الإنتخابية الضعيفة لأحزاب اليمين المتطرف واليسار المتطرف في إنتخابات تلك الدول. وتقدم هذه النظرية تفسيرا لظاهرة لجؤ الأحزاب المتطرفة للإنقلابات العسكرية في الدول النامية لفرض برامجها بالقوة بعد أن تفشل في ميادين الإنتخابات الحرة النزيهة. يوضح الشكل أدناه التوزيع الطبيعي آراء الناخبين حول السياسات في المجتمع، و يتلخص مضمونه في أن الآراء المحافظة جداً (الوهابية مثلا) والآراء الراديكالية جداً (الحزب الشيوعي مثلا) تكون غالباً نادرة في المجتمعات، وأن هناك مواقف وسطى تشكل غالبية الآراء في المجتمع (الأمة، الإتحادي مثلا). وشكل التوزيع الطبيعي أدناه يساعدنا في استخدام فكرة التوزيع الطبيعي في الإحصاء في نقاش مدى صدقية ونزاهة الإنتخابات السودانية الأخيرة. يوضح الشكل أعلاه التوزيع الطبيعي للأصوات التي يمكن أن ينالها حزب معين، على حسب قربه أو بعده، من منطقة الناخب الوسيط في إنتخابات حرة نزيهة. وتقع منطقة الناخب الوسيط عند النقطة (ج)، ودون الدخول في المسائل الإحصائية المتعلقة بالتوزيع الطبيعي يمكن أن نكتفي بالقول أن المحور الرأسي للشكل أعلاه يوضح عدد الأصوات التي يمكن أن ينالها حزب معين، بينما يوضح المحور الأفقي أوضاع الأحزاب المختلفة من ناحية بعدها وقربها من منطقة الناخب الوسيط في النقطة (ج). وتمثل المساحة تحت الخط المتعرج (المنحنى الجرسي) مجموع الأراء السياسية وبالتالي مجموع الأصوات التي يمكن الحصول عليها بواسطة الأحزاب المشاركة في الإنتخابات. فإذا كان الحزب عند النقطة (أ) مثلا، حاملا أفكارا يمينية، فهو يحصد كل الأصوات التي تقع على يمين النقطة (أ) وهي تساوي تقريبا حوالي 10% من الأصوات. ويكون الحال كذلك إذا كان الحزب متمركزا في الطرف الاخر من التوزيع الطبيعي عند النقطة (ها). ويتضح من كل هذا، أنه كلما ابتعد موقف الحزب من النقطة (ج ) وهي منطقة الناخب الوسيط، كلما نقص عدد الأصوات التي يحصل عليها. وعلى أساس حسابات مساحة التوزيع الطبيعي الإحصائية تتواجد حوالي 68% من أصوات الناخبين في المساحة التي تقع بين النقاط (ب) و(ج) و(د). وتضم المنطقة الممتدة من النقطة (أ) في الطرف الايمن الى النقطة (ها) في الطرف الأيسر من المنحى حوالي 90% من أصوات الناخبين. ولعله من نافلة القول أن نقول أن نظرية الناخب الوسيط تستبعد تماما أن يكتسح حزب معين في ظل إنتخابات حرة ونزيهة أكثر من 90% من أصوات الناخبين، لأن هذا يقتضي أن يصوت كل أصحاب الأراء المتطرفة يمينا ويسارا لمرشحي هذا الحزب، وهذا ما لا يصدقه الواقع العملي ولا الدراسات المقارنة للإنتخابات النزيهة والحرة في العالم. فإذا أفترضنا أن المؤتمر الوطني، بعد عشرين عاما من "الإنجازات"، قد أزاح أحزاب الوسط القديمة (الأمة والإتحادي) تماما من منطقة الوسط، وأحتل المنطقة الممتدة من (ب) الى (د) فان قصاراه في هذه الحالة أن يفوز بنسبة 68% من مقاعد البرلمان وتتوزع بقية المقاعد على عدة أحزاب اخرى مشاركة في الانتخابات. أما إذا كان موقع الحزب عند النقطة (أ) أو (ها) ، وهذا ما نزعم إنه كذلك، فانه لا يمكن ان يحصل إلا على 90% من الاصوات الا اذا استخدم اساليبا لا تتماشى مع نزاهة الإنتخابات وتؤدي الى تغير التماثل الطبيعي للتوزيع الطبيعي. وحتى لو تحول حزب المؤتمر الوطني الى حزب وسطي، وهذه خلاصةلا يسندها واقع الحال، فانه لا يستطيع أن يكتسح الإنتخابات إلا بنسبة 68% من الأصوات، على أحسن الفروض وأكثرها تفاؤلا. وبذلك تحصل الأحزاب الأخرى على 32% من الأصوات على أسوأ الفروض. وخلاصة القول أنه إذا حصل حزب، اي حزب ، على نسبة تفوق ال 90% تكون فرضية أن الانتخابات مزورة مقبولة بمستوى دلالة إحصائية عالية. ولا يمكن أن يتم مثل ذلك الإكتساح إلا من خلال عدة طرق تتفاوت في درجات التزوير الخبيث منها والحميد: وتشمل تلك الطرق: التحكم في السجل الإنتخابي بحيث تسجل غالبية من أصحاب الرأي المؤيد للحزب، السيطرة على الناخبين بتخويفهم أو رشوتهم، السيطرة على عملية التصويت نفسها على نسق "بالملايين قلناها نعم". وهذا كله لا يمكن أن يتم إلا من خلال السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية منها والمدنية. لقد حصل حزب المحافظين البريطاني في الانتخابات التي جرت في هذا الشهر على 47%من مقاعد البرلمان (306 مقعدا) رغم التذمر الذي ساد لأكثر من عقد من الزمان من سياسات حزب العمال والذي حصل في هذه الإنتخابات، ورغم كل ذلك التذمر، على 257 مقعدا أي ما يعادل 37% من مقاعد البرلمان، هذه نتيجة تتوافق تماما مع نظرية الناخب الوسيط وتؤكد أن التبرير الذي ساقه المؤتمر الوطني لإكتساحه الانتخابات الأخيرة، والمتمثل في التغير الجذري الذي أحدثه في فترة العشرين سنة الماضية في بنية المجتمع السوداني، ما هو الا تهويلا فج لا تسنده الحقائق العلمية ولا التجارب العملية. فإذا صح هذا الإدعاء، من قبل المؤتمر الوطني، فإنه يعني أن أحزاب الأمة والإتحادي قد طردت خارج التوزيع الطبيعي لفضاءات الاراء السياسية الأصوات الإنتخابية في المجتمع السياسي السوداني!!!. وإذا لم يصح هذا الإدعاء، وهو حتما غير صحيح، فكيف يا ترى استطاع المؤتمر الوطني الحصول على أكثر من 90% من اصوات الناخبين، وحصد جميع مقاعد البرلمان الجغرافية والقوائم النسبية والقومية والولائية، ولم يحصل اي حزب غير متوال معه على أي مقعد؟