لم يكن يدور بخلد الروائي الكبير سوفوكليز ، وهو يكتب روايته الأشهر قبل ثلاثمائة وخمسين عاماً قبل الميلاد الموسومة (الملك ذو الأقدام المتورمة) وهي الرواية التي عرفت على مر العصور باسم (الملك أوديب) أن بطله أوديب هذا سيكون أحد دعامت رئيسية لنشوء علم القرن العشرين (السايكلويلوجيا) لمخترعه الفعلي سيغمود فرويد الذي استل من عقل اوديب عقدته الشهيرة. فمنذ ذلك التاريخ نشأ علم النفس التحليلي بكل أطيافه واستخداماته في محاولة جرئية ومحمودة لاختراق حجب النفس البشرية لاستكناه خباياها. فكل شاردة أو واردة ما هي إلا أشارات لما يختلج في داخلك لما تخفيه أو لما غاب عنك . وانطلقت تباعاً أدوات التحليل للشخصيات المبينة داخل هياكل الأعمال الأدبية باعتبارها كينونات ممكنة لمسارات الشخوص على مسرح الحياة الواقع . يراها مبدعوها تمشي على سوقها بين الناس في الطرقات جزءاً لا يتجزأ من السابلة. في الثلث الأخير من متصل الأمكنة – الأزمنة السوداني الأخير في عصره الحديث أو ما صار يعرف بالديمقراطية (الثالثة) كانت البيئة الأدبية نشطة إلي حد كبير في معظم أشكالها وأجناسها متلمسة آفاق مشروع ثقافي يعين على فهم الثقافات المتخلفة من السودان وإنسانها الذي أنتجها . وظهرت كذلك العديد من المحاولات الجزئية والمحمودة للغوص في أعماق مكونات هذه الثقافات مسوغات تعددها إلي أنتجت بدورها كتلا بشرية تحمل خصائص البيئات التي نشأت فيها . من تلك المحاولات الجادة والجديرة بالذكر ، أخرج الأستاذ الشيخ احمد الشيخ كتابه صغير الحجم كبير المعني بعنوان واضح وهو تحليل الشخصية السودانية من خلال روايتي موسم الهجرة للشمال وعرس الزين ، وكانت تلك لعمري مقاربة جديدة كل الجدة للنقد الأدبي لم يألفها العالم في تاريخ النقد الأدبي من قبل إذ كان بامكان هذه المقارنة تأسيس مدرسة قائمة بذاتها يحتاجها النقد الأدبي لاستيعاب فضاءات الإنتاج الأدبي لما بعد الحداثة وهو ما قصرت عنه أدوات منافيستو الناقد عزرا باوند وصديقه الشاعر تي إس اليوت عن أن تضع له إطاره النظري . مهما يكن من أمر فكما يعكس الفن المنحط والهابط انحطاط وهبوط المجتمع الذي نشأ فيه كذلك تعكس الشخصيات الروائية والمسرحية طبيعة البيئة السياسية والاجتماعية التي نشأت فيها لا يشذ عنها شاذ فهي منه وهو منها. ابتدع الفنان جمال حسن سعيد، وهو فنان متعدد المواهب، شخصية خلف الله موضوع هذا المقال للتوعية بأهمية العملية الانتخابية وضرورة المشاركة فيها وكذلك التوعية بنصرة النساء وإحقاقهن حقوقهن ولانغماسنا العضوي الأزلي في حوار البيئة – الإنسان اللامنتهي يمكنا الغوص في عقل خلف الله الذي عذبنا ومعرفة طرق التفكير التي شكلته أو التي أفرزته من ثم. جاء في الاستراتيجية القومية للتعليم (لعل لها مسمي آخر) أن فلسفة التعليم ينبغي أن تتجه وتدعم أشواق الأمة وذلك في احدي المؤتمرات التي كانت تنعقد بعيد انقلاب الإسلاميين عام 1989م (الإنقاذ) والأعوام التي تليه وكانت توصيات تلك المؤتمرات تتنزل تباعاً ، كل في مجاله لرسم الخط العام الذي تنتوي حكومة الإنقاذ انتهاجه، من سياسة واقتصاد وتعليم وهكذا تنزلت توصيات مؤتمر التعليم على المناهج التربوية مصاقبة عليه ذلك ما أطلقوا عليه أشواق الأمة ، فتم تبعاً لذلك تعديل جوهري لمناهج التعليم ومراميها شمل كل مراحل الدراسة في محاولة معلنة وشعاراتيه سموها أعادة صياغة الإنسان السوداني . فهجموا على عقول أطفالنا البضة وهي تخطو أولى خطواتها في السلم التعليمي ، فبذروا فيها بذرتهم ، فاستوت شجرة كاملة في الحادي عشر من أبريل الماضي !! وحتى العقول التي وجدوها شبت عن طوقها وأشرفت على المرحلة الجامعية ، متلمسة آفاق معرفة استثارها تعليم لا بأس به قطعوا عليها طريق هذه الآفاق بمادة تدرس إجبارياً حشروها حشراً في المنهج الجامعي تسمي (الثقافة الإسلامية) . الغرض منها إلغاء آفاق المعرفة وتسفيهها ، وإعطاؤهم بدلا عنها حلولا جاهزة لكل المشاكل الماضية والحاضرة والمستقبلية ، وما عليهم سوي حفظها ، أو ليست ثقافتهم الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان ؟ وتمضي السنون والإنقاذ تتقلب في مفاهيمها العجائبية بلا وجهة مفهومة فتفارق شعاراتها الواقع اليومي ، ويشتد ارتطامها به ، فتردد صداه في العقول والقلوب ، فتغبشت الرؤيا والتبست المفاهيم وانبهمت السبل ... فالحرب في الجنوب صحيحة وليست صحيحة ، والريا حرام وليس حرام ، والترابي عالم وليس عالماً ، والقوى الأمين ضعيف وخائن للمال العام .. وهكذا امتلأ العقل السوداني بالحقائق وأضدادها في ذات الوقت وذات الحيز ، مجسداً ما يسمي في علم النفس بالامبيفلانس وهو تناقض الوجدان ، وذلك ما يفسر بالضبط حالة التشويش عند خلف الله ، بطل الرواية ، في حركاته وكل سكناته . فهو يعرف ولا يعرف في ذات الوقت وذات الحيز. ولما كانت النفوس تتشرب انفعالاتها ، من الجو العام سممت سنوات الإنقاذ الأولى وجدان الشعب السوداني ، وخربت مقدار ما لديه من تسامح اكتسبه من العديد من متصلات الأمكنة – الأزمنة السوداني حيث كان التصالح من تنوع الأعراق ، والثقافات والانتماءات ، فجاءت الإنقاذ لتبثه يومياً أهازيج القضاء على الآخر والفرح بإفنائه ، فتآكلت مساحة التسامح عند الشعب السوداني ، واستيقظت سخائم ، نفوس أوشك التدين الشعبي الصوفي على ترويضها ، فجنح بدوره لرفض الأخر .. وذلك ما يفسر بالضبط ضيق خلف الله ذرعاً بانتصار الفريق الذي يشجعه أخوه على فريقه هو ، ونيته بالدخول معه في عراك .... وعلى ذات النسق أطلقت توصيات المؤتمر الاقتصادي العنان للسوق الحر دون ضوابط ودون منافسة عادلة ، إذ أعفت منسوبيها من كل الكوابح وكبحت كل منشط اقتصادي لا يديره منسوبوها . وهكذا زاحم الحزب الحاكم بقية التجار وضيق عليهم الخناق حتى أزاحوهم من السوق فتكونت طبقة طفيلية من الأثرياء الجدد استفادت من تهاون الحزب الحاكم في ضبط المال العام ، فشاعت ثقافة التحايل والمراوغة والاستهبال في كل المعاملات التجارية صغيرها وكبيرها وهو ما شق طريقه لعقل خلف الله ... وهذا بالضبط ما يفسر جنوح خلف الله للتحايل والمراوغة والاستهبال مع ست الشاي . إذ عمد على أكل حقوقها ومراوغتها في رد حقوقها واستهباله لها في الاستدانة منها مرة أخرى وهو ذات سلوك فاعلي سوق المواسير. إذن ما خلف الله في حقيقة أمره إلا إنسان الإنقاذ... وهو الإنسان المشوش غير المتسامح المستهبل الذين هم صاغوه .. وهو ما استفاد المؤتمر الوطني من حالة تشويشه في الانتخابات الأخيرة... وهو ما يفسر بالضبط حالة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم باختيارهم . ولكن هل نترك خلف الله على حالته تلك، أم نمد له يد العون؟ وهو ما ننوي التصدي له في المقال القادم. adil tanad [[email protected]]