وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب صالح ومعضلة الهوية .. بقلم: حميد الخاقاني
نشر في سودانيل يوم 09 - 05 - 2012

هذه القراءةُ قُدِّمت، بصيغة مُوجَزة، في أمسية ثقافية أقامتها الجالية السودانية والنادي السوداني في برلين / ألمانيا، في 25/09/2011، بعنوان "الطيب صالح جسر بين الشرق والغرب"، شارك فيها باحثون وفنانون عرب وألمان.
حين سألني الصديق الكاتب والطبيب حامد فضل الله، داعياً إياي للمساهمة في احتفاء النادي السوداني والجالية السودانية معه بالطيب صالح، أجبته بأنني سآتي إليكم وكأنني آتٍ إلى أهلي.
وهؤلاء الأهل عرفتهم قبل أن أراهم وأختلط بالكثيرين منهم، ويُصبحَ لي منهم رفقةٌ وأصدقاء، سواء في مكاني الأول (العراق)، أو في المكان الثاني الذي صار، بمرور الأعوام، مكاناً أولاً (ألمانيا). هذا المكان، على جماله وانسانيته وحُسْن كرمِه، والكثيرِ الذي أخذ يربطني به، مما منحني إياه أو أخذه مني، ما يزال، حتى بعد اثنين وثلاثين عاماً، موطن غربة لم يُصبِح وطناً.
ما يزال جغرافيا مكانية وثقافية، ومكان عيشٍ كذلك، وليس روحاً تتلبس الغريب وتمتلكه مثلما هو المكان الأول، رغم أن ذاك المكان الأول لم يعد، هو الآخر، ما كان الغريب يعرفه، ويأوي إليه. تغيرت صورتُه وتشوَّهت عبر هذه الأزمان، فلا المدن فيه هي المدن، ولا الأنهار هي الأنهار، ولا الناس هم الناس، ولا النخلُ هو النخل، ولا الروح هي الروح. حتى السماء لم تعد فيه تلك السماء التي نعرف. بقيتِ الأسماءُ وغابتِ المُسَمَّياتُ غالباً. لم يحدث مثل هذا في أماكن أخرى، وبمثل هذا المدى، رغم الذي عاشته من تغيرات كبيرة، وما تزال.
أقدار الأمكنة، مدناً وبلداناً، أن تتعرض، كما الناس، للتغيير دائماً. تسعى إليه، وتفتح بواباتها له، أو يقتحم هو عليها عزلتها وانغلاقها. لكنها لا تفقد، في الحالين، روحها وعقلَها، وتعود بهما إلى كهوف الجهل والسُبات، بدعاوى الحفاظ على الهوية وخصوصيتها، إن كان من يتولى الأمرَ فيها ذا روح وعقل. في المكان الأول تغير الكثيرُ من الأشياء إلى ما لا يُبهِجُ، لكن المكان ظل يسكن الغريبَ والغريبُ يسكنه، حتى وهو ناءٍ عنه.
وحين لا يصبِح موطن الغربة وطناً، ويغدو الوطن الأول غربة، تلتبس في روح الغريب أسئلة الهوية وتشتد نزاعاتها.
هذه التجربة الوجودية الروحية والثقافية التي يعيشها المغتربون، سواء خارج أوطانهم أو حتى داخلها، بصيغ ودرجات شتى، كانت، وما تزال، موضوعاً لأعمال أدبية كثيرة، قديماً وحديثاً، في لغتنا وفي لغات غيرنا كذلك.
مثل هذه التجربة تناولها الطيب صالح في أكثر من عمل له، فالرجل قد كابدها بنفسه، وظلت الروح فيه موزَّعَة، حتى النهاية كما أرى، بين مكانين: الوطنِ الغربة، والغربةِ التي لم تُصبح وطناً.
الطيب صالح (1929 2009) كان أحد مداخلي المبكرة للسودان وأهله. وقبله، أو معه، أخذتني إلى السوادنيين وسودانهم كتاباتُ شعرائهم وقصاصيهم، ممن قرأت لهم في زمان، وعرفت بعضهم فيما تلا من زمان. جيلي عبد الرحمن في ديوانه (الجواد والسيف المكسور) كان أحد طرقي إلى هناك، قبل لقائي به عبر الصديق الشاعر حسب الشيخ جعفر، صاحبِه من سنوات الدراسة في (معهد غوركي للآداب) في موسكو. كان جَيْلي في زيارة قصيرة إلى بغداد، مطلع سبعينات القرن الماضي، حيث التقينا به في اتحاد الأدباء أولاً، لنقضيَ معه بعد ذلك، صحبةَ شعراء وكتاب عراقيين آخريين، ليالي بغدادية عذبة، حيث كانت بغداد بعض محطاته العابرة في اغترابه بين موسكو والجزائر، مثلما أذكر، آنذاك.
مدخلٌ آخر جميلٌ إلى السودان مرَّ عبر ديوان "غابة الأبنوس" وصاحبها صلاح أحمد ابراهيم، وكتابات أخرى له. وكانت قصائد تاج السر الحسن نوافذَ أخرى أطللتُ، من خلالها، على أحوال هذا البلد وناسه.
كما كان لي سبيلٌ خامسٌ إلى السودان، اصطحبني فيه إليه ما قرأته من كتابات حسن الطاهر زرّوق، ليتّسع هذا السبيل بعد معرفتي به، مطلع السبعينات الماضية، حين أتى بغداد وأقام فيها بعد الحفل الدموي الذي أقامه الحكمُ في السودان، حينذاك، للشيوعيين والديمقراطيين الآخرين، فقتل من قتلَ وسبى من سبى. وكان أن أنشبَ الطغيان مخالبَه وأنيابَه في أرواحَ سامية كثيرة، بينها أرواح عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ ورفقة آخرين لهما.
وقبل هذا السبيل كان لي، في هذا الشأن وغيره، طريق شعري آخر إلى السودان، هو محمد مفتاح الفيتوري الذي عاد، فيما بعدُ، لجذر والده الليبي. كنت قد بدأت بقراءة الفيتوري، والكتابة عنه، في وقت مبكر. وأُتيح لي أن عرفته، فيما بعد، وحاورته وصاحبته كلما أتى بغداد زائراً ومشاركاً في مهرجان شعري، أو مؤتمر ثقافي، حتى مغادرتي مكاني الأول ذاكَ نهاية السبعينات.
ولي أن أذكر مدخلاً شعرياً آخر أخذني إلى السودان وأهلها، ألا وهو شاعرها الشعبي، ونزيلُ سجونها، محجوب شريف الذي عرفته تالياً، هنا في ألمانيا، وغنيّنا الشعر معاً، بعضاً منه وبعضاً مني.
تعلمت من علاقتي بمن ذكرتُ من الأسماء ومنجزها الابداعي، وهو ما يصح، كذلك، على مبدعين آخرين من بلدان وثقافات أخرى، أن الأدب والأدباء، والفن والفنانين، والعلم والعلماء، خيرُ المداخل لبلدانهم وثقافاتها وناسها، فهم مداخلُ جمالٍ ومعرفةٍ، ومصادرُ إغناءٍ وسُمُوٍّ بأرواح وعقولِ من يقصدُ الوصلَ بتلك البلدان وأهلها، على الضدّ، تماماً، من كثيرين ممن يدّعون، أو ينتزعون، بأشكال شتى، تمثيلَ البلدان وشعوبها، من حكّامٍ وساسة و"مثقفين" يدورون في فلكِهم، إذ غالباً ما يكون هؤلاء مداخلَ قبحٍ وجهلٍ، وإفقارٍ وانحطاط، عقليةً وثقافية.
بين الأسماء التي ذكرتها وعرفت بعضها، وأصبحت لها أماكنها في ذاكرتي الأدبية والانسانية، يبرزُ "طيّبنا الصالحُ" بوابةً واسعةً يلِجُ الداخلُ منها إلى روح السودان الأصل، أي إلى عوالم ريفه السحري، بطبقاته الظاهرة والخفية، حتى لَيُمكِنُ القول بأنّ عمل الطيب القصصي والروائي هو، في جوهره، نوعٌ من سوسيولوجيا أدبية لمجتمع القرية السودانية بجغرافيّاته المختلفة: المكانية والاجتماعية والروحية على السواء.
يستقرئُ الطيب، عبر الغوص في أغوار هذا المجتمع، الواقعَ السوادني، وما يكتنزه من موروث ديني وثقافي، متقصّياً جذورَه المحلية والتاريخية، وما أتاه من خارجه القريب والبعيد معاً، وآثار ذلك كله في الظاهر من جسَد هذا الواقع، والمحجوب من روحه.
أول ما قرأتُ للطيب الصالح روايتَه المفاجأةَ (موسم الهجرة إلى الشمال). قرأتها مع ثلّة من الأصدقاء: القاص والروائي أحمد خلف، المسرحي الراحل نصر محمد راغب، والمثقف القتيل تحت التعذيب، فيما بعد، المحامي منهل نعمة المهدي، كما أذكر. كان من عادتنا أن نقرأ ونتحاور فيما نقرأ. نلتقي على أشياء ونختلف في أشياء أخرى. كان ذلك في 1966، عام نشر الرواية الأول في مجلة (حوار) اللبنانية، وحصولها على جائزتها في الرواية. نشرت (حوار) أيضاً، عام 1967، رواية الطيب الأخرى (عرس الزين) التي لا تقل أهمية، في رأيي، عن (موسم الهجرة)، وقد تفوقها في نواح غير قليلة.
أذكرُ أننا عثرنا على عدد (حوار) ذاك، ظهيرةَ يومٍ ما، في "بَسْطةِ" كتبٍ على رصيفٍ بعد (مقهى البرازيلية) في شارع الرشيد الذي لحقه الخراب هو أيضاً في التالي من السنين.
كنا في بداية مشوارنا الأدبي (أحمد سبقنا إليه). بعضُنا نشرَ قصةً أو قصتين، أو قصيدة ما، في هذه المجلة أو تلك، وبعضنا لم ينشر شيئاً بعدُ.
كانت (الموسم)، في حينها، بالنسبة لنا، كما لكثيرين سوانا، كشفاً جديداً في السرد الروائي العربي. فاجأت الكتاب والقراء، على السواء، بذهابها إلى اشتغال مختلف، لغةً وتركيباً، على موضوعة قديمة جديدة هي : صدمة اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب.
وهي موضوعة سبق أنْ تناولها كتابٌ كثيرون، ذهبوا فيها مذاهب متباينة. بينهم توفيق الحكيم في (عصفور من الشرق) عامَ 1938، ويحيى حقي في (قنديل أم هاشم) عام 1944 ، وسهيل إدريس في (الحي اللاتيني) عام 1954. فرادةُ (موسم الهجرة إلى الشمال) بين ما سبقها من أعمال أدبية، وما تلاها، حتى اللحظة، أنها مضت إلى كشف المحجوب والخفي في دواخل شخوصها، وفينا، نحن قراءها، بالتالي، ورؤية المألوف لنا، أو ما نخالُه مألوفاً، بما لم نعتد رؤيته من خلاله، والخروج، في النهاية، بعلاقات الشخوص، وما انطوت عليه من إشكالات وتناقضات ومآسٍ، من حدودها الروائية إلى أفقها الدلالي حضارياً وانسانياً. حتى الأمكنة التي تتحرك فيها أحداث الرواية وشخوصُها ومناخاتها لم تحظَ في (الموسم) بالمدى الذي أخذته في الأعمال الأخرى، أو في الرواية الواقعية عموماً، بمختلف مراحلها وأشكالها. يأتي المكان ومناخاته، في رواية الطيب هذه، بمقدار صلتهما بهواجس شخوص الرواية (مصطفى سعيد والراوي خاصة) وأفكارها وأحوالها الروحية، وما ترمز إليه منها. كما أن الطيبَ لم يُعنَ برسم صور شخوصه، وتحديد ملامحهم، بواقعية، مثلما درج عليه الكتاب الآخرون قبله. هواجس هؤلاء الشخوص، أحلامهم، تحولاتهم الروحية وأحوالهم، وآثار ما يكابدونه من تجارب، هي ما يرسم صورَهم، ويكشف عن ملامحهم في (الموسم).
ولعل في هذا كله ما يفسر، في تقديري، حيويةَ الرواية، وقراءاتها المتجددة على الدوام، سواء في لغتها الأم، أوفي لغات عالمية حية نُقِلَتْ إليها. حدثَ أن قرأت مع طلبة (معهد الاستشراق) في جامعة مارتن لوثر الألمانية، حيث أُدرِّس، روايةَ الطيّب هذه. إخترتها مع روايات عربية أخرى لتكون مادة قراءة وبحث وترجمة وتحليل في حلقتين دراسيتين، وفي فصلين دراسيين متباعديْن زمنياً. كانت الحلقةُ الدراسية الأولى (السَمينار) عن (تاريخ الرواية العربية وتطورها)، والثانية حول (إشكالية الهوية في رواية عصر ما بعد الكولونيالية). وقد أدهشني إقبال الطلبة الألمان، في الحلقتين كلتيهما، على قراءة (موسم الهجرة للشمال) بلغتها الأصلية، وترجمة مقاطع منها، وتحليلها. غير قليل منهم اختار أن يكتب بحثه السنوي (ليس أقلَّ من 30 صفحة في العادة) عنها. والتحق في الحلقتين، في حينها، بعض طلبة (علم الاجتماع) من المعنيين بدراسة المجتمعات الإفريقية.
كلُّ ما اكتنزت عليه (الموسم) من كشفٍ ورؤية، وخروج دلالي، صيغ بلغة وتركيب روائيين يتواشج فيهما المحسوس باللامحسوس، والواقعي بالسحري، والحاضر بالماضي، دونما بنيةٍ سردية مصطنَعَة التعقيد، ودونما انشغالٍ بتفاصيل لا ضرورةَ لها في بنيةِ العمل الفني، ولا معنىً، ودونما إغفال لتفاصيلَ لا تكتمل فكرة الرواية، ولا مشاهد القص وأبعادها الرمزية دونها.
لم يجانبِ الناقد، السوري الأصل، جورج طرابيشي الصوابَ هنا، حين وصف رواية الطيب هذه بِ"تلك القلعة من الرموز" (شرق وغرب، رجولة وأنوثة 1977، ص 143).
لقد اجتمع ل(موسم الهجرة إلى الشمال)، وفيها، كلُّ ما حدا بالشاعر الفلسطيني الأصل توفيق صائغ (1923 1971)، ناشرها الأول، إلى الفخر بنشرها والتأكيد على أنها، مثلما كتب إلى الطيّب في حينها، وفي رسائل متبادلة بينهما، قام بتحقيقها مؤخراً الكاتب محمود شريح (رسائل توفيق صائغ والطيب صالح)، قائلاً: "ستكون قنبلةً أدبية حين تظهر". وذكر له بعد نشرها "أن الأدباء والقراء يتحدثون عنها كما لا يتحدثون عن عمل قصصي عربي".
وهذا الذي اجتمع للرواية وفيها، هو نفسُه ما أخذ شاعراً مثل السوري محمد الماغوط (1934 2006) إلى وصفها "بالفريدة"، وقوله عنها "إنها عمل خارق، وكائنٌ لا مثيلَ لنظرته وحيويته بين عشرات السنين من الطروح الأدبية في بلادنا".
لكنّ هذا العمل الفني الخارق أثار حفيظةَ "حراس" الأخلاق الكَذَبَة، من أهل ثقافة الاتباع والتقليد، رغم أن الناشرَ الصائغ كان قد حذف اثني عشَرَ سطراً منه، رأى أنها قد تستفز حساسيةَ نظام الرقابة العربي. لكن هذا الحذفَ ظل دون جدوى، فمُنِعَت الرواية في بعض أقطار العرب، آنذاك، وصودرت أعدادها بدعوى أنها "تتضمن ألفاظاً وعبارات تتنافى مع الآداب العامة".
هل كان "حراس" الأخلاق أولئك، أو من ورثنا بعدهم، إلى يومنا هذا، ورعينَ، تُقاةً حقاً، بحيث لا تكاد تجدُ "الآداب العامة" و"التقاليد" ظلالاً تستظل بها إلا مخادعهم؟!
كان صاحب الرواية يحمل هاجسَ المنع هذا، فهو يعرف مجتمعاتنا، ويدرك أن العقليةَ التقليدية السائدة فيها هي عقليةُ منعٍ وقمعٍ، ولذا حملت الرسائل المتبادلةُ كتابةً منه لناشره، وقتَها، يقول فيها: "لا أخفي عليك أنني كنت أوطِّنُ نفسي لمواجهة حملة من الجهات المتزمتة، وكنت أُحسُّ أن "بنت مجذوب" ستسبب لي صداعاً شديداً".
من قرأ الروايةَ منّا يعرف من هي "بنت مجذوب" هذه، ولماذا يُمكن لها أن تُسبب مثلَ هذا الصداع. أذكر أننا، ثُلة الأصدقاء تلك، قد انتابنا مثلُ هذا الصداع في حينها، لكنه كان صداعا، من نوع آخر، لذيذاً. قبل يومين، وأنا أعيد قراءة الرواية كي أصوغ مساهمتي هذه، عادت "بنت مجذوب" لتمنحني بركاتِ صداعها اللذيذ هذا من جديد. وقد آثرتُ أن أتقاسمَ هذه البركات ولذتها مع صديق سوداني، قريب إلى نفسي، هو الدكتور بدر الدين مختار، فاتصلت به، في ساعة متأخرة من الليل، كي أقرأ له بعضاً من "بركات" يعرفها، يُمكننا بعدها أن نمضي إلى أسرَّتنا طاهرين، مُطمئنين.
ينقلُ الباحث محمود شريح (صحيفة الحياة، في 23/02/2010) عن الطيب صالح أنه سعى في روايته إلى جعلها مدار صراع بين قطبين: الأِيروس والموت. لكن الصراع الذي قصده الكاتب، وحققه في عمله الروائي هذا، في النهاية، انطوى على مدار آخر، رمزي هذه المرة، طغى على ما سعى إليه الطيب في الظاهر. ألم يكن (إيروس) في أصله الميثولوجي اليوناني رمزاً هو الآخر؟
هذا المدار الآخر هو صدمة اللقاء بالآخر، المختلف حضارياً واجتماعياً، وما يصحبها وينجمُ عنها من اشكاليات وتحولات.
وهو ما أخذ غالبية من كتب عن الرواية من النقاد، عرباً وغير عرب، إلى أن يروا فيها مقاربةً هامةً في طرح اشكالية العلاقة بين الشرق والغرب. صدمةُ اللقاء هذه تحمل معها اشكاليةَ الهوية دائماً.
لقد أصاب، في تقديري، من رأى أن شرقنا العربي لم يبدأ بطرح سؤال الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية، نقدياً، إلا بعد تلك الصدمة التي أتت بها حملة نابليون على مصر نهاية القرن السابع عشر (1798)، وهو ما يشير إلى حقيقة أنَّ كلَّ لقاء بالآخر، أياً كان هذا الآخر، فاتحاً، عقيدة، ثقافة، شخصاً، جماعةً، مجتمعاً آخر، كتاباً، لوحةً، أو أي عمل فني كان، حتى فنون العمارة والصناعات، والسعي لمعرفته، إنما هو منطلَق لإثارة التساؤل والتأمل الفكريَيْن في أحوال الفرد ومجتمعه وثقافته، والسعي لمعرفة الذات الفردية والجمعية ومواطن الخلل فيهما، في الوقت نفسه، وبصورة أفضل من ذي قبل. وفي مثل هذه الحالة تصبح صدمة اللقاء تلكَ لحظةَ يقظة وتنوير وإغناء متبادَل بدرجة ما، للثقافات والهويات والمجتمعات أيضاً.
ومثل هذه اللحظات تأتي معها بأحوال فُقدانٍ كذلك. الشكُّ في القديم البالي، وفي كل ما يعيق تطور الناس والمجتمعات ويحول دون انطلاقها، ووضعُه موضع تساؤلٍ، ومحاولة مغادرته، ذلك كله نوع من فقدانٍ تضطرب له أرواح الكثيرين، وقد لا تُقدمُ عليه عقولُهم بسهولة ويُسْر. فمن العادة أن يشُقُّ على الناس، أو أكثريتهم في البدء، أن يتخلّوا عما كان حتى ساعة الصدمة تلكَ عالمَهم الذي ورثوه عن الأجداد والآباء، وسكنوه مُطمئنين لسكونه وخموله، معتادين عليهما، غيرَ مدركين بأن مغادرةَ مثل هذا العالم كَسْبٌ لا فقدان!
وصدمة اللقاء بالآخر، المتفوق خاصة، تنطوي على تناقضين حادين: حبّ معرفة هذا الآخر، واكتشاف عناصر تفوقه، ومحاولة اكتسابها من جانب، والحقد عليه من جانب آخر، بوصفه غازياً، غريباً، صاحبَ دين آخر وثقافة أخرى، أو حتى لأنه متفوقٌ، أحياناً.
ألم يكن (مصطفى سعيد)، بطل رواية الطيب صالح، مسكوناً، حتى أصغر خلية فيه، بهذين النقيضين المتواشجين ببعضهما: حب معرفة الآخر واكتشافه، وحتى امتلاكه، والحقد عليه حدَّ تدميره أيضاً؟. نقيضان تمَّحي الحدود بينهما لديه، ولدى مبتغاه المنشود وخصمه الذي أذلّه زمناً، وتمثّل له بشخصية (جين مورس)، كذلك. تلك الأنثى التي قال عنها بأنها "ساحل الهلاك" الذي رست عنده سفائنه في النهاية.
لم يكن (إيروس) لدى افلاطون (328 448، قبل الميلاد) إلهَ الحب (آمور في اللاتينية)، أو الحب الجسدي فحسبُ، أي منبع الإنجاب، ومواصلة النسل البشري تحديداً، أي مواصلة الحياة. كما لم يكن عنده مثلما كان لدى هزيود، الشاعر اليوناني القديم (القرن الثامن/ السابع قبل الميلاد)، حين رأى في مؤلَّفه عن أنساب آلهة الميثولوجيا اليونانية وشخوصها، أن (إيروس)، سويةً مع (غايا/الأرض) و(فوضى اختلاط العناصر)، يمثّل الأجمل بين ثالوث الآلهة هذه، التي لا تنفى، والتي ترمز لأصل الخلق.
لقد سما أفلاطون بِ(إيروس)، كما تشير (حلقات) دروسه الفلسفية، ورأى فيه تجسيداً لشهوة النزوع إلى المعرفة الفلسفية، وإنجاب الجمال، فجمع في (إيروسه) شهوةَ المعرفة إلى شهوة الخلق الجميل.
لا أدري إن كان الطيّب صالح قد عرف (إيروس) الافلاطوني هذا، أم لا. لكنه، وبمعزل عن هذا الأمر، قدم لنا، في النهاية، بطلاً إيروسياً بهذا المعنى، كما أعتقد. يتملَّكه نزوعٌ شديد إلى المعرفة، معرفة الآخر وثقافته خاصة. وتجتاحه شهوة إقامة الجسور بين جنوبه وشمال الآخر، الكولونيالي، عبر نساء هذا الآخر. وما إقامة مثل هذه الجسور سوى نوعٍ آخر من الخلق. لكنه خلقٌ تعكرت مياهه بعُقَد اغترابٍ مُركَّب : كولونيالي ووطني.، وتقاطعت فيه سمات ثقافة بطرياركية (ذكورية) شرقية، ترى في الأنثى، عموماً، وكما تشير مقولاتها وممارسات أهلها، صيداً للرجل، وموضوعاً لشهوته، وخادماً له، ووعاءً لإنجاب ذرية تحمل اسمه.
في حوار معه، أجراه في القاهرة، سيد محمود، ونشره في (الحياة) في الرابع من إبريل/نيسان 2005، يشير الطيب إلى اشكالية الهوية بقوله: "عندما تسألني عن مفهومي للهوية أُفضِّل أن أفصلَ نفسي عن الأشياء. ومن ثم لا تؤرقني قضيةُ من أنا، وقد يُلِحُّ هذا السؤال أثناء الكتابة فقط".
ألا يُمكن أن يعني الطيبُ هنا، أن الهويةَ ليست شيئاً صخرياً ثابتاً، وإنما هي، كما الحياة، متحركة، متغيرة، تأخذ من غيرها وتعطي لغيرها، على الدوام؟ والمتفوق يعطي، في الغالب، أكثر مما يأخذ.
نسبية الهوية هذه عبّر عنها الطيّبُ، مرة، بصورة غير مباشرة، حين قال، في حواره مع سيد محمود، عن اسمه بأنه ليس بالضرورة "طيّباً" ولا "صالحاً".
يجدرُ أن نذكرَ، في هذا السياق، أن الطيب صالح لم يوصِ، قاصداً ربما، أين يُوارى جثمانه الثرى. في لندن، حيث نصفُه الانجليزي مكاناً وثقافة، وعائلةً (زوجته الانجليزية وبناته)، أم في السودان، نصفِه الآخر: مكانا وثقافة وأهلاً كذلك.
يبدو أن الأمر لم يشغله هنا أيضاً، مثلما لم تؤرّقه قضية: من أنا. هل كان يشير بهذا، إلى أنه في المكانين، وليس فيهما كذلك؟
أعيد جثمانه إلى السودان لرغبة نصفه السوادني، وتفَضُّلِ زوجته وبناته بتلبيةِ هذه الرغبة.
في نص آخر له، نُشِرَ في (الحياة) كذلك قبل خمسةَ عشر عاما بعنوان (ملامح من سيرة ذاتية)، يذكر الطيب: "كنت أكتب دائماً تحت ضغط إقامة جسر مع بيئتي الأصلية". وقبل هذا بثلاثين عاما تقريباً، يذكر في رسالة بعثها إلى توفيق صائغ، من لندن، مؤرَّخَة في 15/09/1967، قائلاً: "أما أنا فإنني ما أزال معلَّقاً بين السودان وهنا".
إذن فالكتابةُ جسرُ الغريب المُعلَّق بين مكانين وثقافتين، يصلُ الكاتبَ ببيئته الأولى، ويُعينه على استعادتها روحياً، لكنه في الوقت نفسه، وكما هو حال الجسور دائماً، يمتد بين ضَفَّتَين، وينفتح على مكانين وعالمين مختلفين، أصبح لكل منهما مكانه في ذاكرة الكاتب وروحه ورؤاه، وصار الإثنان يُشكّلان هويتَه.
وعلى أن قضية من أنا لا تؤرق الطيب إلا أثناء الكتابة، لأنه، وكما ذكرت الناقدة اللبنانية المعروفة يمنى العيد، في شهادة قدمتها عنه في الخرطوم في شباط من هذا العام، ينطوي على انسانية ترى في الفروقات دعائم للتلاقي، ويكون للهوية فيها معنى القبول والاختلاف، ويُفضي الاعتزاز بالأنا إلى احترام الآخر، لكن العالمَيْن اللذين يمتد جسر كتابته بينهما يظلان يتنازعانه، على الدوام، يجدُ نفسه فيهما، ولا يجدها في الآن ذاته.
قبل أكثر ما يزيد على الألف عام كتب أبو حيان التوحيدي (ت. 414 للهجرة)، أحد أبرز أهل ثقافتنا ومغتربيها كذلك، في كتابه (الاشارات الألهية، ص 80 83)، من بين ما كتب عن حالين من الغربة والاغتراب، لهما صلةٌ بموضوعنا هذا، كما أرى.
يصف أبو حيان الغريبَ بين أهله وفي وطنه، ولعله يقصد نفسه أيضاً، فيقول: "أين أنت من غريب قد طالت غربتُه في وطنه، وقلَّ حظُّه من حبيبه وسكنه؟".
الغربة الأخرى التي تشغَل أبا حيان هي غربة الغريب بعيداً عن المكان الأول، فنراه يتساءل عنها قائلا: "وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟".
حالتا الفقدان هاتان في المكانين: الوطن الأصل/ وموطن الاغتراب الذي لا تستوطنه روح الغريب، تشيران إلى اشكالية العلاقة بالأمكنة وثقافتها وموروثاتها وأهلها. وهي اشكالية روحية وفكرية، واشكالية هوية في الوقت نفسه، يكابدها الكثير من الناس، المثقفين خاصة، وفي البلدان والثقافات والأزمنة جميعها.
تتجلّى هذه الاشكالية في (موسم الهجرة إلى الشمال)، كما أرى، من خلال ثلاثة خطوط ومستويات رئيسية، تتوازى وتتقاطع في بنية سردية متفردة، دون إغفال خطوط ثانوية أخرى، تظل ضرورية لإضاءة العلاقة بين الخطوط الرئيسية الثلاثة وتناقضاتها، سواء اقتربت هذه لبعضها البعض حدَّ الاندغام، أو ابتعدت عن بعضها البعض حدَّ الكره والصدام والموت.
الخطوط الرئيسية الثلاثة هذه يتجسد أولُها، في تقديري، بمصطفى سعيد، الشخصية المحورية في الرواية. ويتمثّل ثانيها بالراوي الذي حصل على شهادة الدكتوراه، من بريطانيا كذلك، عن بحث قدمه عن شاعر انجليزي مغمور، وأصبح الشاهد على تاريخ مصطفى سعيد، والوصيَّ على إرثه.
أما الخط الثالث فهوالمكان منقسماً إلى مكانين: "جنوب يحن إلى الشمال والصقيع"(موسم الهجرة إلى الشمال، ط 14، ص 34)، وشمالٌ يتوق إلى لهب الجنوب، وترمز إليه إناثٌ "تحِنُّ إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية، وآفاق ارجوانية" (ص 34).
وسودان مصطفى سعيد وراويه شمالٌ وجنوب هو الآخر، التقيا ولم يلتقيا، في النهاية. وهذا السودان مكان التقت فيه، وما تزال، أقوام وديانات، وثقافات وحضارات وتواريخ وأجناس ولغات مختلفة، نشأ بعضها فيه، ووفد بعضها إليه من خارجه. فهو إذن موطن هوياتٍ تتفاعل وتتصارع، وتُخلِّفُ، بالتالي، آثارها على أهله، خيراً تارة، وشروراً تاراتٍ أخرى.
ومصطفى سعيد نتاج هذا المكان والتباسِ الهويات فيه. رأى الدنيا في اليوم الذي دخلت فيه جيوش الكولونياليين الأنجليز بلاده، وقضى صباه في ظل سيطرتهم هناك، مما أتى له باغتراب مضافٍ لاغترابه الأصل، أو أزمةِ هويته الأولى.
فهو طفل لأب من شمال السودان مات قبل ولادة فتاهُ ببضعة شهور، وأُمٍّ من الجنوب، لا يرى فتاها أن لوجهها لوناً واحداً.
كانت، كما يقول هو عنها: "كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق. لعلني كنت مخلوقاً غريباً، أو لعل أمي كانت غريبة. لا أدري" (ص 23).
أمٌ جنوبية في شمال قريب بعيد. مُفردَةٌ فيه دون من أتى بها إليه. حالةُ غربتها وغرابتها أوصلتها لحال لم تعد تقوى فيه على الابتسام. حتى وداعها لوحيدها الغريب عنها خلا من الدموع والقُبَل، فكأنهما "مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً، ثم سلك كلٌّ منهما سبيلَه" (ص 27). وبعد هذه اللحظة غابت إلى الأبد. لم يذكرها الإبنُ، ولم يُشر إليها الكاتبُ أيضاً.
الإثنان، في الحقيقة، غريبان، مغتربان. الأم غريبة مغتربة لجنوبيتها، والإبن غريب مغتربٌ لفقدانه هويته الشمالية برحيل الأب، فلا هو جنوب، ولا هو شمال، فضلاً عن اغترابه لوجود المستعمر الغريب في سودانه الذي ليس هو سودانه كذلك. فهما إذن فردان لا أهل لهما. غريبان في محيطهما (وطنهما!) وغريبان عن بعضهما. غربتان إحداهما أشد قسوة من صاحبتها.
الإثنان، بشكلٍ ما، جنوبٌ ينطفئ بشمال. شمال قريب وشمال بعيد.
وهكذا نشأ الفتى دون أن يكون ثمة مخلوق، أب أو أم، يربطه كالوتد إلى بقعة أو محيط مُعين. وتتجلى حالةُ التيه هذه، وتراجيديتها، في نظرة أقرانه في المدرسة الابتدائية له. كانوا يصفونه، في خليط من الإعجاب بذكائه، والحقد على هذا الذكاء أيضاً، ب"الانجليزي الأسود" (ص 56). أية هوية ملتبسة هذه : انجليزي وأسود؟!. ألم يكن أقرانه الشماليون هؤلاء ذوي بشرة سوداء مثله، حتى لو كانت أقل سواداً من بشرته هو؟ أم أنهم يقصدون بسواده الفاحم سوادَ (العبدِ) الجنوبي الذي لا قدرَ آخر له سوى أن يكون عبداً رقيقاً؟
أحوال اغترابه هذه أثارت عنده، في النهاية، رغبةَ أن يصرخ : "هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنه وهم، أكذبوبة. وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة" (ص 36).
وأحوال الاغتراب المركَّبة هذه هي التي جعلته، بعد أن غادر السودان باتجاه القاهرة لمواصلة الدراسة، يرى في البلدان والمدن التي يُقيم فيها، ثم يُخلِّفها وراءه، فيما بعد، أشبه بجبال يضرب خيمته عندها في الليل، وفي الصباح يقلع الأوتاد ويُسرِج بعيره مواصلاً رحلة تيهِه.
حتى لندن التي قاده إليها نداءٌ غريب، كما يقول، لم تبدُ له غيرَ جبل آخر، أكبرَ من القاهرة، لا يدري كم ليلة يمكث عنده.
مصطفى سعيد، مثلما يقول الراوي عنه، رجلٌ "أفرد أشرعته وضرب في عرض البحر وراء سراب أجنبي" (ص 96).
ومصطفى سعيد، كما يقول عنه أحد أساتذته الإنجليز: "إنسان نبيلٌ، استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطَّمت قلبه" (ص 36).
ومصطفى سعيد، مثلما قال استاذ آخر له، في اكسفورد، وفي تبرُّمٍ واضح: "أنت يا مستر سعيد خيرُ مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمةُ الجدوى، فأنت، بعد كلِّ المجهودات التي بذلناها في تثقيفك، كأنك تخرج من الغابة لأول مرة"
(ص 96 97).
هذه التوصيفات، على اختلاف مصادرها ودوافعها، إشارة إلى حالة غريب وصل المكان الآخر، ولم يصله. لقد استوعب حضارة هذا الآخر. كتب وحاضرَ في لغته، وحفظ شعر شعرائه المعروفين وتغنّى به. واكتظت مكتبته بمؤلفات فلاسفته وعلمائه وأدبائه وموسيقييه الكبار، وكان له أصدقاء وعشيقات هناك ، لكن ذلك كله لم يُسْعِفْه في عبور اغترابه واستيطان الثقافة والمكان اللذين ظلَّ يسوقه إليهما "نداء مُبْهَم"، كما يقول.
الفشل في الوصول إلى "الاستيطان الروحي" هنا، كان قد سبقه، كما رأينا، فشلٌ في العثور على مثل هذا (الاستيطان) في المكان الأول. وهو فقدان ظل يصاحب صاحبنا حتى بعد عودته لما يُفترَض أن يكون مكانه الأول (السودان). فالقرية النائية التي أتاها طالباً راحة البال، وهدأةَ الروح، لم يجد فيها طِلْبته. جاء إليها غريباً، وعاش فيها غريباً، وغاب فيها، أو عنها، على نحوٍ غامض وغريب. وفي النهاية "لم يجد حتى قبراً يريح جسده، في هذا القطر الممتد مليون ميل مربع" (ص 58).
لا شمال الأرض (الغرب) صار له وطناً، ولا شمال الوطن (السودان) كان، أو أصبح، هو الآخر، وطناً له.
غريبنا الآخر، أبو حيان التوحيدي، قال في (الإشارات) ما يُمكن أن يكون وصفاً لحال مصطفانا التعيس هذا، وأحوال كثيرين غيره. يقول التوحيدي : "وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربه" (ص 83). مصطفى سعيد كان غريبا في وطنه، وظل بعيداً في المكان الذي سعى إليه، وأراد له أن يكون محلَّ قربه.
هاجر مصطفى سعيد من مكانه الأول (الخط الثالث) إلى الشمال وصقيعه، حاملاً معه ذلك المكان ذاكرةً ورموزاً، تحفل بها روحه ومخيلته صوراً وحكايات يختلط فيها الواقع بالخيال، والحب بالكره، وتزدحم بها غرفته، حيث السجاد الفارسي الدافئ، ومخدات ريش النعام، وتماثيل العاج، وعبق رائحة الصندل المحروق والند، والعطور الشرقية النفاذة.
هذا المكان الذي تشرق فيه شموس استوائية يقف، بدلالاته الرمزية، في موازاة ضباب المكان الآخر وصقيعه. لكن ذاكرة المكان الأول وموجوداته لم تصبح لدى مصطفى سعيد، على نقيض راويه، قلعةً تُعيق نهمَه في اكتشاف المكان الثاني وولوج عوالمه.
إلا أن نهَمَ الاكتشاف الشَرهِ هذا كانت تطل عليه، بين حين وحين، ذاكرة روح موجوعة تاريخياً، يتردد في زواياها "صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرضَ النيل، أول مرة، تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل" (ص 97 98).
أعرف أن الطيب صالح يشاطر بطله الرأي في أن الغزاة الغرباء هم من أتوا لنا بجرثومة هذا العنف. منتصف التسعينات حضرت له ندوة في كاليري (الكوفة)، في لندن، صحبةَ الصديق الشاعر والباحث حسين الهندواي، أشار فيها إلى أننا أناس بسطاء (السودانيون والعرب عموما)، لم نبتَل بالعنف إلا من خلال الغرب وأيديولوجياته.
من المعروف، بالطبع، أن عنفاً كبيراً صدر عن هذا الغرب، عبر تاريخه كله، في الماضي والحاضر، وطال شعوباً كثيرة، نحن منها، وما يزال. ولست أشك أن عنفاً سيصدرُ عنه في المستقبل كذلك. لكننا، شأن أمم الدنيا الأخرى، لنا تاريخنا في العنف أيضاً، إزاء بعضنا البعض، وإزاء غيرنا كذلك. وتاريخ العنف عندنا، مثلما هو عند غيرنا، عريق، قديم، ومتواصلٌ كذلك. وعي هذه الحقيقة ومواجهتها لا يلغي سؤالَ : من أين أتانا هذا العنف وأهلُه؟، لكنه يجعل الإجابة عليه أكثر وضوحاً وجدوى، كما أرى.
لقد تجاورَ لدى مصطفى سعيد حنينُ الجنوب للشمال، وهو حنين معرفي أصلاً، حنين الاكتشاف، مع حالة المنكسر المهزوم، يصرخ في ديار المنتصرين قائلاً : "أنا الغازي الذي جاء من الجنوب، وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجياً" (ص 162).
نطق صاحب الحنين بصرخته هذه لحظةَ الوصال، الذي طال انتظاره، بجين مورس. لحظة الفتح، أو ما يراه ربيب المجتمعات الذكورية فتحاً!
لقد شكَّل الطيب صالح عوالم بطله، ومكابداته الروحية، وتجاربه، بأدوات الروائي الحاذق ومنطقه الفني المؤَسَّس على منطق الحدث الروائي وحركته، ليصل بقطبية : الإيروس والموت إلى نهايتها، والتي جسَّدها مقتل جين مورس في أحضان مصطفى سعيد، وهي تقول له " أحبك ياحبيبي، وهو يقول لها : أحبك ياحبيبتي. "والكون بماضيه وحاضره ومستقبله اجتمع في نقطة واحدة ليس قبلها ولا بعدها شيئ" (ص 167).
هذه القطبية، كما ظهرت في (موسم الهجرة إلى الشمال) لم تكن، في النهاية، كما أعتقد، إلا تعبيراً عن لقاء طبائع وثقافات وهويات متباينة ومتناقضة وصدامها، لكنها، مثلما جسّدها لقاء مصطفى وجين، لا سبيل لها، رغم ذلك كله، غير أن تتواصل وتتكامل مع بعضها البعض، فتبدو، عندها، متعةُ تحطيم النقيض متعةَ تواصلٍ معه، في الآن ذاته.
هل أراد الطيب صالح أن يقول لنا، بهذا، أن الهويةَ تغدو هاويةً إذا ما أصبحت سجناً لأهلها؟ ألا يرمز هذا إلى حقيقة أن الهويات لا يمكن لها أن تنشأ وتتشكل، وتتطور، في أمكنة معزولة ومغلقة، دون أي تلاقح مع الثقافات والهويات الأخرى، بالتالي؟ لم يحدث أن اكتفت ثقافة، أو هوية، بنفسها، وتطورت بمعزل عن الآخر، القريب والبعيد على السواء. لم يحدث هذا حتى في الأزمنة البعيدة، حين لم تكن الثقافات والحضارات مفتوحة على بعضها البعض، كما هو حالها اليوم.
الهويات سيرورةٌ يُعاد تشكيلها باستمرار. عمليةٌ لا تكاد تتوقف، وهي في عصرنا هذا أشد وضوحاً من أي زمان مضى.
غادر الرواي (الخط الثاني) مكانه الأول، أي مجاز الهوية في حالتها الأولى، وكأنه لم يغادره أبداً. ظل يحمله معه، ويُمعنُ في استحضاره، حتى تعودت أذُناه سماع أصوات أهله هناك، في المكان الثاني، وصارت عيناه تألف أشكالهم فيه من كثرة ما فكَّر بهم في الغيبة، فنراه يقول : "سبعة أعوام وأنا أحنُّ إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظةً عجيبة أن وجدتني حقيقةً قائماً بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زماناً في بلاد تموت من البرد حيتانُها" (ص 5).
المكان الأول حاضر، هنا، بمحمولاته الثقافية والاجتماعية، في المكان الثاني، حتى بدا وكأنه قلعة يحتمي الراوي خلف أبراجها، كي لا يعيش حالةَ فقدان في غربة السنوات السبع تلك. وقد خامره إحساسٌ، وهو إحساس خادع كما سيكتشف هو، بأنه ليس ريشة في مهب الريح، وإنما مخلوق له أصلٌ وجذور وهدف مثل تلك النخلة السامقة في فناء دار جدّه.
لكن يقين الرواي بأنه عاش مع الأوربيين على السطح، وهو يطوي ضلوعه على قريته الصغيرة، سرعان ما أخذ في الاهتزاز عقبَ لقائه بمصطفى سعيد، واكتشافه تجاربَه في مكان اغترابهما المشترك، وتقصّيه لجذور حياته وأغوارها.
بدأت الأشياء تتغير فيه، وأصبح يتماهى مع صورة مصطفى سعيد في المرآة، يرى وجهه في وجهه، وكأنه أخذ يتحسس ما تسرَّب إليه من المكان الثاني، طوال تلك السنوات السبع، وظل كامناً في لاوعيه دون أن يدري. حتى علاقته الأثيرة بالجد، أحد منابع الهوية فيه، أصبحت، كما يقول، جسراً يقوم بينه وبين اللحظة القلقة التي لم تتشكل بعد.
ذهب اليقين الحجري لتحل أسئلة الشك محله : "هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة، فهل أنا أيضاً أكذوبة؟ إنني من هنا. أليست هذه حقيقة كافية؟" (ص 52).
وما إن أتت تلك اللحظة التي شعر فيها أنه يبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد حتى أخذت اشكالية الهوية التي تراكمت عناصرها في أعماقه، إبان سنوات الغيبة السبع، في الاستيقاظ.
في ختام الرواية نراه يدخل النهر عارياً، كما ولدته أمه، تماما مثلما نزل مصطفى النهر، آخر مرة، وغاب. ظلَّ الراوي يسبح ويسبح، وقد استقر عزمُه على بلوغ الشاطئ الشمالي، حيث نسمعه يقول : "تلفَّت يمنةً ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المُضيَّ، ولن أستطيع العودة" (ص 169).
في النهاية يخرج من الماء الذي طفا فوقه، دون أن يشعر أنه جزء منه، ويختار مواصلة الحياة بين من أحبَّ أن يبقى معهم أطول وقت ممكن، دون أن يعنيه إن كان لهذه الحياة معنىً أو لم يكن.
تغير الراوي وتغيرت نظرته للأشياء، ولم تعد البساطة القروية، عنده، هي كل شيئ، في النهاية.
أرى أن (موسم الهجرة إلى الشمال)، في جانب أساسي منها، بحثٌ روائي في طبائع الغريب وإشكالية الهوية فيه، في مرحلة تاريخية محددة، وعبر نموذج بعينه (مصطفى سعيد). هذا البحث الروائي عكف الطيب صالح على صياغته بلغة فنية عالية، تستبطن وعي الغريب ولا وعيه، ومواجعه الروحية، بأصواتها المتعددة ومظاهر تجلِّيها، وتدعها تنطق بما فيها، حتى في مواقف صمتها.
بعد رحيله الأبدي إلى اللامكان عاد الطيب صالح إلى المكان الأول : السودان، ليجد فيه، على عكس صاحبه (مصطفى سعيد)، بقعةً يريح فيها جسده. ولكن، يا تُرى، هل عاد حقاً؟
Hamid Fadlalla [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.